حتى اليوم مازال الذهاب إلى غوطة دمشق يمنحك إحساساً باستمرار الحرب وعدم انتهائها، رغم أن تبادل إطلاق النار توقف منذ سنوات ودخل الجيش السوري وفرض سيطرته، لكن لم يخرج الحزن من قلوب الناس هناك ولا الخوف اليومي من مستقبل ضبابي غير واضح مع استمرار تهدم الكثير من الأحياء والأبنية من حولهم.
الوصول للغوطة بالنسبة لسكان هذه القرى من غير المقتدرين- وهم الغالبية العظمى- هو معاناة بحد ذاتها، فأمامهم إما ركوب سيارة شحن صغيرة تُعرف محلياً باسم سوزكوي، تضطر فيها النساء للركوب بشكل جماعي ومن دون أي تباعد مع الرجال، رغم التركيبة الاجتماعية المحافظة جداً في تلك المناطق.
تخبرنا إحدى السيدات بأن هذه الطريقة مهينة بالنسبة لها، ولكنها لا تملك خياراً آخر، فحين تضطر للذهاب إلى دمشق أو حتى التنقل بين القرى تنتظر لساعات لحين وصول ميكروباص للنقل العام، وغالباً لا يأتي أو يكون ممتلئاً، فتضطر لركوب السوزوكي باعتبار أن تكلفتها مقبولة إذ تدفع 500 ليرة سورية بدلاً من عدة آلاف أجرة لسيارات التاكسي.
حياة صعبة وفرص عمل محدودة..
تتابع السيدة المشاركة بإحدى دورات الحلاقة، بأنها جاءت لهذه الدورة سيراً على الأقدام وقطعت مسافة بحدود الثلاثة أرباع الساعة برفقة طفلتها الصغيرة، كونها قادمة من جسرين إلى سقبا، كانت تتمنى تعمل مصلحة كي تؤسس عملاً لها وتحصل على دخل يسند زوجها، وتنفق على ابنتها الصغيرة، فحياتهم اليوم صعبة مع قلة عمل ومحدودية الفرص في الغوطة، واستحالة نزولها بشكل يومي للعاصمة للعمل هناك بسبب صعوبة المواصلات وارتفاع تكلفتها.
في دورة الحلاقة التابعة لإحدى الجمعيات تجمعت عدة نسوة يتابعن بشغف ما تشرحه لهن المدربة، وتؤكد غالبيتهن أنهن يحلمن بالحصول على مصدر رزق لهن بسبب إعالتهن لأولادهن بظل غياب الزوج في السجن أو الموت.
تخبرني سيدة، وهي في منتصف العشرين وأم لثلاثة أبناء، بأنها تنتظر زوجها المعتقل من ثلاث سنوات ولا تعلم إن كان حياً أو ميتاً، وهي اليوم تقيم في منزل أسرة زوجها، وهي لا تعمل ووالد زوجها المسن دخله محدود لا يكاد يكفي مصاريف الأكل؛ لهذا قررت تعلم الحلاقة علّها تنجح في ممارسة المهنة في قريتها.
أسبوع عمل من أجل فاتورة كهرباء
تُجمع السيدات الموجودات على أن مشاكلهن الخدمية الأساسية في غياب الكهرباء، فالحكومة لا تغذي مناطقهن بالكهرباء أبداً وإن جاءت فستكون لمدة ساعة خلال اليوم وهن يضطررن لشراء "أمبيرات"، تختلف تكلفتها بحسب الاستهلاك اليومي ولكنهن وسطياً يدفعن 15 ألف ليرة في الأسبوع.
وتضحك إحدى الشابات لأن هذا المبلغ هو قيمة راتبها الأسبوعي الذي تتقاضاه من محل مفروشات تعمل به في سقبا، موضحة أن أصحاب المحل في الغوطة يستغلون الشباب بالرواتب وهم يعلمون حاجة الناس، فحتى اليوم الرواتب تُمنح بشكل أسبوعي وتتراوح ما بين 15- 25 ألف ليرة سورية.
يمكن القول بأن الوضع في عين ترما وسقبا نوعاً ما جيد، فآثار الدمار ليست كبيرة جداً، والكثير من السكان رممووا بيوتهم وأبنيتهم، وعادت محلات المفروشات ذات الإكساء اللافت تنتشر في المكان، وكثرت المحلات والبسطات في سوق سموه "السوق التجاري"، لكن لا يمنع ذلك من بقاء أبنية بأكملها على شكل ركام، كما بقي لليوم مجمع أسواق الخير عبارة عن أرض خراب، بعدما كان سوقاً تجارياً مميزاً قبل الحرب.
مدن أشباح
انتقلنا بجولتنا لحمورية؛ حيث الحرب والفقر لا يزالان يسيطران على المكان، ويشرح صاحب محل صغير لبيع المواد الغذائية بأن مشاكلهم في حمورية تشبه مشاكل بقية مناطق الغوطة من حيث غياب الكهرباء والماء والمواصلات، ويضيف بأن الناس يخشون على صحتهم وصحة أولادهم من غياب النظافة، واستمرار وجود الأنقاض التي تنتشر فيها الجرذان والعقارب وكل أنواع الحشرات بالإضافة للكلاب، وهو أمر يسبب الرعب للناس وخاصة السيدات اللواتي لا يستطعن الخروج بمجرد غياب الشمس.
وتخبرنا سيدة بأن حمورية كغالبية الغوطة هي مدينة أشباح في الليل، ويمكن القول بأن الحياة تتوقف تماماً بمجرد قدوم الليل، فهي لا تستطيع الخروج من منزلها ليلاً لأنها تخاف من الكلاب الشاردة، التي هاجمت عدة أطفال وتسببت لبعضهم بإصابات بليغة.
وتضيف السيدة بأن الليل مرعب حتى داخل البيوت نفسها، فهي تقيم في بناء تعرض للقذائف وتهدم جزء منه، ولم يرجع من سكان البناء سوى عائلة أخرى وعائلتها؛ لهذا بقي غالبيته شبه مهدم وأصبح بمثابة مسكن للكلاب التي ترعب الأطفال في الليل بصوتها وحركتها، وحتى في الصباح قبل ذهابهم للمدرسة يخرج زوجها من المنزل كي يؤمن الدرج للأولاد قبل نزولهم حتى لا يتعرضوا لأي خطر، وتتابع السيدة بأن القوارض أيضاً تنتشر في البناء وهي تشعر بالخوف كلما سمعت صوت جرذان على باب منزلهم.
خوف هذه السيدة هو أكبر عند أم أحمد التي عادت لمنزلها ولم تتمكن حتى اليوم من ترميمه بشكل جيد ولا تركيب باب خشبي خارجي، ما جعل منزلها مباحاً للجرذان وحتى الكلاب في بعض الأحيان.
حلبيون يعيشون في خطر الأبنية الآيلة للسقوط
في حلب، وتحديداً في شطر المدينة الشرقي، لا يُعتبر الوضع أفضل من الغوطة، هذا المكان الذي دارت على أرضه أعتى المعارك الساخنة بين فصائل المعارضة المسلحة والقوات النظامية، التي أتت على أجزاء كبيرة من أبنية تُعد إلى اليوم غير صالحة للسكن بطبيعة الحال، وإن كان ثمة عدد كبير من النازحين ممن جازفوا بحياتهم وعادوا بُغية ترميم ما يستطيعون بعدما أثقلت كاهلهم نفقات إيجار المنازل.
ويروي أحد القاطنين في حي "بستان الباشا" الشعبي، واسمه عبد الحميد أصلان، أنه عاد للعيش في بيته رغم ما يعانيه من خراب وحاجته لعدة ملايين لإعادته، موضحاً أن "المنح التي تقدمها الحكومة لا تكفي لسد 10% من الخراب الحاصل في أي بيت، فضلاً عن الروتين الطويل في الدوائر الرسمية للحصول على هذه النقود".
بالإضافة لنقص المال وارتفاع تكاليف الترميم، أخبرتنا "أم ندى" التي قطنت لدى ابنتها طيلة فترة الحرب منذ ( 2013 – 2017 )، بأنها واجهت تحديات كبيرة لتأمين اليد العاملة لترميم بيتها في حي "العامرية"، وفي حالة توفرت هذه العمالة فهم يطلبون أجوراً عالية لا طاقة لها بسدادها، علاوة عن صعوبة إيصال مواد البناء إلى الحي، وتقول: "كان لابد من العودة إلى منزلي، حتى وإن أعدت بنفسي إعمار داري، وهذا ما حدث بالفعل قبل سنتين، رجعت حين سُمح لنا بالعودة للحي وقمت بأعمال البناء بيدي هاتين دون مساعدة من أي أحد، وها أنا أعيش بمنزلي رغم كل شيء".
الحياة المعيشية الصعبة تجعل الناس يعيشون في أدنى مستويات الفقر، ومع سكنهم بأحياء وصفت بمدن الأشباح كانت كفيلة بأن يغادروها بعد أول ليلة قضوا فيها إلا أنهم يتحملون أوجاعاً مضاعفة من انعدام الخدمات كالمواصلات وإن توفر ذلك لا يتعدى الشوارع الرئيسية، وعدم وجود الكهرباء على الإطلاق وقلة المياه، فضلاً عن انعدام الأمان، ما يدفع الجميع للعودة مُبكراً إلى بيوتهم قبل أن يسدل الليل سواده، وليكونوا أيضاً بمأمن من عصابات السلب والخطف التي تعيث فساداً، أو مجموعات "التعفيش". يروي أحد القاطنين: "مازالت هناك مجموعات امتهنت التعفيش، وهي تشكل خطراً كبيراً على الناس إنهم عصابات، أغلبهم يتعاطون حبوباً مخدرة ويتناولون المسكرات وخارجون عن القانون".
على الرغم من يقين جميع سكان هذه الأحياء بأن حياتهم وحيوات عائلاتهم في خطر، فأول تصدع ينذر بانهيار بيوتهم فوق رؤوسهم إلا أنهم لن يغادروه، كما يخافون من أمطار هذا الشتاء وكوارث الانهيارات التي تتكرر كل عام؛ إذ لا تغيب عن أبناء المدينة فاجعة سقوط 11 شخصاً في انهيار بناء في حي صلاح الدين الذي يغص العشوائيات، في فصل الشتاء الفائت.
وللتدفئة حكاية أخرى مع سكان غالبية المناطق التي شهدتها الحرب، فمع قلة الدخل وقلة المحروقات بسورية بشكل عام، يعتمد السكان هناك على تكسير الخشب واقتطاعه من الأشجار أو بقايا الأشياء للتدفئة، ويخبرنا رجل مسن بأنهم تقريباً نسوا معنى الدفء، فبيوتهم غير مرمّمة بشكل جيد لا تمنع دخول الهواء واستخدام الحطب يخنقهم من رائحته، ولا أمل لمازوت أو كهرباء تمنحهم الدفء.