تدوينة: عبير يوسف
تلقَّيتُ الفترة السابقة أسئلة كثيرة عن رؤيتي حول الانتخابات الرئاسية القادمة في مصر، وهل أنا مع أو ضد ترشح بعض الأشخاص المحسوبين على الثورة في تلك الانتخابات؟ وعن اتخاذنا خطوة المشاركة من عدمها ومدى تأثير ذلك الحقيقي في مسار التحول الديمقراطي لمصر، واسمحوا لي قبل الإجابة عن هذا السؤال أن أحكي لكم قصة تشيلي والديكتاتور بينوشيه.
في عام 1970 كان قد وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور ألليندي لسُدة الحكم في تشيلي عبر انتخابات حرة ومباشرة، وبالطبع كان ذلك ضد رغبة الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الوقت كانت أميركا اللاتينية تمر بحالة دعم واضح للاشتراكية والعداء الواضح والصريح للرأسمالية، مما هدد مصالح الولايات المتحدة الأميركية في حينها، واتخذ ألليندي سياسات ضربت مصالح الولايات المتحدة في تشيلي بانتصارها وانحيازها الكامل لجانب الفقراء.
قررت الولايات المتحدة أن سلفادور ألليندي يمثل خطراً كبيراً يهدد مصالحها، ولكنها في نفس الوقت لم تكن قادرة على الطعن أو التشكيك في شرعيته كحاكم، ولذا قررت إزاحته عن الحكم من خلال رجلها المختار للقيام بهذا الدور، وهو الجنرال أوغستو بينوشيه، قائد الجيش الذي استولى على السلطة في سبتمبر/أيلول سنة 1973، قام بينوشيه بمحاصرة واقتحام القصر الرئاسي بالدبابات، وطالب سلفادور ألليندي بالاستسلام والهروب، الذي أسفر عنه رفض ألليندي الذي قام بلبس الوشاح الرئاسي و وقف في القصر الرئاسي يدافع عنه ويقتل فيه وهو رافضٌ التخلي عن حقه الشرعي في الحكم.
بدأ أوغستو بينوشيه عهده العسكري بقتل الرئيس، وتعليق الدستور، وأعلن المجلس العسكري حاكماً لتشيلي، واستمر يحكم تشيلى لمدة تقارب سبعة عشر عاماً، كان فيها العدو الأول لكل المفكرين والكتاب في أميركا اللاتينية، وقام بتحريم الأحزاب السياسية اليسارية، ومنع أي نشاط سياسي، ومارس الإرهاب السياسي، وطارد اليساريين في كل أنحاء البلاد، ونتيجة لأفعال المجلس العسكري تم قتل أكثر من ثلاثين ألف مواطن تشيلي، أو اختفوا في ظروف غامضة، منهم اثنا عشر ألف مواطن قام جنود الديكتاتور بفتح النار عليهم في الاستاد، وعذب وسُجن أكثر من سبعة وعشرين ألفاً آخرين، ونُفي الكثيرون، أو هربوا طالبين اللجوء السياسي، ومنهم السياسية التشيلية إيزابيل ألليندي ابنة سلفادور ألليندي، والروائية التشيلية الأعظم إيزابيل ألليندي ابنة أخيه.
وأريد هنا الوقوف عند تجربة بالغة الأهمية حدثت حينها، ففي عام 1980 عندما أُقر بينوشيه دستوراً جديداً للبلاد، وقام بعمل استفتاء بمرشح واحد للسلطة، في ذاك الوقت كان البلد يمر بحالة كراهية فظيعة لنظام بينوشيه، والضغوط الدولية كانت متزايدة، مما مكن العامة من القدرة على إعادة القاعدة المدنية للبلاد.
وفي عام 1988 رفض الكونغرس إقرار دستور يتيح لبينوشيه حكم البلاد طوال حياته، وفضل بينوشيه وقتها الذي كان ما زال محتفظاً بنفوذه الكبير سياسياً وعسكرياً أن يتنازل عن رئاسة البلاد لباتريسيو أيلوين، الرئيس المنتخب ديموقراطياً عام 1989، ولكنه حافظ على منصبه كقائد للجيش إلى عام 1998.
تجربة الانتخابات الديمقراطية ضد نظام عسكري قمعي؛ لكي تكون قادرة على النجاح يتوجب معها حدوث حالة من التمهيد الحقيقي للأرض، وبطريقة تسمح للمجتمع بالتجاوب معها، لقد خاضت المعارضة قبل الانتخابات نضالاً عنيفاً؛ لكي تستطيع أن تعدل كفتي ميزان القوى في تشيلي، وذلك مما ساهم في فوز لباتريسيو، حجم الاحتجاجات العمالية وقتها كان كبيراً جداً، والتدريبات التي كانت تقام في الكنائس في توعية الشعب حول فكرة مقاومة القمع باستخدام وسائل التغيير اللاعنيف كانت على أشدها، وكذلك حجم المظاهرات التي كانت تجتاح البلد كانت مرعبة، وكنتيجة واضحة ومنطقية لذلك أجبر بينوشيه على تقديم تنازلات قبل الاستفتاء، قام المعارضون بتسجيل الانتهاكات التي كانت تحدث ونجحوا في تشويه سمعة الحكومة، وقد وصل الأمر حينها بالمعارضة للاستعانة بالفن كوسيلة احتجاجية، فقاموا بالاستعانة بفكرة الغناء في الشوارع مع استخدام هتافات بسيطة تعلق في دماغ العامة وفي وعيهم، مثل "إنه سيسقط، إنه ذاهب للسقوط"، وكانوا يقومون بالرقص في الشوارع، الأمر الذي أفقد بينوشيه قدرته على السيطرة وقرر معها منع الغناء، المعارضون حرصوا على إظهار سلميتهم حتى لا يمنحوا النظام الفرصة لتشويههم أمام الشعب، تكتيكات المعارضة كانت متنوعة ومبدعة، مما أسفر عن مشاركة شعبية مذهلة واستخدامهم للفن والأدب والمسرح كان مؤثراً في نفوس العامة.
تجربة الانتخابات المدنية التي نجحت في تشيلي في ظل حكم عسكري قمعي، والذي يقوم الكثيرون بالاستشهاد بها حالياً، في ظل الظروف القائمة في مصر في هذه الفترة هو استشهاد غير صحيح؛ لأن هذه التجربة نجحت بسبب وجود أرضية شعبية وجماهيرية تساندها، وهو بالطبع ما نفتقده حالياً، وبشدة.
وسيظل السؤال الذي أطرحه دائماً قائماً، فإذا كنا نريد خوض التجربة فلماذا لا نقوم بالتجهيز والاستعداد لها؟ لماذا لا نمتلك الرؤية والأهداف الواضحة التي تمكننا من تحقيق نتائج عند خوض التجربة؟ وإذا سألت من يريدون خوض تجربة الانتخابات حالياً حول التكنيك أو الرؤية التي يمتلكونها ستفاجأ بأنه ليس هناك إجابة لتلك الأسئلة، فكل ما نفعله الآن هو إعادة إنتاج تجربة تنحي مبارك بكل تفاصيلها المريرة، فنحن رغم مرور ما يقارب من سبعة أعوام على خوضنا لتجربة الثورة المصرية، فإننا لا نمتلك خطة واضحة ولا هدفاً مفهوماً لكى نصل إليه؛ لأنه من المؤكد أن الهدف ليس استغلال الانتخابات؛ لكي نستطيع النزول إلى الشارع؛ لأن وقتها سيكون السؤال: لماذا لم نكن ننزل من قبل؟
ومن المؤكد أننا سنقوم بدفع ضريبة فادحة في خلال هذه الانتخابات والتي بدأت بالقبض على اثنين من المرشحين اللذين أعلنا عن رغبتهما الواضحة للترشح، وهما الفريق أحمد شفيق الذي يعتبر الابن البار لهذا النظام، ولكن لم يشفع له ذلك، وقد قامت دولة الإمارات الشقيقة بالقبض عليه مؤخراً بناء على التصريحات التي أدلى بها أحد المقربين من عائلة شفيق، طبقاً لوكالة رويترز، بينما انتهى الأمر بالعقيد أحمد قنصوة أمام المدعي العام العسكري الذي أسفر التحقيق معه عن قرار بحبسه 15 يوماً على ذمة التحقيق، أما المرشح الثالث خالد علي الذي يواجه حكماً محتملاً عليه في القضية المقامة ضده، والتي سوف تنظر في شهر يناير/كانون الثاني القادم.
ومن المتوقع أن يقوم النظام بحملة اعتقالات واسعة للشباب قبل الانتخابات، ورغم أنه من المؤكد أنني لست ضد فكرة دفع تلك الضريبة، ولكن عندما نقوم بدفعها يجب أن نكون واعين تماماً لنتيجة ذلك، فلو أننا نرغب في خوض هذه التجربة فيجب أن يكون هذا مقروناً باستراتيجيات واضحة ومعلنة، و يجب الإجابة عن بعض الأسئلة بوضوح مثل: ماذا سيكون رد فعلنا في حالة حدوث حالات تزوير فاضحة؟ هل سننسحب مثلاً أم أننا سنستمر؟ وما هي الطريقة المتبعة لإثبات مثل هذا التزوير وفضحه؟ لأننا إذا قررنا خوض اللعبة على أرضية العدو، فلن يكون النصر حليفنا أبداً، لا يمكن أن تنتصر وأنت تلعب مع خصمك على أرضيته وبقوانينه.
وفي فيلم أجنبي يحمل اسم "انتظر حتى يعم الظلام" أو "Wait until dark" الذي يحكي عن عصابة لتهريب الهيروين، التي تحاول إحدى أعضائها أن تسرق جزءاً منه لتبيعه لصالحها، وتجد أن باقى أعضاء العصابة يكتشفون ما فعلته، فتقرر وضع الهيروين في دمية وإعطاءها لأحد المسافرين معها على متن الطائرة وهو "سام"، "سام" متزوج من فتاة مصابة بالعمى، والتي استطاعت أن تتعايش مع إعاقتها ورتبت بيتها بشكل تستطيع معه التعامل والتكيف، وهي "سوزي"، تكتشف العصابة مكان الدمية وتذهب لمهاجمة الزوجة في بيتها وهي بمفردها، فماذا تقرر أن تفعل "سوزي"؟ تقرر أن تُغير من قواعد اللعبة وتلعبها وفقاً لقوانينها، وتقوم باستخدام حالة العمى المصابة بها لتصبح خاصية تتميز بها على العدو، تقوم "سوزي" بقطع الكهرباء بالكامل عن المنزل، وبذلك يفقد الخصم الميزة النوعية التي كان يتفوق فيها عليها وهي البصر، ولكنها لم تفقده فقط هذه الميزة، ولكن كان لها الأفضلية؛ لأنها وبحكم أنها عمياء أصلاً فحواسها الأخرى أفضل ومدربة أكثر منه على التعامل مع الظلام، وتنتصر "سوزي" في النهاية باستخدام قوانينها الخاصة.
الخلاصة:
ستواجه الكثير من الهزائم في حياتك، المهم ألا تترك نفسك مهزوماً، ولن تجد نفسك مهزوماً إلا إذا انسحبت، إنما سيظل النصر حليفك طالما قررت أن تخوض التجربة وأنت واعٍ تماماً بكل تفاصيلها، وتحاول خلق أرضيتك، واللعب عليها بدلاً من أن يقوم العدو بجرك للعب بقوانينه وعلى أرضيته، أنا جداً مع فكرة خوض التجربة وبقوة، ولكن بشروط، منها أن نمتلك أهدافاً واضحة واستراتيجيات معلنة وآليات يمكن استخدامها حتى خلال أسوأ السيناريوهات وأحلك اللحظات التي من الممكن حدوثها؛ لأنه من المؤكد أن إعادة عمل نفس الأخطاء وتوقع نتائج مختلفة هو ضرب من الجنون، ويقول مصطفى صادق الرافعي: "قضت الحياة أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات، لا لمن يضربها" ويقول ماريان مور: "النصر لا يأتي إلا إذا ذهبت إليه".
اسمعوا واستمتعوا بأغنية محمد منير "قلب الوطن مجروح":
قلب الوطن مجروح لا يحتمل أكتر
نهـــــرب وفين هنروح لما الهموم تكتر
نحمي غصون الورد من دمع سال ع الخد
آه يا حبيبة الروح قلب الوطن مجروح
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.