بعد الزلزال المُدمّر الذي ضرب تركيا في 6 فبراير، من المُنتظر أن يضرب تركيا في 14 مايو زلزال سياسي اجتماعي ستبقى انعكاساته تنخر في النسيج الاجتماعي التركي طيلة ولاية الفائز.
قد تبدو لك من بعيد أن القضية في تركيا هي قضية سياسية بحتة، ولكن كلما اقتربت بمجهرك أكثر تكتشف أنها قضية وجود وهوية، ليس عليك سوى النزول إلى الشارع التركي والتوجُّه إلى أقرب مقهى شبابي لتجد نسيج اجتماعي غريب، مكوناته غير متجانسة هنالك الكثير من الصرامة في كلّ شيء، فالشعب التركي يُحبّ إذا أنجز أمراً أن يُنجزه على أفضل وجه، فإمّا يذهب إلى أقصى التدين، أو إلى أقصى الانفتاح، قلّة قليلة عالقة في المنتصف لا صوت لها ولا شكل ولا لون.
تقفُ حائراً أين يجب أن تضع تركيا على الخارطة الاجتماعية، وكأن قدرها كان معلوماً يوم انقسمت جغرافياً إلى نصفين، نصف آسيوي، وآخر أوروبي. تسأل الشباب التركي أين يجد نفسه فتحتار أكثر، فمنهم من يشّد الرحال شرقاً، وآخرون يشدون الرحال غرباً. صراع بدأ منذ اللحظة التي غيّر فيها مصطفى كمال أتاتورك وجه تركي، وقال للعالم إن لتركيا وجهاً آخر يوم قرر أن حروف تركيا لاتينية، وأن يكون توجهها علمانياً، ومنذ ذلك اليوم يجد الشباب التركي نفسه في صراع على هويته. فمنهم من يريد أن ينفتح على أمريكا وأوروبا، ومنهم من يريد الارتماء في الحضن الروسي الصيني، منهم من يستمع إلى إيزيل (ezhel) وزحل (zuhal olcay) وآخرون لا يزالون متمسكين بإبراهيم تاتلس (Ibrahim Tatlıses) وسيزين اكسو (sezen aksu).
هل تشبه تركيا مسلسلاتها على نتفليكس أو على القنوات المحلية؟
وهنا يطرح السؤال نفسه، من تُشبه تركيا على أرض الواقع؟ هل تُشبه مسلسلاتها المتحررة من رقابة هيئة الإذاعة والتلفزيون على نتفليكس، والتي اتّجه قسم لا يُستهان به من الممثلين الأتراك إليه؛ بحثاً عن بعض "الحُرّية المفقودة" في مسلسلاتهم التي تعرض على القنوات المحلية، أم مسلسلاتها التي تُعرض على القنوات المحلية والخاضعة لرقابة هيئة الإذاعة والتلفزيون؟
برأيي تركيا هي مزيج بين الاثنين، ولكن كفّة المسلسلات المحلية تميل عن كفّة نتفليكس التي أظهرت تركيا بصورة متحررة جداً بعيدة قليلاً عن الواقع الاجتماعي، وكأن الكاتب أراد أن يأخذ تركيا إلى حيث ما تشتهي رغباته، فأظهرها بصورة علمانية متحرّرة تُبيح الإنجاب خارج إطار الزواج، والمثليّة الجنسيّة والتحرر بكل أنواعه. علماً أنك لن ترى في تركيا فتاة أنجبت خارج إطار الزواج مثلاً إلا ما ندر.
ويُسجّل على الاثنين عدم إظهار المحجبات بشكل كبير في المسلسلات التركية ما يجعل الأعمال بعيدة عن الواقع لاسيما أن المرأة التركية كافحت كثيراً من أجل حصولها على حق ارتداء الحجاب، بعد أن كان ممنوعاً عليها في حقبة معينة وكان ارتداؤه يعني سحب جميع حقوقها المدنية منها، أما اليوم فنسبة ارتداء الحجاب في تركيا، وبحسب دراسة أعدّتها ابسوس في عام 2018 فإن نسبة المحجّبات في تركيا تتجاوز 50% بعد التسهيلات التي قام بها حزب العدالة والتنمية للفتيات المحجبات، والسماح لهن بالتعليم والعمل ومزاولة جميع المهن في الدولة.
ومن هنا تأتي رغبة الفتيات المحجبات برد الجميل للحزب الذي حارب كثيراً من أجل اعطاء المرأة التركية حقها الكامل بالحجاب دون تعرضها لأية مضايقات، وخطوة الأخير لإدراج الحجاب في دستور البلاد.
وعلى الجانب الآخر، يجد الشباب التركي الذي يصف نفسه "بالمُنفتح" أمام معركة يُصنّفها بمعركة هوية وهو ليس معجباً بشكل كبير بأردوغان الذي أظهر تركيا بصورة الدولة المسلمة المحافظة، لاسيما بعد خروجه من اتفاقية إسطنبول، التي فسرها البعض بأنها الخطوة الأولى نحو "أسلمة تركيا" وإبعادها عن الوسط الأوروبي المُنفتح؛ ليخرج بعدها حزب العدالة والتنمية ليُعلن علناً أن الاتفاقية لا تتناسب مع قيم تركيا الاجتماعية والعائلية تحديداً، خاصة ما يُعنى بالمثلية الجنسية. ما اعتبره الشباب خطوة ناقصة باتجاه التحرر والتحاق تركيا بـ"العالم المتطور"، وهو ما يجعلهم يفكرون جدياً باختيار المعارضة، لعلها تُعيد تركيا إلى "طريق الانفتاح".
الأزمة ستنعكس حتماً على نتائج الانتخابات التركية
يجد الشاب التركي اليوم نفسه أمام خيارين كما يراهما بمنظوره، إما تركيا المحافظة بقيادة رجب طيب أردوغان، أو تركيا المتحررة بقيادة المعارضة المتشعبة من خلفيات عقائدية وأيديولوجية وسياسية مختلفة.
وفي تقديري سيختار الناخب التركي بناء على رغبته في تحديد البوصلة، فهناك تملمُل واضح في أوساط الشباب الذين يرغبون بتغيير شكل تركيا وهناك رغبة واضحة لدى تيار كبير بسحب الحكم في الانتخابات القادمة من الرئيس أردوغان وإعادته إلى حضن "أتاتورك المُخلّص"، إلا أنه في الوقت نفسه سيكون أنصار تركيا المحافظة لهم بالمرصاد.
"حفلة جنون" تعبير يمكن وصف الانتخابات التركية المقبلة به، والتي يُتوقع أن تغير بوصلة البلد بشكل كامل، وحتماً ستُغيّر معه وجه تركيا للسنوات الخمس القادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.