يعود تاريخ الولايات المتحدة الطويل المتعلق بالأسلحة الكيميائية إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، إذ خصصت أمريكا العديد من مرافق البحث والتطوير، ومصانع الكيماويات والتعبئة والمعامل ومجالات التدريب.
واليوم، بعد توقيعها على اتفاقيات الأسلحة الكيميائية (CWC)، لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ بقدرات حرب كيماوية هجومية.
بحسب التقارير الرسمية المُعلنة، قامت وزارة الدفاع بالفعل بتنظيف العديد من المنشآت الكيميائية السابقة، والتخلص الآمن من أسلحتها المُحرمة بموجب التعهدات الدولية.
حظر الأسلحة الكيميائية وتجريم استخدامها منذ القرن الـ19
بدأت الجهود الدولية لمنع استخدام المواد الكيميائية السامة في الحروب البرية منذ القرن التاسع عشر. وكانت المحاولة الأولى للتوصل إلى اتفاقية دولية تحد من استخدام الأسلحة هي الإعلان الدولي لعام 1874 بشأن قوانين وأعراف الحرب، والذي تضمن في المادة 13 (أ) حظراً لاستخدام الأسلحة المسممة.
أما المحاولة التالية فهي اتفاقية لاهاي لعام 1899. وتضمنت إعلاناً بشأن استخدام المقذوفات التي يكون هدفها هو انتشار الغازات الخانقة.
وعليه وافقت 27 دولة، بما في ذلك النمسا والمجر وفرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى وروسيا، على هذا البند.
وفي القرن العشرين، حظرت المادة 23 من اتفاقية لاهاي لعام 1907 بشأن الحرب البرية صراحة استخدام "السموم أو الأسلحة السامة" في الحرب، حسب موقع Denix الإحصائيات والمعلومات التاريخية.
الاستخدام الأول خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)
رغم الجهود الدولية، شهدت الحرب العالمية الأولى أول استخدام واسع النطاق للأسلحة الكيميائية السامة في الحرب البرية. إذ استخدمت القوات الفرنسية والألمانية في 1914 كميات محدودة من الغازات المسيلة للدموع إيثيل برومو أسيتات، وكلورو أسيتون.
لكن التركيزات لتلك الأسلحة الكيميائية كانت محدودة جداً، لدرجة أن استخدام المواد تم دون أن يلاحظه أحد أو يُوثَّق.
وقد شهدت معركة بوليموف في 31 يناير/كانون الثاني من العام 1915، أول استخدام واسع النطاق للغاز المسيل للدموع، عندما أطلقت القوات الألمانية حوالي 18 ألف قذيفة تحتوي على غاز بروميد السائل المسيل للدموع على المواقع الروسية، ولكنه أثبت عدم فاعليته.
فيما شهدت معركة إبرس الثانية ببلجيكا، في 22 أبريل/نيسان عام 1915، أول استخدام ناجح على نطاق واسع للأسلحة الكيميائية الفتاكة، عندما أطلق الجيش الإمبراطوري الألماني 188 طناً، من البرثولايت (غاز الكلور) ضد القوات الفرنسية والكندية، ما تسبب في حدوث ما بين 6 و7 آلاف إصابة.
اهتمام أمريكي بتطوير السلاح الكيميائي
بعد استخدام غاز الكلور في تلك الواقعة، بدأ الجيش الأمريكي في دراسة الحرب الكيميائية. وأجرى البحث الأولي في محطة التجربة بالجامعة الأمريكية بالقرب من واشنطن.
ولأن الحرب الكيميائية كانت تهديداً كبيراً للقوات الأمريكية، خصصت إدارة الذخائر بالجيش ميزانية خاصة لإنتاج قسم الحرب الكيميائية بالجيش (CWS)، الذي تأسس في 28 يونيو/حزيران 1918.
وبعد عامين من واقعة استخدام الألمان للخردل، أعلنت الولايات المتحدة مشاركتها في الحرب تزامناً مع تصنيع الخردل والكلور وقاذفات كيميائية مختلفة.
تطوير ترسانة السلاح الكيميائي الأمريكية
بعد عام 1919، استمر قسم السلاح الكيميائي بالجيش الأمريكي CWS في البحث والتطوير وتخزين العوامل الكيميائية والذخائر والتدريب.
وفي عام 1928، اختار CWS سبعة عوامل كيميائية للاستخدام العسكري هي: ميثيل كلوروارسين (MD)، آدمسيت (DM)، كلورو أسيتوفينون (CN)، رباعي كلوريد التيتانيوم (FM)، الفسفور الأبيض (WP)، وأكسيد الزنك وسداسي كلورو الإيثان (HC).
وفي عام 1937، أعاد المركز تأهيل خط إنتاج عامل الخردل في الحرب العالمية الأولى وأنتج 154 طناً إضافياً من خردل الكبريت.
وخلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، قام CWS بتطوير وتخزين أجهزة وأسطوانات وقذائف الهاون. وقذائف مدفعية وألغام وقنابل طائرات مملوءة بالعوامل الكيميائية.
بين عامي 1940 و1945، أنتجت CWS ما يقرب من 146 ألف طن من العوامل الكيميائية في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
ومع ذلك، بالاعتماد على تجربة الحرب العالمية الأولى والجهود المبذولة في سنوات ما بين الحربين لإبرام اتفاقيات دولية تحظر استخدام الأسلحة الكيميائية، وضع الرئيس روزفلت سياسة عدم الاستخدام الأول للأسلحة الكيميائية مع بداية الحرب العالمية الثانية.
وبالتالي لم يتم استخدام أي من الأسلحة الكيميائية الأمريكية أثناء الحرب.
ما بعد الحرب العالمية الثانية والتخلص من المخزون الكيميائي في البحر
ففي أعقاب الحرب في أوروبا، عثر الحلفاء على مخزون ضخم من الأسلحة الكيماوية الألمانية بلغ حوالي 296,100 طن.
رداً على ذلك، وافقت اللجنة القارية للإغراق على أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي سوف يدمرون الأسلحة الكيماوية الألمانية في البحر، باعتباره كان الخيار الأكثر كفاءة وفاعلية في ذلك الوقت.
كما تم التخلص من مخزون الولايات المتحدة من الذخائر والمعدات المصنوعة للحرب الكيميائية في البحر، ولكن استخدمت أمريكا عينات مما تمت السيطرة عليه من المخزون الألماني لتطوير معاملها في فترة ما بعد الحرب.
وكان من بين ذلك تطويرها لغاز السارين القاتل الذي يدمر الجهاز العصبي للإنسان ويؤدي للموت المُحتم.
السلاح النووي يستقطب الاهتمام
مع ظهور الأسلحة الذرية والنووية الحرارية، بدأ الجيش الأمريكي في تحويل تركيزه بعيداً عن الأسلحة الكيميائية.
وفي أوائل الثمانينيات اضطر الاتحاد السوفييتي إلى دخول مفاوضات للحد من الأسلحة وتوقيع اتفاقية ثنائية في عام 1990. وأدت هذه الاتفاقية إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية، وهي معاهدة دولية وقعتها أكثر من 180 دولة تنص على القضاء على مواد الحرب الكيماوية ومنشآت إنتاج الأسلحة الكيماوية السابقة.
وخلال الفترة من عام 1990 إلى عام 2000، دمرت الولايات المتحدة أكثر من 400 ألف صاروخ كيميائي وقذيفة وقنابل ومدافع هاون وحاويات أطنان وألغام، تحتوي على مركبات كيميائية مثل السارين والخردل والكلور.
وهي تتخلص حتى اليوم، مما لديها من مخزون، وبالرغم من ذلك، فإن هناك بعض الحالات التي تم فيها توثيق استخدام أسلحة كيميائية من قِبَل أمريكية، كان معظمها على المدنيين.
1- الاستخدام الأول للأسلحة الكيميائية الأمريكية في فيتنام
خاضت القوى العظمى للعالم، في الفترة من 1955 وحتى 1973، حرباً بالوكالة عن بُعد، وفيها حاربت أمريكا شمال وجنوب فيتنام.
لم تساعد أمريكا فيتنام الجنوبية على إلقاء الأسلحة الكيماوية على المدنيين والمقاتلين على حدٍّ سواء فحسب، بل ويُعتقد أنها ألقت 20 مليون جالون من المواد الكيميائية بنفسها من الأسلحة الكيميائية المُحرمة.
وتضمنت الأسلحة المستخدمة العامل البرتقالي المزيل للنباتات الذي تسبب وفقاً للصليب الأحمر في إصابة مليون شخص -والعديد من المحاربين القدامى الأمريكيين أنفسهم الذين شاركوا في الحرب- بأمراض شديدة مع عيوب صبغية وتشوهات خلقية ومعدلات عالية من أمراض السرطان.
كما تم استخدام النابالم بحسب PBS الأمريكية، الذي تم تطويره في جامعة هارفارد عام 1942، بشكل عشوائي. الذي يولِّد درجات حرارة تصل إلى 1200 درجة مئوية، ويسبب حروقاً شديدة واختناقاً، والتسمم بأول أكسيد الكربون، وعواصف نارية.
عندما تم تصوير الطفلة كيم فوك البالغة من العمر تسع سنوات وهي تصرخ عارية ويغطي جسدها النابالم المحترق بعد أن أسقطت القوات الفيتنامية الجنوبية، المدربة والمجهزة من قبل الولايات المتحدة، عُرف تجاوز الولايات المتحدة للمواثيق الدولية، وتم توثيق فدائح هذا السلاح وتداعيات استخدامه.
2- تجارب واختبارات على حي فقير للسود
في مدينة سانت لويس، بولاية ميسوري الأمريكية، شهدت المنطقة الفقيرة وذات الأغلبية من السود استخدامات للأسلحة الكيميائية أيضاً.
ولسنوات عديدة تم استخدامه من قبل الفيلق الكيميائي للجيش الأمريكي لإجراء تجارب سرية لمعرفة كيفية تشتت الجزيئات الكيميائية في الغلاف الجوي، بحسب موقع History Collection.
تم وضع الرشاشات على المساكن والمدارس وحتى المركبات، من بينها مجمع Pruitt-Igoe السكني، الذين كان 70% من سكانه البالغ عددهم 10 آلاف هم من الأطفال دون سن 12 عاماً.
قيل للناس إن الجيش كان يختبر شاشة دفاعية من الدخان في حال وقوع غزو روسي، لكن كشفت الوثائق التي رفعت عنها السرية لاحقاً أن المواد التي أطلقت على المنطقة "منطقة عشوائية مكتظة بالسكان" كانت سلاحاً كيميائياً مصنوعاً من كبريتيد كادميوم الزنك ومركب يُعرف باسم FP2266 يُعتقد أنه مشع.
أبلغ السكان عن الوفيات المبكرة والسرطان وتم الكشف أخيراً عن الاختبار في عام 1994، على أنه تم في الفترة من 1963 وحتى 1965.
وتؤدي الجرعات العالية من الكادميوم على مدى فترات طويلة مشاكل في العظام والكلى وسرطان الرئة.
وقد تم هدم مجمع Pruitt-Igoe بالجرافات في عام 1976 لإخفاء أثر العملية.
3- عملية محلية استخدمت غاز السيانيد
في عام 1993 قيل إن طائفة دينية مجنونة تمارس ممارسات غريبة من بينها تعدد الزوجات لزعيم الحركة، واتُّهمت بإساءة معاملة الأطفال، كانت في الواقع تخزن أسلحة نارية غير قانونية.
وعند محاولة السلطات التحقيق في ممارسات تلك الطائفة، رفضت وقررت الجماعة الدينية أن تتحصن بمزرعة في تكساس ورفضت الخروج.
استمر الحصار ستة أسابيع وانتهى بمعركة مسلحة ونيران متبادلة، وخلال العملية أطلق مكتب التحقيقات الفيدرالي غاز سي إس على المزرعة والمنزل، ثم نفى القيام بذلك في التحقيقات اللاحقة.
لكن تضمنت صور التشريح لـ76 من أعضاء حركة Davidians أو الداووديين الذين قُتلوا، وكان من بينهم أطفال، ظهور أعراض تسمم السيانيد، وهو أحد الآثار الجانبية لغاز سي إس الكيميائي المُجرم استخدامه.
4- غاز الفسفور في حرب العراق
يمكن للفوسفور الأبيض أن يقتل عن طريق حرق الأنسجة البشرية. وهو يواصل الاحتراق ما دام هناك أوكسجين، لذا مهما تمت محاولة إخماده يقوم بالاشتعال مرة أخرى.
وعند استخدامه في أسلحة كيميائية مُحرمة دولياً يذوِّب الجلد، ويمكن أن يتسبب في تلف القلب والكبد والكلى وفشل العديد من الأعضاء. أما إذا تم استنشاقه فيمكن أن يحرق الرئتين من الداخل إلى الخارج، وإذا تم تناوله يمكن أن يدمر الأعضاء الداخلية.
يُسمح باستخدامه كإضاءة أو كحاجز دخاني للتمويه، ولكن ليس ضد الأفراد. ومع ذلك تم استخدامه من قبل مشاة البحرية الأمريكية في معركة الفلوجة الأولى، ضد من وصفتهم بـ"المتمردين"، كتكتيك لإخراجهم من المباني.
اشتكت الولايات المتحدة في عام 2009 من أن حركة طالبان تستخدمها "بشكل غير قانوني" ضد القوات المتحالفة معها، ثم اعترفت باستخدامها بنفسها لاحقاً.
كما اتُّهمت المملكة العربية السعودية باستخدام الفوسفور الأبيض الذي قدمته الولايات المتحدة لها، في اليمن بين عامي 2009 و2016.
5- استخدام أمريكا للسلاح الكيميائي مستمر لليوم
يُصنف السي إس أو، الغاز المسيل للدموع، على أنه سلاح كيميائي، وقد تم حظر استخدامه في الحروب منذ عام 1993. ومع ذلك يُسمح به لمكافحة الشغب محلياً، وكان آخرها عندما تمت مواجهة المحتجين على أداء دونالد ترامب للقسم الجمهوري في 2017.
ويتسبب الغاز في حرق العين وإفرازات مخاطية غزيرة، وصعوبة في التنفس، وعجز جزئي. ومع أنه يعتبر غير قاتل، لكنه يرتبط بتلف القلب والرئة والكبد الدائم والإجهاض والطفرات الجينية الدائمة.