تسبّب إعلان صغير نشرته صفحة "إسرائيل تتكلم العربية" التي تتبع وزارة الخارجية الإسرائيلية، قبل عدة أيام، في تفجير قنبلة في الأوساط الثقافية والإعلامية المصرية، حين بشّر الإعلان بأن الأرشيف الرقمي لصحيفة الأهرام المصرية منذ إطلاق الجريدة عام 1876، التي تُعد الأقدم في مصر، بات متاحاً للباحثين في إسرائيل.
على الفور اندلع الجدال وتبادل الجميع الاتهامات، لكن كان هناك ما يشبه الاتفاق على أن المتهم الرئيسي في عملية البيع هو عمر سامي، الذي شغل منصب مدير عام المؤسسة بين عامي 2012 و2013، ثم تولّى رئاسة مجلس إدارة المؤسسة الإعلامية الأكبر في مصر، عقب إبعاد رئيس مجلس الإدارة المحسوب على جماعة الإخوان وقتها (ممدوح الولي)، من منصبه، عقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي في يونيو/حزيران عام 2013.
فقد كتب محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحفيين، شارحاً ما حدث بناء على تفاصيل نقلها له مَن وصفهم بـ"أشخاص محل ثقة من داخل الأهرام"، بأن عمر سامي القائم بأعمال رئيس مجلس الإدارة في ذلك الوقت قام ببيع أرشيف الأهرام لشركة أمريكية تحمل اسم "إيست فيو"، مقابل 185 ألف دولار.
وأوضح أن العقد الخاص بعملية البيع وُقع من طرف واحد، دون توقيع ممثل الشركة الأمريكية، كما أن قيمة الصفقة المشبوهة لم تدخل إلى خزينة الأهرام حتى الآن. وقال إن تحقيقات الشؤون القانونية بمؤسسة الأهرام انتهت إلى "لا شيء".
فما حقيقة ما حدث؟ "عربي بوست" تتبع خيوط القصة لتحديد كيفية وصول أرشيف الأهرام إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
أرشيف الأهرام في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
في البداية، قمنا بالدخول على موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية، والبحث عن أرشيف الأهرام، وبالفعل كان الأرشيف متاحاً، لكنه لا يتواجد فعلياً على موقع المكتبة، بل متاح عبر موقع eastview، الذي يُمثل الشركة الأمريكية التي حصلت على أجزاء كبيرة من أرشيف الأهرام منذ عام 1876.
موقع الشركة الأمريكية يحتوي على حوالي 640 ألفاً و638 صفحة من أرشيف الأهرام، وهو رقم ضخم، لكنه لا يمثل الحجم الكلي لأرشيف المؤسسة الصحفية المصرية، الذي يتعدى عدة ملايين، كما قال لـ"عربي بوست" صحفي في قسم المعلومات بالأهرام، تحفّظ على ذكر اسمه.
ولا يمكن للمستخدم العادي الوصول إلى محتوى الأرشيف، لأنه يحتاج إلى اشتراك مدفوع، لكن موقع الشركة كان يتضمن إمكانية اختيار تاريخ معين لعرض صفحات الأهرام في ذلك الوقت، والذي حدد في الفترة بين 15 يوليو/تموز 1876 وحتى 12 أبريل/نيسان 2019. مع ملاحظة أن الأرشيف لا يتضمن بعض الأيام خلال هذه الفترة، وهو ما يُفسر أن الأرشيف ليس كاملاً كون حجم أرشيف الأهرام الأصلي يقدر بالملايين.
وبالعودة إلى موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية، فقد أشار إلى أن مصدر الأرشيف هو شركتا "إيست فيو" وشركة "نيوز بنك" الأمريكيتين، اللتين تتخصصان في توفير المعلومات والوثائق للمكتبات والباحثين.
كيف وصل الأرشيف إلى الشركة الأمريكية؟
هنا، كان علينا التوجه إلى شركة "إيست فيو" الأمريكية، لمعرفة كيفية وصول أرشيف الأهرام لها.
يذكر أن شركة "إيست فيو" الأمريكية هي واحدة من أكبر الشركات على مستوى العالم في مجال توفير أرشيف الصحف للباحثين، وتمتلك أرشيف صحف من 80 دولة، كما طورت تقنيات جديدة لعرض الأرشيف بجودة عالية وبقدرات بحث وتنقيب متطورة للغاية، تُناسب البحث العلمي.
وتملك الشركة أرشيف 6 صحف عربية، هي الأهرام والجمهورية من مصر، والدستور الأردنية والرياض السعودية وفلسطين الفلسطينية والأخبار اللبنانية، وتقدم خدماتها للباحثين والمكتبات العامة والجامعات في أي بلد.
"عربي بوست" تواصل مع الشركة الأمريكية للاستفسار حول الأمر، فردّ علينا روبرت لي، مدير إدارة الشراكات الاستراتيجية، عبر رسالة إلكترونية، مؤكداً أن الاتفاق مع الأهرام تم من خلال شركة "البوابة سيندي جيت"، التي وصفها بأنها شريك قديم ودائم لمؤسسة الأهرام.
وأضاف أن الاتفاق الذي وقع كان بمعرفة عادل الحطيبي، مدير مركز "أماك" للتكنولوجيا، وعمر سامي مدير عام مؤسسة الأهرام، في حضور عبد المحسن سلامة رئيس مجلس الإدارة.
وأكد السيد روبرت لي، على أن شركة "إيست فيو" حرصت على التأكد من موافقة مؤسسة الأهرام والحكومة المصرية نفسها على حصولها على حقوق الأرشيف الرقمي للأهرام قبل إتمام الصفقة، مؤكداً أن المؤسسة المصرية تحصل على مقابل مادي عن البيع من شركة البوابة.
وبخصوص وصول الأرشيف إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، قال إن شركته توفر الأرشيف للمكتبات العامة والمعاهد الأكاديمية حول العالم، لكنها لا تلبي الطلبات الشخصية من أفراد، وأن المكتبة الإسرائيلية حصلت على الأرشيف مثل غيرها من المكتبات التي طلبته، رافضاً الكشف عن أسماء مكتبات أخرى طلبت نفس الأرشيف.
وعلم "عربي بوست" من مصادره في الأهرام أن الاتفاق الأخير الذي وقع بين المؤسسة وشركة "البوابة سيندي جيت" كان يقضي ببيع أرشيف كل إصدارات المؤسسة خلال العشرين عاماً الأولى من القرن الحالي فقط، مقابل 30 ألف دولار عن التعاقد غير المحدد المدة، بالإضافة إلى نسبة 25% من قيمة كل تعاقد تبرمه شركة "البوابة سيندي جيت" مع أي كيان للحصول على الأرشيف.
لكن من الواضح أنه كان هناك اتفاق قبله حصلت بموجبه شركة "البوابة سيندي جيت"، ومن ثم شركة "إيست فيو" على كامل الأرشيف الرقمي للأهرام منذ العدد الأول للجريدة.
لكن مسؤولاً في إدارة الشؤون القانونية في المؤسسة الصحفية رفض التحدث مع "عربي بوست" أو الكشف عن نتائج التحقيق في الأمر، وما إذا كان هناك تحقيق من الأساس أم لا، وكذلك محتوى التعاقدات السابقة التي تمت بين المؤسسة وشركة البوابة، قائلاً إن لديه تعليمات مشددة من رئيس مجلس الإدارة بعدم التحدث في الأمر.
المتهم الرئيسي بريء!
عضو مجلس إدارة سابق في الأهرام، كشف لـ"عربي بوست" أن هناك تحقيقات بدأت بالفعل لمعرفة كيفية إتاحة أرشيف الأهرام عبر المكتبة الوطنية الإسرائيلية، لكنه أفصح عن مفاجأة أن عمر سامي الذي نال النصيب الأكبر من الاتهامات بالخيانة، بريء فيما يبدو من التهمة، وأن الشخص المعني بالتوقيع على اتفاق البيع يدعى عمر سامي أيضاً، وشغل منصب مدير عام المؤسسة كذلك، لكن في وقت لاحق بين عامي 2017 و2020، تحت قيادة رئيس مجلس الإدارة الحالي عبد المحسن سلامة.
وتولى عمر سامي التوقيع على اتفاق بيع أرشيف الأهرام الرقمي بحكم منصبه كمدير عام للمؤسسة.
وكشف العضو تفاصيل ما حدث، فقال إن التحقيقات أظهرت بشكل مبدئي أن الأهرام فيما يبدو إما تعرضت للخداع أو أن هناك شخصاً ما من إدارة الشؤون القانونية ومركز "أماك" التابع للأهرام والمسؤول عن الأمور الإلكترونية في المؤسسة، تلاعب بالعقد الذي وقعته المؤسسة مع شركة "البوابة سيندي جيت" الأردنية، للسماح لها بإعادة بيع الأرشيف الرقمي إلى شركة أمريكية، وهي التي أتاحت الأرشيف للمكتبة الوطنية الإسرائيلية.
وأضاف العضو أن مركز "أماك" أرسل خطاباً إلى شركة البوابة الأردنية، في مارس/آذار 2020، يخبرهم فيها بقرار مؤسسة الأهرام فسخ العقد المبرم بين الجانبين بخصوص الأرشيف، بسبب انتهاك الأخيرة لشروط التعاقد المبرم مع المؤسسة، وبيع المحتوى الأرشيفي إلى شركة إيست فيو الأمريكية دون الرجوع إلى الأهرام أو الحصول على موافقة كتابية منها.
أوامر بالتزام الصمت
اللافت أن مجلس إدارة الأهرام وكل المسؤولين فيه يلتزمون الصمت تجاه الجدل الدائر، ويبتلعون في هدوء الاتهامات الموجهة لهم ولمن سبقوهم بالخيانة، بل وصل الأمر بمطالبة البعض بتحويل القضية كاملة إلى النائب العام.
ولم يصدر حتى الآن من المؤسسة العريقة أي بيان حول الموضوع ولا الإجراءات التي تنوي اتخاذها حيال الأمر.
وعلم "عربي بوست" أن مسؤولي مؤسسة الأهرام ملتزمون بالصمت بنصيحة من شخصية قيادية في المجلس الوطني للإعلام، حتى تهدأ العاصفة المثارة حالياً من تلقاء نفسها بعد فترة من الزمن، ويخمد ما وصفته الشخصية القيادية "صياح الثورجية" الذين يطالبون بالتحقيق في تسريب أرشيف أقدم جريدة عربية إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
وكشف مصدر على صلة بأعضاء المجلس الوطني للإعلام أن ما حدث ليس بعيداً عن الدولة وأجهزتها السيادية، كاشفاً عن أن السجالات الدائرة حالياً في الوسط الصحفي مجرد تكهنات متضاربة، بعضها عن جهل وبعضها الآخر مقصود بهدف التشويش على الحقيقة، وهي أن عملية البيع تمت بمعرفة، بل ويمكن القول بمباركة الدولة وأجهزتها السيادية، على حد تعبيره.
اتهام جهة سيادية بالتورط في تهريب أرشيف الأهرام
وأضاف المصدر أن ما يقال عن أن شركة "إيست فيو" حصلت على نسخة الأرشيف الرقمي من شركة "البوابة سيندي جيت" الأردنية (العقد المبرم مع مؤسسة الأهرام تم توقيعه مع مدير فرع البوابة في دبي)، ومن ثم إعادة بيعها إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية كلام فارغ، لأن أحداً من الذين يروجونه لم ينتبه إلى تفصيلة بسيطة في خطاب فسخ التعاقد الذي أرسلته الأهرام، وهي أن الاتفاق المبرم بين الجانبين كان على استغلال أرشيف الأهرام في الفترة بين عامي 2000 و2020، أي 20 عاماً فقط، بينما المعروض في المكتبة الإسرائيلية من أرشيف المؤسسة يبدأ من عدد الأهرام الأول، الصادر في 5 أغسطس/آب 1876.
ووجه المصدر أصابع الاتهام إلى الهيئة الوطنية للصحافة المسؤولة عن إدارة ملكية الصحف القومية بحكم الدستور، والحكومة المصرية وجهاز سيادي مهم في مصر في تسريب أو "تهريب"، على حد وصفه، الأرشيف الرقمي للأهرام، الجريدة التي وصفها طه حسين عميد الأدب العربي بـ"ديوان الحياة المعاصرة".
وقال المصدر إن الأمر ظهر بعد توقيع اتفاق في سبتمبر/أيلول عام 2020، بين عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة الأهرام، والدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمهندس عبد الصادق الشوربجي، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، لإتاحة المحتوى الثقافي والإعلامي والصحفي لمؤسسة الأهرام على منصة تراث مصر الرقمي، حيث ستعمل الوزارة على إتاحة كافة أعداد الأهرام وإصداراتها منذ نشأتها مفهرسة ومبوبة، وهذا المشروع كان يُدار بمعرفة شركة تابعة لجهاز سيادي في مصر، وكان الاتفاق على أن رقمنة أرشيف الصحيفة يتم بأوامر عليا، وخصص تلك الشركة تحديداً لتنفيذ المشروع دون غيرها.
حاولنا التواصل مع الشركة الأردنية، لكن وإلى وقت نشر هذا التقرير لم يتسن لنا الحصول على رد منها لإثبات أو نفي ما صدر حولها من أقاويل.
وقال إنه بعد توقيع الاتفاق بات هناك مكانان فقط يتوفر فيهما كل أرشيف جريدة الأهرام منذ صدورها قبل 145 عاماً وحتى الآن، الأول هو أرشيف المؤسسة نفسها، ومن المستبعد أن تكون هي أو أحد من مسؤوليها هم من اتخذوا قرار البيع، لأن الأرشيف متوفر لديها منذ صدورها، وكان يمكن بيعه قبل الآن بعشرات السنوات، كما كان يمكن تهريبه عن طريق بعض المواقع المشبوهة التي ظهرت في نهاية التسعينات بحجة توفير منصات معلوماتية، بينما الهدف الحقيقي منها كان الاستيلاء على أرشيف الصحف القومية.
إذن -والكلام لا يزال للمصدر- يبقى المكان المشبوه في عملية تهريب الأرشيف هو منصة "تراث مصر"، خصوصاً أنها لم تر النور حتى الآن، رغم توقيع الاتفاق قبل أكثر من عام، إذ إنها بحكم الاتفاق حصلت على صلاحية للولوج إلى الأرشيف الكامل لمؤسسة الأهرام، وبما أن الشركة القائمة على التنفيذ تابعة لجهاز سيادي فلن يقدر أي مسؤول في الأهرام على مراجعتها أو اتهامها بتهريب الأرشيف، وبالتالي سيكون المتاح هو ما يحدث حالياً من تبادل للاتهامات والتكهنات والمعلومات المتضاربة، حتى يصاب الجميع بالملل وينسوا الأمر.
وختم المصدر كلامه بالتأكيد على مشاركة الأجهزة السيادية في الدولة أو على الأقل مباركتها بعرض أرشيف الأهرام في إسرائيل، مدللاً على صحة كلامه بالإشارة إلى ما فعله صحفي شاب في مؤسسة الأهرام عام 2020، حين تقدم ببلاغ إلى الجهات الرقابية عندما علم بأمر صفقة البيع، وقدم لها كل ما وصله من معلومات، لكن تلك الجهات أمرت بحفظ التحقيق وكأن شيئاً لم يحدث.
كما أن "إدارة الشؤون القانونية في الأهرام فتحت تحقيقاً في الواقعة كما سمعنا وانتهى إلى الحفظ بدوره، ولو كان البيع تم دون مشاركة الأجهزة السيادية لكان المتورطون فيه في السجون الآن"، على حد قوله.