منشور بمحلات (كنتاكي) للوجبات السريعة في مدينة قوانجو يمنع السود من الدخول (المصدر BBC)
فجّرت حادثة مقتل جورج فلويد، بقوة من جديد، موضوع العنصرية ضد السود في العالم كله، وليس بالولايات المتحدة فقط. وحركّت المياه الراكدة من جديد بعد أقل من شهرين من حوادث العنصرية التي تعرّض لها أفارقة مقيمون في الصين بسبب كورونا والتي كانت أيضاً الأحدث وسط حوادث العنصرية تجاه الأفارقة بالصين عموماً، وتجاه الجالية الإفريقية من التجار والطلاب في مدينة قوانجو التجارية جنوب الصين على وجه الخصوص. وأعاد مقتل فلويد إلى الذاكرة تعامُل بعض دول جنوب وشمال البحر المتوسط مع اللاجئين الأفارقة الفارّين من ظلم ذوي القربى إلى ظلم الميليشيات بليبيا أو رجال الشرطة في كرواتيا وإيطاليا واليونان وغيرها من دول أوروبا.
حادثة مقتل جورج فلويد والعنصرية ضد الأفارقة في قوانجو ودول البحر المتوسط تعيدان إلى العقل الجمعي العالمي ضرورة سنّ قوانين رادعة تجرّم العنصرية قولاً وفعلاً، وأن تكون هذه القوانين عالمية تصدر عن الهيئات والمنظمات الأممية مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية بموافقة الدول الأعضاء.
ولتطبيق هذه القوانين يجب أن يتم إدراجها في الأجهزة العدلية والشرطية المختصة بوضع وتطبيق القوانين؛ وذلك لأن العنصرية بجانب الضرر النفسي الذي تخلّفه على المتأثرين بها، لها أضرار اقتصادية، مثل الضرر الذي يسبّبه التمييز ضد البعض بسبب لونه أو جنسه في التوظيف والتعليم. وسياسية، وتحضرني هنا قصة مهاجر من إحدى الدول الإفريقية أقام لسنوات في روسيا وحصل على جنسيتها. وعندما قرّر الترشّح لمنصب نائب عن المقاطعة التي يقيم فيها واجه رسائل تهديد، لأنه "ليس روسيّاً حقيقياً" بحسب أولئك العنصريين.
ما زال العالم يتذكر التحقيق الاستقصائي الذي أجرته قناة CNN في العام 2017، والذي كشف عن أسواق لبيع "العبيد" من المهاجرين الأفارقة الذين تقطّعت بهم السبل في ليبيا وهم يحاولون السفر إلى أوروبا، حيث تم اختطافهم تحت تهديد السلاح وحجزهم في مزارع وبيعهم في مزادات للراغبين في عمال. لكنها ليست عمالة مقابل أجر، وإنما رقّ حقيقي في القرن الحادي والعشرين! وهذه الممارسات التي كشفت عنها القناة الأمريكية، والتي بها جماعات وميليشيات في ليبيا، قطرة من بحر العنصرية بالمنطقة العربية التي تنظر إلى السود كرقيق. والأمر ناتج عن ثقافة امتدت لقرون كانت فيها تجارة الرقيق رائجة إلى مناطق العراق والشام وشبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا، حيث كثُر الرقيق الذي تم جلبه إلى هذه المناطق من شرق ووسط إفريقيا، إلى درجة أنهم في بعض الفترات ثاروا على الحكام (ثورة الزنج في بغداد)، ووصلوا إلى الحكم (المماليك في مصر).
كثيرون ممن لا تتوافر لهم معرفة كافية بالصين فوجئوا بالفيديوهات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي توضّح المعاملة المهينة التي تعرّض لها الأفارقة في قوانجو، من طرد من مساكنهم بالقوة، إلى القبض عليهم بواسطة الشرطة بطرق تقترب من معاملة الشرطة الأمريكية للسود، الذين تتم تسميتهم بـ(الأمريكيين من أصول إفريقية)؛ للإشارة إلى أنهم "ليسوا أمريكيين مثل الآخرين من البيض"، إلى منعهم من دخول بعض مراكز التسوق والمطاعم. والأخيرة تعتبر دليلاً دامغاً على العنصرية التي لا تخشى العقوبة، لأن من أمِن العقوبة أساء الأدب. وليست هناك إساءة إلى الأدب أكثر من منع شخص من شراء الطعام بسبب لون بشرته أو جنسه.
بدأت حوادث العنصرية ضد الأفارقة بالصين عندما أعلنت السلطات في مقاطعة قوانغدونغ (عاصمتها مدينة قوانجو) في 12 أبريل/نيسان، عن إلزام جميع الأجانب في المقاطعة بإجراء فحص كورونا. لكن القرار بدا كأنه تم تصميمه لاستهداف الأفارقة، حيث تم طرد الأفارقة فقط (والذين تنحدر غالبيتهم من غرب إفريقيا) من مساكنهم، وإلزامهم بالفحص عدة مرّات والحجر الصحي في فنادق خصّصتها السلطات الصينية على نفقتهم، بسبب اكتشاف إصابة 16 إفريقياً بفيروس كورونا من جملة 120 حالة إصابة تم اكتشافها. وذلك بعد أن اعتقدت الحكومة الصينية أنها سيطرت على انتشار كورونا خارج مدينة ووهان الموبوءة، حيث قام ملّاك الشقق السكنية التي يقطن فيها أفارقة بإنذارهم بإخلائها في ساعات، رغم دفع بعضهم لإيجار 3 أشهر مقدماً كما تقتضي قوانين الإيجار المحلية. وقضى كثير من الأفارقة ليالي في الشوارع ونام بعضهم تحت الجسور بالمدينة، وعانوا من تعامُل الشرطة الصينية السيئ لهم، في فيديوهات تم تسجيلها وصدمت الرأي العام العالمي الذي لم يكن يعلم الكثير عن الصين حتى نشرت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير المثير، مثلما يحدث في جميع أنحاء العالم.
الحادثة قوبلت بتنديد من الرأي العام العالمي، وبعض السياسيين بإفريقيا، وحتى من السفارات الإفريقية في بكين، والتي ينتقد كثير من الأفارقة الذين يدرسون أو يعملون في التجارة بالصين مواقفها السلبية تجاه المشاكل التي يواجهونها في الصين. رئيس البرلمان في نيجيريا، على سبيل المثال، قام باستدعاء السفير الصيني لدى بلاده، وتحدَّث معه بلهجة حادة، في تسجيل تم بثّه في وسائل الإعلام، عن امتعاض سلطات بلاده من التصرفات التي تقوم بها سلطات مدينة قوانجو تجاه مواطني بلاده. وقامت السفارات الإفريقية، في بادرة نادرة، بتوجيه رسالة تنديد لوزارة الخارجية الصينية، نتج عنها بيان لوزارة الخارجية الصينية تحدثت فيه عن "العلاقات التاريخية بين الصين ودول إفريقيا، والدعم السياسي الذي تلقته الصين من إفريقيا، والذي كان من نتائجه دخول الصين كعضو دائم في مجلس الأمن بدلاً عن تايوان في مطلع سبعينيات القرن الماضي".
لم تنسَ الخارجية الصينية أن تذكّر الأفارقة في بيانها، بـ"المساعدات الصينية المتواصلة لإفريقيا، وآخرها المساعدات الطبية لمواجهة وباء كورونا". والبيان في مجمله اعتذار خجول عن تصرفات مدينة لا يعرف أهلها والسلطات فيها، أن حقيقة كونهم أكثر غنى ورفاهية عن بقية أهل الصين جعلتهم أكثر غطرسة وغروراً في التعامل مع الأجانب. وبشهادة كثير من الأجانب، فإن مطار قوانجو الدولي المعروف باسم Baiyun International Airport)، هو الأسوأ في معاملة الأجانب مقارنة ببقية مطارات الصين، والشرطة في المدينة هي الأسوأ كذلك، مقارنةً ببقية مدن الصين. وقد يقول أحدهم إن الأمر يمكن تفسيره بكثرة الأجانب والتجار في المدينة. لكن هذا الأمر تفنّده حقيقة أن مدينة ييوو (Yiwu) بمقاطعة جه جيانغ القريبة من شانغهاي -والتي تعتبر أكبر سوق للمنتجات الصغيرة (الخردوات) في العالم- لا يشكو فيها الأفارقة من سوء معاملة الشرطة.
من الأشياء الأخرى التي توضّح نظرة أهالي قوانجو العنصرية تجاه الأفارقة، تسميتهم لإحدى مناطق المدينة التي تشتهر بكثرة الأفارقة، بسبب سوق لتجارة الجملة في المنطقة يرتاده التجار الأفارقة، بـ(مدينة الشوكولاتة أو Chocolate City)، كناية عن لون الأفارقة. والحوادث الكثيرة التي ترد للسفارات والقنصليات الإفريقية في الصين -قبل أن تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورها في كشف مشاكل الجاليات الإفريقية بالصين- توضّح الفرق بين تعامل السلطات في قوانجو مع الأجانب مقارنة ببقية مدن الصين. لكن حادثة قديمة في نهاية سبعينيات القرن الماضي بمدينة شانغهاي -حينما كان الرئيس الأسبق جيانغ زيمين عمدة المدينة- تتعلّق باستهداف أهالي شانغهاي للطلاب الأفارقة في المدينة، بسبب مشاجرة بين طالب إفريقي وأحد الأساتذة الصينيين بالجامعة التي يدرس بها، توضّح أنّ العنصرية حالة عامة ضد السود بالصين، مع أنّها في قوانجو أكثر حدّةً ووضوحاً. والدليل على ذلك أن التمييز في الفحص والحجر الإلزاميَّين، والطرد من أماكن السكن وغيرها من الإجراءات التمييزية، لم تستهدف الأجانب من مناطق أخرى أكثر تأثّراً بالوباء من دول إفريقيا.
حادثة قوانجو أثارت كذلك المنظمات الحقوقية على الصين، حيث أدانت منظمة هيومان رايتس ووتش (HRW) الحقوقية الحادثة وطالبت الحكومة الصينية بالقيام بدورها في منع العنصرية تجاه الأفارقة والسود عموماً بالبلاد. وقالت المنظمة إن "على الحكومة الصينية إنهاء المعاملة التمييزية للأفارقة فيما يتعلق بوباء كورونا. وينبغي للسلطات أيضاً حماية الأفارقة والمنحدرين من أصل إفريقي بجميع أنحاء الصين من التمييز في التوظيف والسكن والنواحي الأخرى"(3). ونقلت المنظمة عن الباحثة بالمنظمة وانغ ياتشيو (Wang Yiqiu) قولها: "تدّعي السلطات الصينية (عدم التسامح إطلاقاً) تجاه التمييز، لكن ما تفعله للأفارقة في قوانجو حالة واضحة لذلك. على بكين أن تحقق فوراً، وأن تحاسب جميع المسؤولين وغيرهم من المسؤولين عن المعاملة التمييزية".
الولايات المتحدة التي تتشدّق بالحريات وحقوق الإنسان وتستهدف الدول الأخرى -خاصةً تلك التي هناك شد وجذب في العلاقات معها مثل الصين وإيران وروسيا وغيرها- وجدت نفسها في ورطة أخلاقية حقيقية، حيث يستمتع الكُتاب الصينيّون هذه الأيام بالكتابة عن الوضع في الولايات المتحدة "التي يدعو الرئيس فيها إلى نشر الجيش بعد أسبوع من المظاهرات، بينما هو ينتقد الصين العام الماضي؛ لتعاملها مع مظاهرات هونغ كونغ التي استمرت لأشهر عديدة، بخسائر أقلّ بكثير وتعامُل شرطي أفضل بكثير من تعامل الشرطة الأمريكية". ولم يتوقف مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الصينية مثل (Weibo) عن السخرية من الديمقراطية الأمريكية، حيث وصل عدد المشاهدات لهاشتاغ "اعتقال وتكبيل طاقم قناة CNN بواسطة الشرطة" على موقع (Weibo) الصيني الشبيه بموقع (تويتر) إلى 50 مليون مشاهدة. وسبب انتشار الهاشتاغ هو أن الشخص الوحيد الذي تم اعتقاله في أثناء تغطيته أمام الكاميرات للاحتجاجات في مدينة مينيابوليس التي شهدت مقتل فلويد، هو المراسل الأمريكي الأسود Omar Jimenez.
هاشتاغات في موقع (Weibo) للتواصل الاجتماعي بالصين عن الاحتجاجات في الولايات المتحدة (المصدر موقع whatsonweibo)
لم يتوقف الأمر عند الكُتاب والصحفيين، بل وصل إلى مسؤولين في الدولة الصينية، حيث غرّدت المتحدثة باسم الخارجية الصينية على تويتر بالإنجليزية: "لا أستطيع التنفس"، في إشارة واضحة للغاية إلى آخر جملة قالها جورج فلويد وركبة الشرطي المفتقر إلى الرحمة والإنسانية تضيّق الخناق على عنقه. جدير بالذكر أن المشاكسة بين البلدين على المستوى الرسمي حول حقوق الإنسان مستمرة منذ زمن بعيد، حيث تصدر الخارجية الصينية مثلاً تقريراً سنوياً عن حالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة ردّاً على إصدار الأخيرة تقريراً سنوياً عن حالة حقوق الإنسان بالصين، ضمن تقريرها السنوي عن حالة حقوق الإنسان في كل دول العالم. وتتطرق في التقرير بالتفصيل إلى انتهاكات الشرطة الأمريكية وأجهزة إنفاذ القانون المختلفة لحقوق السود والمهاجرين من أمريكا اللاتينية وغيرها من الانتهاكات.
اللافت في التظاهرات بجميع أنحاء الولايات المتحدة تنديداً بمقتل فلويد على أيدي من يُفترض بهم حماية المواطنين، هو أن قسماً كبيراً من المشاركين فيها من البيض -وبالتحديد الشباب منهم- وهو ما يوضّح حجم الوعي الذي بدأ ينتشر في مجتمع اشتهر بانقسامات حادة بين البيض والسود، وتاريخ دموي تميز بالحروب والاستعباد وحركات المقاومة مثل حركة الحقوق المدنية. وهذا الأمر يبشّر بتغيير قادم في السنوات المقبلة بالبلد الأكثر تنوعاً في العالم، والأكثر تناقضاً في الوقت نفسه فيما يتعلّق بالعنصرية. وفي الأمر رسالة عميقة للمحافظين والجماعات العنصرية التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض (White Supremacists) على المستوى السياسي، ولكثير من البيض الذين يعيشون في ولايات تتميز بقلة التمازج بين البيض والسود واللاتينيّين -ويتميّز سكانها من البيض بضعف المستوى التعليمي والثقافي- بأن الزمن يتغير وأن المبادرة يجب أن تأتي منهم بدلاً من أن تكون أمراً واقعاً في المستقبل القريب.
ومثلما كانت المظاهرات في الولايات المتحدة ومدن أخرى على مستوى العالم رسالة للعنصريين بالولايات المتحدة وأوروبا، نتمنى أن تكون أيضاً رسالة لكثيرين في الصين ممّن يتميزون بالحساسية تجاه أي انتقاد موجَّه إليهم من أجنبي على اعتباره استهدافاً للصين أو محاولة لإهانة القومية الصينية، خاصة عند رؤية الاحتجاجات في ألمانيا وبريطانيا وأستراليا ومدن أوروبية أخرى ضد مقتل فلويد، وهو أمر لم تعتبره الحكومة أو الشعب في الولايات المتحدة موجّهاً ضدهم. فعلى الأكاديميين وقادة الرأي ومُتخذي القرار في الصين مسؤولية كبيرة تجاه العنصرية التي بدأت ملامحها تطفو بشوارع ومدن الصين تجاه الأجانب عموماً، وتجاه ذوي البشرة السمراء على وجه الخصوص. ومن الضروري سنُّ قوانين رادعة واتخاذ إجراءات حاسمة تجاه العنصرية، سواء كانت مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصينية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.