لا تزال قضية سعيد الناصيري، رئيس نادي الوداد المغربي لكرة القدم، الموقوف على ذمة التحقيق القضائي، في قضية ما بات يصطلح عليه إعلامياً بـ"إسكوبار الصحراء"، تفرز المفاجآت.
وكلما تقدم التحقيق في التهم الثقيلة، التي يلاحق بها رئيس واحد من أعرق الأندية المغربية والأفريقية، منذ اعتقاله يوم 21 ديسمبر/كانون الثاني؛ حيث يُعد الناصيري أحد الشخصيات المركزية في القضية إلى جانب 25 متهماً، 21 منهم رهن الاعتقال.
"عربي بوست" حاول خلال هذا التقرير التعريف به، فمن هو سعيد الناصيري؟
"الأسمراني" المجهول
قبل عام 2014، لم يكن الجمهور المغربي، يعرف أنّ الرجل "الأسمر" القادم من جنوب المغرب، الذي كان يظهر في الصور بجانب الرئيس السابق للفريق الأحمر عبد الإله أكرم، سيتحول إلى واحد من أبرز الشخصيات الرياضية والسياسية في المملكة.
قاد سعيد الناصيري فريق الوداد البيضاوي العريق إلى منصات التتويج المحلية والأفريقية، ومحا ديون الفريق، وانتشله من أزمته المالية الخانقة في ظرف وجيز.
وكما كان الناصيري سبباً في وضع الوداد على واجهة الأحداث بإنجازاته الرياضية، فإنه أنهى فترته بوضعه أيضاً على واجهة الأخبار والتقارير الإعلامية، لكن بشكل فضائحي.
وتمت ملاحقة الناصيري بتهم الاتجار في المخدرات الدولي، والاتجار بالبشر، وتبييض الأموال والتزوير في وثائق رسمية، واليوم بات المسار السياسي لسعيد الناصيري (رئيس مجلس عمالة الدار البيضاء وعضو حزب الأصالة والمعاصرة)، ومستقبله الرياضي (رئيس الوداد) وأيضاً مصير ثروته الهائلة، يكتنفه الكثير من الغموض..
من قرية متواضعة كانت الانطلاقة
وُلد الناصيري يوم 13 أغسطس/آب 1969، بمنطقة "تامكروت" بوادي درعة قرب مدينة زاكورة جنوب المغرب، وكما يوحي بذلك اسمه العائلي، فإن رئيس الوداد "السابق" يتحدر من الزاوية الناصرية الشهيرة، نشأ في أسرة متواضعة الحال، مكونة من 5 أطفال، لأب تاجر وأم ربة بيت.
وتعوّد الناصيري في السنوات الماضية، على الاحتفال بعيد ميلاده مع أصدقائه ومقربيه من مشاهير الرياضة والسياسة والأعمال، لكن عيد ميلاده الأخير لم يشهد أي احتفالات، ولا "سهرة حمراء".
وكان الناصيري يمضي معظم الوقت بين فيلته الفاخرة بالحي الراقي بالدار البيضاء "كاليفورنيا"، ومقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، في شارع الروداني، بعد صدور قرار منعه من مغادرة التراب المغربي، والشروع في التحقيقات الأولية معه في ملف أحمد بن إبراهيم الملقب بالمالي أو "اسكوبار الصحراء".
يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 2023، قررت السلطات وضعه رهن الحبس الاحتياطي في سجن عكاشة بالعاصمة الاقتصادية، بصحبة 2.4 متهم آخر، من بينهم صديقه وشريكه المفترض عبد النبي بعيوي، رئيس مجلس جهة الشرق.
تجارة الخردة لا تفرز أثرياء
ثروة الناصيري أثارت الكثير من الجدل، بسبب تحدّره من أسرة فقيرة، لكنه في ظرف وجيز استطاع أن يصبح من بين أثرياء المغرب، وأن يمحو ديون الوداد الرياضي، بل عزز صفوفه بلاعبين بعقود كبيرة، مكّنته من ضم أبرز اللاعبين المغاربة والأجانب، أمام دهشة بقية الاندية المغربية التي ظلت تراقب "بحسد" تفوق الوداد في حسم الصفقات وأيضاً اعتلاء منصات التتويج.
غادر الناصيري مقاعد الدراسة مبكراً، إذ لم يتجاوز السنة الأولى الثانوية، وقصد العاصمة الاقتصادية المغربية بحثاً عن آفاق أرحب من قريته المتواضعة في الجنوب.
حطّ سعيد الناصيري رحاله ضيفاً على أقاربه، قبل أن ينطلق في رحلة جمع الثروة كتاجر للخردة والمتلاشيات، "كان يتاجر في أي شيء تقريباً"، يقول "الهاشمي" أحد تجار الخردة في الأسواق الأسبوعية المتاخمة للدار البيضاء، في حديثه لـ"عربي بوست".
وقال المتحدث: "كان يتردد على الأسواق الأسبوعية بالدار البيضاء أو بمدينة سطات وخريبكة وغيرها لجمع المتلاشيات التي عادة ما يحملها المهاجرون المغاربة من إيطاليا وإسبانيا صيفاً، كانت لديه موهبة فطرية في التجارة".
غير أن الهاشمي بدا متشككاً في أن تجارة المتلاشيات، قد تكون السبب الرئيسي في ثروة الناصيري قائلاً: "أعمل في الميدان منذ أكثر من عقدين من الزمن، تجارة المتلاشيات لن ترفعك للمستوى الذي بلغه الناصيري، هناك شيء غامض في حياة الرجل".
قفزة كبيرة، تلك التي نقلت الناصيري من مجرد تاجر متلاشيات في أسواق الخردة، إلى مالك لعدد من الشركات، أبرزها شركتان متخصصتان في العقارات، فضلاً عن امتلاكه لغالبية أسهم في مجموعة إعلامية خاصة.
كل هذه الشركات التي وردت في محاضر التحقيقات الجارية، التي اطلع عليها "عربي بوست"، والتي من المرجح أن تقدم إجابات حول مصدر تمويلها الحقيقي..
الجماهير الكروية "جيش" الناصيري في السياسة
دهاء الناصيري، جعله يقرر دخول عالم السياسة وولوج البرلمان المغربي بحثاً عن "حصانة" يتدثر بها من غائلة الزمن، ولأن أقرب طريق لأصوات الناخبين هي كرة القدم، دخل الناصيري عالم التسيير في واحد من أكبر الأندية المغربية الوداد، الذي يقف خلفه مئات الآلاف من المشجعين، الذين سيكونون "جيشه" في حملاته الانتخابية وفي مراكز التصويت.
ارتقى الناصيري بسرعة داخل نادي الوداد، وأصبح عضواً في مجالس الإدارة منذ العام 2007، حيث بات الذراع اليمنى للرئيس السابق عبد الإله أكرم، الذي فشل في قيادة فريقه نحو التتويجات، مواجهاً غضباً حاداً من قبل الجماهير الحمراء التي نجحت في طرده من الفريق، ليستغل الناصيري الفرصة ويعتلي رئاسة النادي الأحمر، يوم 29 يونيو/حزيران 2014.
العصر الذهبي للوداد
في موسمه الأول كرئيس للوداد، حصد الناصيري لقب الدوري المغربي، ثم عاد بعد موسمين ليحصد اللقب ذاته مرتين على التوالي، وفي العام 2017 نجح الوداد بقيادة رئيسه الثريّ في الظفر بدوري أبطال إفريقيا على حساب الأهلي المصري، وهو الإنجاز الذي استعصى على الوداد منذ عام 1992.
لم يكتفِ الناصيري بذلك، بل حقق أول لقب "كأس السوبر الأفريقي"، وواصل هيمنته على الدوري المحلي لـ3 سنوات متتالية، (2019 و2021 و2022)، قبل أن يضيف لقب دوري أبطال أفريقيا آخر في العام 2022.
ولم يعقد الناصيري جمعية النادي العمومية طيلة ترؤسه للفريق، متجنباً بذلك، تبرير مداخيل الفريق الهائلة التي سمحت له بالتعاقد مع أبرز اللاعبين وتخصيص طائرة خاصة للنادي خلال ترحاله بين الملاعب الإفريقية في مشاركاته القارية.
ورغم أن الاتحاد المغربي كان يحرم الفريق سنويا من منحة مالية قدرها 200 ألف دولار، بسبب عدم عقد الجمعية العمومية، فإن ذلك لم يكن يهمّ الناصيري؛ لأن تلك المنح مجرد مبالغ بسيطة، مقارنة مع ثروته الهائلة التي كانت تغطي مصاريف الفريق.
دهاء سياسي
بعدما راكم سعيد الناصيري ثروة كبيرة، التحق بحزب الأصالة والمعاصرة "بام" وخاض تحت ألوانه الانتخابات التشريعية، ونجح في دائرة زاكورة مسقط رأسه، فالرجل اكتسب شهرة كبيرة هناك.
وكان الناصيري مثالاً لـ"الرجل العصامي الذي خرج من بين أظهرهم ونجح في مدينة عملاقة مثل الدار البيضاء، كما خصص جزءاً من ثروته لمساعدة أهالي المنطقة، وهي كلها عوامل جعلت من المستحيل هزيمته انتخابياً هناك.
ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الناصيري برلمانياً بعد فوزه في انتخابات عامي 2015 و2016، ثم انتخب عضواً في مجلس المدينة، قبل أن يتمكن في العام 2021 من الفوز بمنصب رئيس مجلس العمالة، بعدما حصل نتيجة كاسحة لم يسبق لأي سياسي تحقيقها، نال 30 صوتاً من أصل 31!
فشل عاطفي وثروة مشبوهة
وبالقدر الذي نجح فيه الناصيري سياسياً ورياضياً، فشل في تكوين أسرة مستقرة، حيث تزوّج مرتين، واختار في نهاية المطاف حياة العزوبية بعد طلاقه الأول والثاني، وقد خرج منهما بطفلين من والدتين مختلفتين.
الكثير من الشائعات حامت حول حياته العاطفية بعد طلاقه، حيث كان دائم التردد على العاصمة الرباط، حيث زُعم أنه على علاقة غرامية مع صاحبة شركة للأزياء، أو على الأرجح مع سيدة حوّلها بأمواله إلى سيدة أعمال، وأسس لها الشركة المذكورة.
السقوط إلى الهاوية
عاش الناصيري حياة البذخ في السنوات الأخيرة، بفضل الأموال التي كانت تتدفق على حساباته البنكية، وشكّلت إقامته الفاخرة بالدار البيضاء -حسب تسريبات التحقيقات الجارية- فضاءً للّيالي الحمراء للعديد من الوجوه السياسية والرياضية، التي باتت تتوجس اليوم خيفة من مثولها للتحقيق
وكان الناصيري يقوم بتصوير جميع الحفلات خلف أسوار فيلاته وشققه، إذ استعمل الناصيري تلك التسجيلات سلاحاً احتياطياً في يده من أجل كسب حلفاء يضمن ولاءهم وقت الشدة.
السقوط إلى الهاوية، بالنسبة لسعيد الناصيري بدأ منذ اعتقال بن إبراهيم الملقب بالمالي في العام 2019، بموجب مذكرة دولية، حيث حُكم عليه بالسجن النافذ لـ10 سنوات.
"إسكوبار الصحراء" الذي كان يعوّل على شركائه بالمغرب، لإخراجه من ورطته، لم يستسغ تخليهم عنه، بل استغلوا سجنه للسطو على ممتلكاته في المغرب، عقارات وأراض تفوق قيمتها 30 مليون دولار، عبر تزوير وثائق رسمية، ما دعاه أمام هذه "الخيانة" إلى الاعتراف ببقية الشبكة، وجرّهم إلى السجن معه.
نفيٌ غير مُجدٍ
وأمام نفي الناصيري معرفته بـ"إيسكوبار الصحراء" لم يجد المحققون بداً من مواجهته بالكثير من الأدلة التي تثبت معرفته بالبارون المالي، حيث سبق له زيارة زاكورة في العام 2013، وموّل مهرجاناً فنياً هناك تحت إشراف الناصيري، الذي منحه وثيقة تثبت انتماءه للزاوية الناصرية، تمهيداً لإجراءات طلب الجنسية المغربية.
وبالتالي، أصبح البارون "شريفاً" منتمياً بدوره إلى واحدة من أشهر الزوايا الدينية في المغرب، غير أن السلطات المغربية رفضت منح الجنسية إبراهيم بالنظر إلى تاريخه المشبوه، بعدما قضى فترة السجن في بلده الأصلي مالي.
المكالمات الهاتفية أيضاً كانت من الدلائل على علاقة الناصيري بالبارون المالي، لتزيد من صعوبة موقفه القانوني، وأيضاً تزيد من متاعب الوداد البيضاوي، الذي فقد "والده الروحي" وصانع فترته الذهبية.
ووجد الوداد اليوم صعوبة في الشق الرياضي؛ حيث بات قريباً من مغادرة دوري الأبطال (الأخير في مجموعته)، كما لم يحقق الفوز في مبارياته الأخيرة بالدوري المغربي.
وفي الشق المالي، أصبح الفريق يعاني غياب مصادر تمويل، ويعوّل في الفترة المقبلة على منحة الكاف نظير بلوغه نهائي الدوري الأفريقي الأخير، وعائدات انتقال ياسين بونو، حارس المنتخب المغربي من إشبيلية الإسباني إلى الهلال السعودي الصيف الماضي، في إطار "حصة التضامن" التي تُخصص للفرق الأصلية للاعبين، زيادة عن عقد جمعه العام ليتسنى له الحصول على منحة الاتحاد المغربي، التي كان يترفع عنها الناصيري..