انهيار أمريكا ونظرية ابن خلدون
الكثير منا يعرف العلامة المسلم العربي ابن خلدون، والمطلعون على عمله يعرفون أنه مؤسس علم الاجتماع، لكن السؤال هنا: هل تستمر أعماله الفكرية إلى غاية الآن؟
قد يظن البعض أن التحليل الخلدوني قد انتهى، وذلك لأنه قال إن الدولة تدخل في ثلاثة أجيال (120 سنة)، وخلال الأربعين سنة الأخيرة تنهار الدولة، وهذا ما لم يحصل مع الكثير من الدول الحديثة، كما أن ظروف القبيلة والغنيمة لا يمكن إسقاطها على الدول الحديثة، وهذا بالإضافة إلى العامل التكنولوجي الذي سهل حياة البشر وساهم في بناء دولة الرفاه، أو ساهم في تدعيم سلطتها، أو إعادة بناء المجتمع بصورة أخرى.
إلا أن ابن خلدون هو أول من تكلم عن بذرة تكون المجتمعات، وأول من فسر كيفية تجمع البشر في كيان يوحدهم من النشأة حتى النهاية، حيث خاض في أسباب التأسيس إلى أسباب النهاية والأفول، كما أن أهمية ابن خلدون تنبع من أنه من أوائل من فسر العلوم الإنسانية بعيداً عما يجب أن تكون عليه بل عما هو كائن، ومن مهم الإشارة هنا إلى أن الحاجات البشرية لم تختلف كثيراً عما هو اليوم، فالإنسان إذا ما شعر بالجوع أو انعدام الأمان فسوف يعود إلى طبيعته الحيوانية الأولى، وسوف يبحث عن جماعة تحميه تكون له عصبيته وانتماءه، وكذلك بالنسبة للدول فهي لا تزال تسقط وتتراجع وإن امتلكت أدوات الحداثة، فالتكنولوجيا لم تلغِ التعصب بل قامت بتثبيطه، فهي كما تسهل حياة البشر تقوم بإعادة إنتاج مشاكل متجددة، وهذا ما يسمى بالاغتراب الذي تعرض له الكثير من المفكرين.
وهناك الكثير من المصطلحات الخلدونية التي نعاود استخدامها مثل العصبية، وهي موجودة إلى الآن حتى في أكثر الدول حداثة، وكل ما هو عليك أن تنظر إلى جماهير كرة القدم.
إذن ابن خلدون يظهر دائماً في مصائر الدول وحتى العظمى منها كأمريكا، وهذا ما سوف نتحدث عنه.
العصبية الأمريكية
عند ابن خلدون تنهار الدول عندما تنهار العصبية المؤسسة لها، والعصبية هي "أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على أن ينالهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وقد تعصبوا عليهم إذ تجمعوا، فإن تجمعوا على فريق آخر قيل تعصبوا"[1]، ويمكن إسقاط العصبية في الدول الحديثة على (الفكرة المؤسسة) للدولة، وإذا انهارت هذه الفكرة تنهار الدولة، فالاتحاد السوفييتي مثلاً سقط عند اضمحلال الفكر الشيوعي فيه.
والفكرة المؤسسة لأمريكا هي النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يعتمد على حزبين (الجمهوري والديمقراطي) من الناحية السياسية والإدارية، والنظام الرأسمالي من الناحية الاقتصادية.
ويقول ابن خلدون إن العصبية تكون قوية في طورها الأول، لأن حكامها ومحكوميها مشتركون في نفس ظروف النشأة والحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن عندما تدخل الفئة الحاكمة في مرحلة تمكين الحكم (الظفر في البغية) تبدأ الفئة الحاكمة بالانسلاخ عن بقية الشعب حتى تدخل في الطور الأخير، حيث تكون الفئة الحاكمة منغمسة في الترف والقصور بعيداً عن معاناة الشعب، ويمكن تفسير هذه النقطة من خلال النظرة الماركسية الرأسمالية (لأن أمريكا دولة رأسمالية)، حيث يتعاظم رأس المال في يد ملاك المصانع "البرجوازيين"، بينما يكون مصير الفئة العاملة "البروليتاريا" العمل في ظروف غير إنسانية، مما يؤدي إلى ثورة العمال على الطبقة البرجوازية وإنهائها.
وفي أمريكا في الوقت الحالي تراجعت الحالة الصناعية وما يترتب عليها إلى صالح الشركات الخدماتية والتكنولوجية الضخمة، حيث أصبحت الشركات الكبيرة تبتلع الصغيرة، وهذه النقطة يمكن تفسيرها ماركسياً من ناحية اقتصادية، وأما في شؤون الحكم فيظهر ابن خلدون، فهذه الشركات الرأسمالية يعتمد عليها كل من سيترشح للانتخابات الأمريكية، وذلك لأهميتها في تمويل الحملة الانتخابية.
فرغم محاولة القانون الأمريكي الحد من تدخل المال السياسي في العملية الانتخابية فإنه فشل، فعلى سبيل المثال هناك الفقرة 527 من قانون الضرائب المتعلقة بالجمعيات السياسية، حيث يسمح لها بالقيام ببعض الأنشطة بالنيابة عن المرشحين، كتعبئة الناخبين والحملات الدعائية بالنيابة عنهم، ويمكن للأفراد وجماعات الضغط إنفاق أي مبلغ على مثل هذه الأنشطة دون حدود.
وللدلالة على استغلال القانون 527، قدر أحد المراكز المتخصصة بمراقبة الأداء العام للأموال التي أنفقتها جمعيات وأفراد أثناء الحملة الانتخابية 2003-2004 بما يزيد على 450 مليون دولار، تم إنفاق أغلبها على الدعاية التلفزيونية.[2]
وبعيداً عن الدعاية التلفزيونية أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً فعالاً في اختراق العملية الانتخابية، وخير مثال على ذلك فضيحة كامبردج أناليتيكا في انتخابات 2016، وهنا أستذكر ما قاله مدير حملة ترمب الرقمية، حينما قال: "لم نفز لولا فيسبوك". [3]
وفي هذه الحالة يصبح جل اهتمام المرشح الرئاسي دعم هذه الشركات لتوطيد المصالح معها، دون الالتفات إلى هم عامة الناس، فالعصبية تقوم على إجماع أغلبية أفراد الشعب، وإذا حصل انفراد للحكم من قبل الفئة الحاكمة يبدأ من هنا الانهيار.
الظروف المنشئة للعصبية
يعيد ابن خلدون نشأة العصبية إلى الظروف الصعبة وخشونة العيش للقبيلة المؤسسة لهذه العصبية، حيث تكون هذه المرحلة هي مرحلة "البداوة"، وأما في العصر الحديث فيمكن إعادة هذه المرحلة للفوضى أو الثورة والظروف الصعبة أيضاً التي تجمع الناس الذين يعانون في عصبية هدفها التغيير، ويمكن إسقاط هذه النقطة على الانتفاضات التي تحصل اليوم في أمريكا، والتي تبدو في ظاهرها احتجاجاً على العنصرية ضد السود، بينما تحمل في طياتها احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والصحية في أمريكا.
ولكن لنجاح العصبية الجديدة يجب أن تكون قادرة على تجميع الناس على مطلب وفكرة جديدة وليست إصلاحية لدولة.
المِزاج
يقول ابن خلدون في هذا: "إن العصبية العامة للقبيلة هي مثل المزاج للمتكون، والمزاج إنما يكون عن العناصر، وقد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلاً، بل لابد أن يكون واحد منها غالباً على الآخر، وبغلبته عليها يقع الامتزاج، وكذلك العصبيات لابد أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها وتؤلفها وتصيرها عصبية واحدة، شاملة لجميع العصبيات، وهي موجودة في ضمنها".
أمريكا مكونة من 50 ولاية، كل منها لها قانونها الخاص، تتبع للاتحاد الفيدرالي المكون للعصبية العامة، فإذا تعاظمت قوة هذه العصبيات الخاصة على العصبية العامة يحصل هنا انفراط للعقد وينتهي المزاج، وكذلك الأمر للأعراق من سود وبيض ولاتينيين وغيرهم.
فردانية الرأسمالية وجمعية العصبية
فردانية الثقافة والفكر:
صحيح أن الرأسمالية تهدف إلى الربح بعيداً عن أي شيء آخر، لكن طبيعة الرأسمالية الغربية تعيق إنشاء العصبيات، لأنها ظهرت بتوازٍ مع ظهور الفكرة الفردانية في أوروبا متأثرة بمبادئ الثورة الفرنسية الليبرالية[4]، فنجدها على عكس الرأسمالية الشرقية "اليابانية" التي تعتمد على جماعة.
فردانية الاستهلاك:
كما أن النمط الاستهلاكي لذلك نوع من الرأسمالية يعطي تصوراً عن أهمية تلبية الحاجات الفردية، مثل: الهاتف الشخصي، الحاسوب الشخصي، امتلاك المنزل الخاص.. الخ.
التكنولوجيا الفردانية:
والتكنولوجيا أيضاً ساهمت في تعزيز فكرة الفردانية في العمل، حيث ساهمت سهولة استخدام وعرض الخدمات من خلال التطبيقات وغيرها من التقنيات من قبل أفراد مستقلين، مما أدى لانقراض العديد من الوظائف، حتى الخدماتية منها، حيث أصبح العامل في هذا المجال يلجأ إلى عرض خدماته بشكل فردي بعيداً عن الشركات.[5]
كما ساهمت عملية الأتمتة (استبدال الآلات بدلاً من الأيدي العاملة) في تخلي بعض الشركات عن موظفيها، مثل ما حدث في شركة أمازون.
وفي الولايات المتحدة شهد قطاع البترول والفحم والآلات والإنتاج الكيميائي (أكثر القطاعات حيوية) انخفاضاً، بينما ينمو مجال الكومبيوتر بنسبة 400%، كما أن نسبة العاملين في مجال الحوسبة، مبرمجين وغيرهم، قل عددهم، حيث انخفضت نسبتهم بنسبة 25%[6].
وهذا النمط الممزوج بين الرأسمالية والتكنولوجيا والقطاع الخدماتي إما أن يعمل على إضعاف عصبية هؤلاء الأفراد عن طريق عزلهم عن التجمعات والابتعاد عن التواصل المباشر، وإما أن يفعل فعلاً عكسياً، فهؤلاء الذين خسروا وظائفهم بسبب الأتمتة أو تحول أغلب القطاعات إلى قطاعات خدماتية بإمكانهم تشكيل حراك احتجاجي على الوضع الراهن، ولكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع إلى غاية الآن.
يقظة العصبية مشروطة بوجود تهديد
يقول ابن خلدون إن يقظة العصبية مشروطة بوجود تهديد خارجي يهدد وجود العصبية ويهدد وجود الناس، فيطرون للانضمام إلى عصبة لحمايتهم من الخطر.
وهذه الملاحظة مهمة في التاريخ، فأمريكا منذ ظهورها كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية دخلت في حروب خارجية، حيث كانت تصرف النظر عما يحدث داخل الدولة، بداية من الحرب الباردة وحرب فيتنام وأزمة خليج الخنازير في كوبا، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي اهتم الرأي العام بالشأن الداخلي، فأصبحت مجلات مثل (نيويورك تايمز) و(التايم) تهتم بالشأن الداخلي الاقتصادي بعيداً عن الشأن الخارجي، ولكن بعد هجوم 11 سبتمبر/أيلول تم تركيز الرأي العام الأمريكي على أخبار غزو العراق وأفغانستان و"الإرهاب الإسلامي" المتمثل في تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن[7].
وقد أنتجت هوليوود فيلمين ساخرين، عن إشعال رؤساء أمريكا لحروب خارجية في حال تعاظم المشاكل الداخلية أو ظهور فضائح شخصية للرئيس، والفيلمان هما: wag the dog)) الذي أنتج في سنة 1998 ويتحدث عن إشعال مستشاري البيض الأبيض حرباً ضد ألبانيا للتغطية على حدث تحرش الرئيس بفتاة صغيرة، والفيلم الثاني (vice) نائب الرئيس، ويتناول حياة نائب الرئيس جورج بوش الابن ديك تشيني بقالب كوميدي، حيث أقنع تشيني بوش بإشعال حرب ضد العراق "ليكون عظيماً".
ذات الأسلوب يتبعه اليوم دونالد ترامب، فهو دائم اللوم لخصومه السياسيين من ديمقراطيين وغيرهم، كما أنه دائم الاتهام للصين، لكن دون توضيح السبب.
لا عصبية مع الذل
أكد ابن خلدون في الفصل الثالث عشر من مقدمته "من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد لسواهم"، وفي هذا المقام "المذلة والانقياد كاسران لصورة العصبية، وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا المذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عجز عن المقاومة والمطالبة".
تلعب الولايات المتحدة اليوم دور شرطي العالم، وتمارس الضغوطات على الكثير من حكومات العالم، فهي تمارس القوة وتتغلب على الدول الأخرى من خلال امتلاكها لأسلحة وتكنولوجيا متطورة، وكذلك يمكنها الدولار الأمريكي من لعب دور الأول في الاقتصاد العالمي، مما يجعل انهيارها أو تراجعها على يد قوى خارجية صعباً جداً، ولكن إذا حصلت عملية الذل داخلياً فهنا تضعف العصبية وتعمل على تراجعها.
التسامح والعدل مهمان لبقاء الدولة
يقول ابن خلدون: "إن الدين يزيد من قوة العصبية بالتخفيف من مظاهر التعصب كالأنانية والاعتداء بالأنساب وروح القطيع" (ويقصد هنا به الدين الإسلامي، حيث ينظر له ابن خلدون كأفق روحاني أنقذ العرب من الجهل ونقلهم من البداوة إلى الحضارة).
وابن خلدون هنا يؤكد ضرورة التسامح والحرية ليس فقط من وجهة نظر قيمية أخلاقية بل من وجهة نظر عملية، فإذا قل التسامح وقل العدل تضعف العصبية وتؤدي إلى تفتتها.
ويمكن استبدال الدين هنا بقيم التسامح والحرية وإنهاء العبودية التي سميت بـ"القيم الأمريكية"، والتي شكلت الأفق الأخلاقي لها، وظلت هذه الشعارات تتردد على ألسن الكثير من الرؤساء الأمريكيين، ومنهم أبراهام لنكولن وروزفلت، ومارتن لوثر كينغ أحد زعماء حركة السود في أمريكا، ومن ثم تحولت هذه الشعارات إلى قوانين تحمي الأقليات في أمريكا مثل السود وغيرهم.
وقد تجلت حالة العنصرية مع تولي دونالد ترامب لرئاسة أمريكا، حيث هاجم أغلب الفئات التي تدعي أمريكا حمايتهم من سود ونساء ومثليي الجنس وحتى المسلمين واللاتينيين.
وهذه العنصرية تؤدي إلى تفتيت العصبية الجامعة والبحث عن عصبيات أخرى لتحتوي هذه الفئات، مما يضعف النسيج المجتمعي للدولة وقد يؤدي لانهيارها.
"فترى القبائل مسلحة باستمرار مهيأة للدفاع والهجوم، فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم".[8]
نقاط قوة وضعف
تعد الفكرة المؤسسة للدولة عصبيتها، فإذا سقطت تسقط، وتسقط العصبية بظهور عصبية أخرى تظهر في ظروف صعبة ويكون لها مطالب واضحة وصريحة، يجب أن يكون هنالك امتزاج للعصبيات الخاصة تحت العصبيات العامة، وذلك لا يتأتى إلا بالقهر والسلطان، وهذا ما فعلته أمريكا حتى وصل عدد ولاياتها إلى 50، العصبية تحتاج إلى جماعة، والفكر الفرداني في الإنتاج والاستهلاك يثبطها، إلا أن هذا نمط قد يزيد من عملية الاغتراب، فهنا تظهر جماعات مهمشة تقوم بتجميع نفسها على شكل عصبية، الخطر الخارجي يزيد من قوة العصبية، حيث يعمل على إحياء الرابطة والوطنية، ذل المواطنين يضعف العصبية، وحتى إن كانت الدولة الأقوى في العالم، التسامح إحدى الركائز التي تطيل من عمر الدولة.
إذا ظل عندك تساؤل حول سقوط أمريكا من عدمه، فإليك ما قاله ابن خلدون في مصائر الدول:
"إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة ومنهاج مستقر، إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فإن ذلك يقع في الآفات والأقطار والأزمنة والدول".
[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (العصب)، دار المعارف، القاهرة، ص 2966.
[5] المصدر السابق.
[6] المصدر السابق.
[7] كتاب الإعلام الدولي، النظريات والاتجاهات والملكية، ص 28.
[8] سالمة محمود عبدالقادر، منهجية ابن خلدون لتدوين السيرة النبوية، ص 176-177.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.