من معاهدة لوزان التاريخية إلى التواجد في ليبيا.. محاولة لفهم التحرك التركي في المنطقة (2)

عدد القراءات
1,643
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/22 الساعة 09:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/23 الساعة 07:58 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع فايز السراج


لفهم خريطة التحرك التركي ودوافعه في المنطقة، ناقشنا في الجزء الأول من هذه المقالة الأبعاد التاريخية وتحدثنا عن معاهدة لوزان التي قلصت دولة الأتراك جغرافياً، وطرحنا كذلك أسباب التغير المحوري في سلوك القيادة التركية  التي بنت مشروعها التنموي سابقاً على أساس نظرية تصفير المشاكل،  بل والعجيب هو إجماع قيادات الحزب بمن فيهم المنشقون عن أردوغان (داوود أوغلو وعبدالله جول وعلي باباجان) على دعم تلك التحركات، ورأينا كذلك نفس الدعم من المعارضة القومية.

في هذا الجزء سنسلط الضوء على أسباب الوجود التركي في ليبيا تحديداً، ولماذا لا يمكن لوم الأتراك في بحثهم عن مصالح بلادهم الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والعسكرية؟ خاصة في ظل انكماش البلدان العربية وتحوّلها إلى مرتع لكل مَن أراد العبث بها أو استغلالها ونهب خيراتها.

ليبيا حجز الزاوية

عوداً للملف الليبي، فبلاد عمر المختار غارقة في الفوضى وهي منقسمة بين معسكرين، شرقي بزعامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر ويدعمه إقليمياً مصر والإمارات والقيادة السودانية الجديدة والأردن ودولياً فرنسا وروسيا. ومعسكر غربي يقطنه أكثر من ثلثي السكان وتدعمه قطر وإيطاليا نسبياً ويحظى باعتراف دولي، فيما يبدو الموقف الأمريكي غير واضح حتى الآن. وجدت تركيا الفتية الفرصة سانحة لضرب عدة عصافير بالحجر ذاته عبر التواجد في الملف الليبي:

سياسياً ها هو أردوغان يقدم نفسه باعتباره الرجل الذي لم ينس أمجاد الدولة العثمانية، ويسعى لرفع الظلم الواقع عليها منذ هزيمة الحرب العالمية الأولى 1918، ولعله يخلد اسمه في التاريخ كمؤسس للدولة التركية الثانية في الذكرى المئوية لإقامة الدولة الأولى؛ كذلك ينضم لحليفته الأقرب قطر في دعم حكومة الوفاق ذات التوجه الإسلامي ويحقق نصراً سياسياً هاماً بحماية العاصمة طرابلس من السقوط تحت يد قوات حفتر، وبذلك يكون قد ضمن حليفاً له على الجهة الجنوبية من المتوسط. جغرافياً واقتصادياً تتجاوز تركيا الحدود البحرية التي فُرضت عليها في أعقاب تسليم الجزر لليونان، وبالتالي التمدد عشرات الكيلومترات بحراً في منطقة شديدة الغنى بالمخزونات الأحفورية (تعتمد تركيا في ذلك التقسيم على نظرية الجرف القاري، لكنها تتغاضى عن وجود جزيرة كريت وقبرص ورودس)، كذلك تقطع تركيا الطريق على خط الغاز المزمع إقامته 2025 من الحقول التي ينهبها الكيان الصهيوني في شرق المتوسط إلى أوروبا (حقل غزة مارين – حقل ليفياثان – حقل تانين – حقل كاريش – حقل رويي)، بما يحفظ لتركيا مكانتها كأهم ممر للغاز للقارة العجوز التي تعتمد بنسبة 33% على الغاز الروسي الذي يمر بنسبة كبيرة عبر تركيا.

ما زلنا اقتصادياً حين نتحدث عن عزم الشركات التركية التنقيب في ليبيا عن النفط والتي لم يستكشف من نفطها إلا النزر القليل مقارنة بمخزوناتها المؤكدة المقدرة بقرابة 48 مليار برميل، فيما يبقى مخزونها الغازي في البحر المتوسط مجهولاً حتى الآن مع تقديرات بتريليونات الأقدام المكعبة، كما يحفظ التدخل التركي لشركاته حصة لا بأس بها من إعادة الإعمار في الدولة الثرية صاحبة أكبر احتياطي نفط في القارة السمراء، والتاسعة على مستوى العالم.

استراتيجياً، ضمنت تركيا لنفسها مقعداً هاماً في أي اتفاقية تتم في شرق المتوسط بسيطرتها ولو جزئياً على رابع أكبر دولة من حيث المساحة إفريقياً والتي تملك 1850 كيلومتراً من الشواطئ المطلة على حوض شرق المتوسط الذي ُينظر له عالمياً باعتباره صاحب ثاني أكبر مخزون من الغاز الطبيعي في العالم بعد إقليم سيبيريا وقبل حوض الخليج العربي، حيث قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن حوض شرق المتوسط يحتوي على 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي تم تعديله في 2019 ليصل إلى 340 تريليون قدم مكعب و1.7 مليار برميل من النفط، وإن قدرت مصادر أخرى الكميات بأرقامٍ أعلى.

عسكرياً، نجحت تركيا بتدخلها في ليبيا بتقديم نفسها كقوة عسكرية تستطيع القتال على أكثر من جبهة بأريحية تامة، بل وتستغل تلك الجبهات في اختبار أسلحتها ومنظوماتها العسكرية الحديثة "درون بيرقدار ومروحيات أتاك ومدفع تي 155 وتي 122 ومنظومة تامكار لمكافحة الألغام وكورال للحرب الإلكترونية ومنظومة هوك وأتيلجان وحصار للدفاع الجوي وعدد متنوع من المدرعات وناقلات الجند والأسلحة الخفيفة".

بواعث التحركات التركية في ليبيا

يدرك الأتراك الأهمية الكبرى للبحر المتوسط لدولتهم، ويكفي الاطلاع على كتاب العمق الاستراتيجي لرئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، والذي حذر فيه من إغفال البحر المتوسط، منوهاً بأن بداية سقوط الدولة العثمانية كانت حين فقدت سيطرتها عليه، وهو ما أكده قبله الأدميرال رمضان غوردينيز خلال ندوته في مركز قيادة القوات البحرية التركية عام 2006، لذا تسعى تركيا عبر مشروعها الوطن الأزرق لفرض سيطرتها على مساحة تقدر بـ462 ألف كيلومتر في شرق المتوسط وبحر إيجة، وهو ما أكده وزير الدفاع التركي خلوصي آكار في احتفالات يوم النصر في 30 أغسطس/آب 2019، وتحدث بشأنه أردوغان في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، وفي نوفمبر/تشرين الثاني قُدم المشروع للأمم المتحدة عبر ممثل تركيا في المنظمة بهدف تقسيم المناطق الاقتصادية في المنطقة.

 التدخل التركي في ليبيا هو لتلبية النهم المتزايد على النفط والغاز (تركيا تستورد 92% من احتياجاتها من النفط و98% من الغاز الطبيعي)  وتحقيق مصالح الشركات التركية، وهو ما أكده داوود اغلو في كلمته المصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقوله: "لا يمكن إنشاء نظام في شرق المتوسط بتجاهل تركيا، وإنها طرف رئيسي في أي معادلة للأمن والطاقة في المنطقة"، لكنها في ذات الوقت لن تخاطر بصراعٍ مباشرة مع دولة حدودية لليبيا وقوية عسكرياً كمصر.

تجنب "سيفر" جديدة

يمكننا القول إن التدخل التركي جنب أحفاد العثمانيين إقرار اتفاقية في المنطقة لا تقل إجحافاً بحقهم عن اتفاقية سيفر، فتركيا هي الدولة صاحبة أطول ساحل بر رئيسي شرقي المتوسط  تُحرم تماماً من الحصول على نصيبها من كنوزه لصالح اليونان وقبرص، بتدخلها تمكنت  ولو بحد السيف من تطبيق القانون الدولي لصالحها، إذ تنص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 على تحديد المنطقة الاقتصادية لكل دولة بمقدار 200 ميل بحري (370 كم) من سواحلها، وفي حالة شرق المتوسط تكون الدول ذات الحدود البحرية الأقرب هي صاحبة الحدود؛ وبالتالي فإن مصر وتركيا بحدود مشتركة تقدر بـ322 كم والمسافة بينهما تبلغ 274 ميلاً بحرياً دون احتساب جزيرة "كاستلوريزو" التي تحتلها اليونان طبقاً لاتفاقية لوزان 1923، وهو ما يعني أن مصر وتركيا هما الأحق من قبرص واليونان باقتسام تلك الحدود، إذ تبلغ المسافة بينهما 297 ميلاً بحرياً.

تستند تركيا على أن الجزر الكائنة في البرين الرئيسيين لا يمكن أن تشكل سيادة بحرية خارج مياهها الإقليمية، وأنه عند حساب حدود السيادة البحرية يتم الأخذ بعين الاعتبار طول السواحل واتجاهاتها، وهو ما من شأنه لو أخذ بعين الاعتبار رد مساحة 40 ألف كيلومتر مربع للدولة المصرية سلبت منها في اتفاقيتها لتقسيم الحدود مع قبرص واليونان، ومع هذا فلا يبدو الموقف المصري مستغرباً كثيراً بالنظر لطبيعة العلاقات والمناوشات المصرية التركية في أعقاب أحداث 2013 في مصر والتصريحات الصادرة من أنقرة والتي أثارت حفيظة الحكام الجدد للقاهرة وأدت لشبه قطيعة سياسية بين البلدين، كذلك فإن مصر تنظر بعين يملأها التوجس والحذر من مساعي تركيا التوسعية في المنطقة العربية وعزمها إقامة قواعد على حدودها الغربية.

نجحت تركيا بتواجدها في ليبيا بامتلاك ورقة ضغط على الصعيد الإقليمي تجبر بها دول منتدى غاز شرق المتوسط على التفاوض معها، وهو المنتدى الذي تأسس بالقاهرة في كانون الثاني/يناير 2019 كنتيجة للقمة التي عقدت في جزيرة كريت اليونانية بمشاركة مصرية قبرصية يونانية ووقعت عليه شركات توتال وإني ونوفتك وإكسون، لاحقاً انضمت لعضوية المنتدى كل من الأردن وإيطاليا وإسرائيل تلا ذلك طلب فرنسا رسمياً الانضمام لعضوية المنتدى، كما أعرب نائب مساعد وزير الطاقة الأمريكي عن رغبة بلاده في الانضمام كمراقب بصفة دائمة.

ختاماً.. لا يمكن اللوم على الأتراك في بحثهم عن مصالح بلادهم الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والعسكرية في البلدان العربية، بخاصة في ظل انكماش الأخيرة والتي أصبحت مرتعاُ لكل من أراد العبث بها أو استغلالها ونهب خيراتها، في مشهد أشبه ما يكون بحال الدولة العثمانية في آخر أيامها حين سميت برجل أوروبا المريض الذي تنتظر أوروبا إعلان وفاته رسمياً لاقتسام خيراته وأملاكه. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد رفعت
باحث في العلوم الإنسانية بجامعة لا سابينزا روما
محمد رفعت محمد باحث مصري في جامعة لاسابينسا روما منذ أكثر من ثلاث سنوات، حصلت على الماجستير من كلية الألسن جامعة عين شمس 2015، وقد عملت لمدة تزيد عن عشر سنوات عضو هيئة تدريس بالجامعات المصرية، مهتم بالشؤون الاقتصادية ولي أكثر من بحث تم نشره باللغة الإيطالية، وحالياً أشارك في مجموعة بحثية للعلوم الإنسانية تهدف المجموعة لإنجاز الدكتوراه في أكتوبر المقبل في مجال العلوم الثقافية باللغة الإيطالية. قمت سابقاً بنشر عدد من الأبحاث في مجلات إيطالية.
تحميل المزيد