يعيش فرخاد في حالة من الشك منذ أكثر من عام، حول مصير زوجته مريم هل تُوفيت أم لا تزال على قيد الحياة. كانت مريم تزور بلدتها في أرتوس بشينغيانغ شمال غرب الصين في شهر مارس/آذار 2017 عندما بعثت برسالةٍ مذعورة لفرخاد تقول إنَّ الشرطة قد اعتقلتها.
وعلى مدار الشهر التالي، راسلته مريم بشكلٍ متقطع على تطبيق WeChat من داخل ما بدا أنَّه مركز احتجاز. وقالت في شهر أبريل/نيسان إنَّها نُقلت إلى منشأة أخرى. وكتب فرخاد، الذي ينادي زوجته بـ"روحي": "يا روحي، ماذا يمكنني أن أفعل؟".
ردت عليه مريم: "لا تفعل أي شيء. لا تأتِ للصين. لا تبحث عني". كانت آخر محادثة بينهما في شهر يونيو/حزيران 2017، عندما راسلته مريم من المستشفى. كانت قد فقدت الوعي مرتين في مركز الاحتجاز الجديد. والآن، فإنَّ فرخاد، الراعي الوحيد لأطفالهما الثلاثة، في أمس الحاجة لمعرفة أي أخبارٍ عنها.
تنتمي مريم لعرق الإيغور في الصين، وهي واحدة من نحو مليون من الأقليات المسلمة من الإيغور والكازاخ والهوي والأوزبك وآخرين محتجزين في شبكةٍ من معسكرات الاحتجاز في شمال غرب مقاطعة شينغيانغ الصينية.
أكثر من مليون معتقل لإعادة التأهيل
تُمثل هذه المعسكرات جزءاً من الحملة "القاسية" للصين التي يُزعم أنَّها تستخدم الاعتقالات خارج نطاق القانون والمراقبة والتلقين السياسي، أو "إعادة التثقيف"، والتعذيب والإساءة لاجتثاث العناصر المتطرفة، وذلك بحسب مجموعةٍ متزايدة من الأدلة التي تشمل روايات الشهود والتقارير الإعلامية والوثائق الحكومية وصور الأقمار الصناعية. وقد وصفت لجنة بالكونغرس الأميركي ما يحدث بأنَّه "أكبر اعتقال جماعي لسكان أقلية في العالم في الوقت الراهن".
ويزداد حالياً التدقيق العالمي بشأن السياسات التقييدية لبكين في شينغيانغ، التي بدأت بعد سلسلةٍ من الاضطرابات العرقية عام 2009 وازدادت منذ عام 2016. وقد دعت الأمم المتحدة الصين للإفراج عن جميع المحتجزين "تحت ذريعة مكافحة الإرهاب". وقيل إنَّ الولايات المتحدة تفكر في فرض عقوباتٍ على مسؤولين صينيين مشتركين في هذه الحملة، بينما دعا السياسي الماليزي أنور إبراهيم إلى إجراء محادثاتٍ رسمية مع الصين حول هذا الأمر.
تُنكر الصين مزاعم الاضطهاد، وتزعم أنَّ جميع التدابير هدفها تحسين الاستقرار والتضامن في أقصى غرب البلاد، الذي هو موطن حوالي 12 مليوناً من الأقليات المسلمة. وقال قنغ شوانغ، المتحدث باسم وزارة الخارجية، في مؤتمرٍ صحافي يوم الأربعاء 12 سبتمبر/أيلول: "الصين تحمي الحريات الدينية لشعبها. وجميع الجماعات العرقية في الصين تتمتع بالحرية الدينية الكاملة، طبقاً للقانون".
وخارج شينغيانغ، فإنَّ آثار هذا القمع محسوسة بصورةٍ كبير في كازاخستان المجاورة، التي هي موطن لجاليات كبيرة من الإيغور والكازاخ كانت لسنوات طويلة تسافر بين شينغيانغ وكازاخستان.
هنا، تتخبط العائلات في بحثها عن أي معلوماتٍ عن أحبائها المختفين في الصين. بينما يُعبِّر آخرون عن خليطٍ من الذنب والعجز عندما يعرفون من المعلومات القليلة الخارجة من شينغيانغ الواقع القاتم على الجهة الأخرى من الحدود.
تُعتبر كازاخستان أيضاً موطناً لاحتجاجاتٍ متزايدة ضد ما يُنظر له على أنَّه حملةٌ ترعاها الدولة لمحو ثقافات الأقليات في الصين من خلال الاعتقالات الجماعية والترويع والإدماج القسري مع عرقية الهان الصينية.
إلشات إمانوف، أحد النشطاء في مدينة ألماتي بكازاخستان: "يريد الحزب الشيوعي الصيني خلق شعبٍ واحد ووطنٍ واحد بلا إيغور أو كازاخ أو أوزبك.. صينيون فحسب".
ويجمع آخرون مئات الشهادات من أسرٍ اختفى أقرباؤها في الصين، وبدأ محتجزون سابقون الحديث عن الوقت الذي قضوه في هذه المعسكرات.
ليس هناك دين. الحكومة والحزب سيعتنيان بك
اعتقلت الشرطة غولي (23 عاماً) في حديقة في أورومتشي في شهر يونيو/حزيران، وحُكِّم عليها بالسجن 15 يوماً في معسكر احتجاز لأنَّها لم تكن تحمل بطاقة هوية. وكانت السلطات المحلية قد استجوبتها سابقاً، مستشهدةً بتقارير تذكر أنَّها كانت ترتدي حجاباً وتصلي.
ووصفت غولي لصحيفة The Guardian البريطانية مبنى عريضاً من طابقٍ واحد احتُجزَت فيه حوالي 230 امرأةً. وفي الداخل، طُلب من النساء أن ينشدن أغنيات وطنية لساعتين في معظم الأيام، وحفظ قانون تأديبي من 10 نقاط، والخضوع لجلسات نقدٍ ذاتي. وبالليل، تتناوب السجينات على مراقبة بعضهن بعضاً للتأكد من أنَّ أياً منهن لا تغطي وجهها أو تدير ظهرها للكاميرات المثبتة على الجدار.
كانت معظم النساء من الإيغور أو الكازاخ، وقلةٌ منهن كنَّ من عرقية الهان الصينية. وقالت إحدى النساء لغولي إنَّها كانت هناك لأنَّ الشرطة وجدت رسالة "عيد سعيد" على هاتفها. وامرأة أخرى كانت هناك منذ 10 أعوام.
لم تتعرض غولي لأي إساءةٍ بدنية، لكنَّ الضغط النفسي كان بالغاً. كان الحراس يخبرونها بانتظام بأنَّها سوف تُسجن لـ6 شهور أخرى. كانوا يصرخون في السجينات عندما يتكلمن، أو يقتربن من النافذة، أو لا يتكلمن بالصينية. وتتذكر غولي امرأةً في الزنزانة المقابلة لزنزانتها كانت يداها مقيدتين برجليها لأربعة أيام.
وتعتقد غولي، التي أُطلق سراحها بعد 8 أيام من عقوبتها وأُعيدت إلى كازاخستان، أنَّ ما شهدته كان غيضاً من فيض. وقالت: "لقد رأيتُ جزءاً صغيراً فحسب.. الكثير من الناس كانوا هناك لفتراتٍ أطول، وآمل أنَّني بسرد قصتي سوف أساعد على إنهاء معاناتهم في وقتٍ أقرب".
ويحكي محتجزون سابقون آخرون كيف أنَّهم أُرسلوا إلى معسكرات إعادة التثقيف حيثُ يُجبر السجناء على تعلم الصينية، والتعهد بالولاء للحزب الشيوعي، واتباع نظامٍ صارمٍ على النمط العسكري.
كايرات سمرقند، وهو مسلم كازاخي كان في أحد معسكرات إعادة التثقيف خارج كاراماغاي شمال شينغيانغ لحوالي 4 شهور العام الجاري، أُجبر على ارتداء شيء غريب الشكل يسمى "الملابس الحديدية"، وهو عبارة عن زي من المخالب والقضبان يجبره على الثبات في وضع النجمة. وفي إحدى الأيام أُجبِرَ على ارتدائه لـ12 ساعةً بعد أن رفض ترتيب سريره.
وقال سمرقند إنَّ المساجين لم يُطلَب لهم صراحةً التخلي عن دينهم، لكنَّ المعنى كان واضحاً، مضيفاً: "كانوا يقولون، ليس هناك دين. الحكومة والحزب سيعتنيان بك".
قبل كل وجبة، كان على المساجين أن يشكروا الرئيس الصيني شي جين بينغ، وكانوا مطالبين بحفظ أسماء كبار القادة الصينيين عن ظهر قلب وإنشاد أغنياتٍ وطنية. كانت إحدى الأغنيات تقول: "لو لم يكن هناك حزب، لو لم يكن هناك شي جين بينغ، لما كان هناك وطن". وسُمح لسمرقند بترك المعسكر بعد أن حاول الانتحار.
3 آلاف حرف صيني ثمن المغادرة
أحد المحتجزين السابقين صُدم بما رآه عندما أُرسِل إلى معسكر لإعادة التثقيف أوائل العام الجاري: "كنتُ سمعت وعرفت، لكنَّني كنت مذهولاً".
وتذكَّر حبسه في فصول دراسية ومراقبة الحراس له خلال الجلسات الدراسية. وأُخبر المحتجزون المسنون في معسكره أنَّ عليهم أن يتعلموا أكثر من 3 آلاف حرف صيني قبل أن يستطيعوا المغادرة. وخلال الشهرين اللذين قضاهما هناك، لم ير أي شخصٍ يُفرَج عنه. كان معظم السجناء يأملون في إطلاق سراحهم خلال عامٍ أو اثنين. ولمَّا كان مواطناً كازاخستانياً، فقد سمح له أخيراً بالمغادرة.
وقال عن احتجازه: "لا مهرب. تدخل المعسكر، ولا تجد أي مخرج". ومع أنَّه الآن في كازاخستان، فإنَّه لا يزال يخشى على عائلته في شينغيانغ، ويخشى انتقام الحكومة لِتَحدُّثه عما حدث. وقال: "لو ذهبتُ إلى الصين فسوف يقتلونني".
يُحتَجز ما يصل إلى 1.1 مليون شخص في معسكرات إعادة التثقيف، أي ما يشكل حوالي 10% من المسلمين البالغين في شينغيانغ، وذلك بحسب تقديرات منظمة "المدافعون عن حقوق الإنسان" ومبادرة الحقوق المتساوية في الصين.
وحكى محتجزون سابقون في معسكرات الاحتجاز في تقريرٍ حديث لمنظمة هيومان رايتس ووتش عن تقييدهم بالأسرّة أو الكراسي، وتعرضهم للحرمان من النوم، فضلاً عن الضرب والتعليق من الأسقف والجدران. ووصف سكان من شينغيانغ فحوصاتٍ أمنية مفرطة، ومراقبة جماعية، والتهديد المستمر بالقبض عليهم أو إرسالهم إلى أحد المعسكرات.
وقالت مايا وانغ، إحدى كبار الباحثين في الشؤون الصينية بمنظمة هيومان رايتس ووتش: "الموقف في شينغيانغ غير مسبوق بسبب المدى المذهل من انتهاكات حقوق الإنسان الجارية هناك".
"لا يمكننا أن نسأل، ولا يمكنهم أن يقولوا"
الوضع في شينجيانغ يشكّل أزمةً في كازاخستان، حيثُ للكثير من الناس عائلاتٌ تعيش في الصين، أو نشأوا هناك قبل أن ينتقلوا إلى الجهة الأخرى من الحدود كجزءٍ من برنامج إعادة اللاجئين إلى وطنهم.
وقالت منظمة Atazhurt، وهي منظمة محلية تدافع عن المحتجزين الكازاخ في الصين، إنَّها تتلقى ما بين 20 إلى 30 طلباً يومياً من أشخاصٍ احتُجِزَ أقرباؤهم، أو أُلقي القبض عليهم، أو منعوا من مغادرة الصين. وتتعامل هذه المنظمة مع أكثر من ألف حالة.
وحضر أكثر من 100 شخصٍ خلال مقابلاتٍ مؤخراً مع باحثين من منظمة العفو الدولية وهم يمسكون وثائق وصوراً تخص أقرباءهم المفقودين. يشمل أولئك المفقودون آباءً وأجداداً، وأشقاءً وأطفالاً، وشركاء. وفي إحدى الحالات كانت أسرةٌ تبحث عن أخبارٍ عن طفلةٍ تبلغ من العمر 13 عاماً أُرسلت إلى معسكر لإعادة التثقيف.
وتحاول بوتا كوسيان (26 عاماً) إيجاد أبيها ساغيموباي (58 عاماً)، الذي أُرسل إلى معسكر لإعادة التثقيف، في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بينما كان يزور بلدته في مقاطعة إمين في شينغيانغ، وذلك بحسب أقاربه. كان أبوها قد اقتراح قبل مغادرته مباشرةً التقاط صورة عائلية، وكانت تلك هي الصورة العائلية الوحيدة لهما معاً.
وقالت كوسيان: "مشاعري الأولى هي الندم. لم يكن ينبغي لأبي أن يغادر إلى الصين. أما ثاني مشاعري فهو الخوف… أنا خائفةٌ من أنَّه قد لا يرجع". ذكرت كوسيان اسمها واسم أبيها الحقيقيين، على الرغم من احتمالية الانتقام، أملاً في جذب الانتباه لقضيتها.
ويقول المقيمون في كازاخستان إنَّهم لا يستطيعون التواصل مع أقاربهم وأصدقائهم في الصين، بسبب أنَّ مجرد الحديث عبر الهاتف سببٌ كافٍ لوضعهم في معسكر احتجاز، إذ إنَّ كازاخستان واحدة من 26 بلداً تشمل روسيا وتركيا صنفتها السلطات الصينية بالبلدان "الحساسة"، وذلك بحسب هيومان رايتس ووتش.
وقال كاكرمان كوزامبردي، مستشار مؤتمر الإيغور العالمي في كازاخستان: "ما تفعله الصين هو عزل شينغيانغ تماماً عن صلاتها الخارجية".
ومع ذلك، فالعائلات تتواصل كيفما استطاعت، إذ علمت امرأة كازاخية تعيش في ألماتي مؤخراً أنَّ أخاها قد احتُجز. طلبت المرأة عدم ذكر اسمها خوفاً من أن يسوء وضع أخيها. وتقول إنَّ صديقاً اتصل من الصين أخبرها قائلاً: "لم أر أهلك منذ فترة. أظن أنَّهم ربما يكونون في المدرسة"، وهي إشارة للاحتجاز في معسكرات إعادة التثقيف.
وقالت زوجة ابنها، شارحةً لماذا لا يستخدمون أسماءً أو يتكلمون بشكلٍ أكثر تحديداً: لا يمكننا أن نسأل، ولا يمكنهم أن يقولوا، كل ما يمكننا قوله: كيف حال أهلنا؟".
ورداً على طلبات استعلام حول الأقارب المختفين في شينغيانغ، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: "بخصوص الناس الذين سألتم عنهم، فإنَّنا لا نعرف".
"أين أنتِ يا روحي؟"
لا يزال فرخاد يُراسل زوجته، حتى وإن كانت لا تجيب، وكتب لزوجته بعد ساعاتٍ قليلة من آخر رسالة وصلته منها، في شهر يونيو/حزيران 2017: "كيف حالك يا روحي؟ لقد انتهت بطاريتي". وكتب لها في شهر ديسمبر/كانون الأول: "هل كل شيء على ما يرام؟ نحن نفتقدك كثيراً". وكتب لها الشهر الماضي: "يا روحي، أين أنتِ؟". كانت رسالته الأخيرة في الـ8 من شهر يونيو/حزيران، أي بعد مرور عام تقريباً من آخر مرة تحدّثا فيها. وقال في هذه الرسالة: "أرجوكِ أجيبي، نحن قلقون عليكِ… سوف نتذكرك للأبد".
في شهر أغسطس/آب، قاد فرخاد السيارة لثلاث ساعات وصولاً إلى خورغاس، على الحدود بين كازاخستان والصين، حيثُ أقيمت محلات صينية في منطقة للتجارة الحرة. أراد استعارة هاتف بخط صيني للاتصال بأسرة زوجته في شينغيانغ. كانوا قد توقفوا عن الإجابة على مكالماته، ربما لأنَّها كانت ترد من رقمٍ كازاخستاني.
رفض أربعة بائعين في محلات كازاخية، قبل أن يوافق رجل صيني على إعارته الهاتف. اتصل فرخاد بوالد زوجته وتكلّما لبضع دقائق، أغلق الهاتف وهزّ رأسه هزاً خفيفاً.
كانت الأخبار حلوة ومُرة في الوقت ذاته، والد زوجته مريض ولم يتمكن منذ شهور من الحديث مع أم مريم، الموجودة هي الأخرى "في المدرسة"، لكنَّ الآب كان قادراً على الحديث مع ابنته مرةً في الأسبوع، وقال إنَّها بخير.
كان فرخاد مسروراً في طريق العودة. وقال: "شعرتُ دائماً في قلبي بأنَّها حية، لقد غادرت لقضاء ما كان يفترض أنَّه 10 أيام لتختفي لعامين، عندما تعود لن أتركها تغادر أبداً".