في صباح الجمعة، 15 فبراير/شباط، بينما واصل متزلجون تزحلقهم تحت سماء شديدة الصفاء إلى أسفل منحدرات كلافيير اللامعة، وهو منتجع تزلج إيطالي صغير يقع قرب الحدود الفرنسية، انخرط 4 مهاجرين في دراسة خطوتهم التالية.
حسب تقرير صحيفة The Guardian البريطانية كانت الشرطة قد أعادت هؤلاء الأربعة إلى المدينة في الساعات الأولى من يوم الجمعة، بعد أن اعترضت سبيلهم في أثناء محاولتهم الدخول إلى فرنسا سيراً على الأقدام عبر ممرٍ جبلي يرتفع فيه الجليد إلى كواحلهم.
أحدهم يُدعى سامي، وهو تونسي. قال سامي في تصريحٍ لصحيفة The Observer البريطانية: "كنا على بعد بضعة كيلومترات فقط من فرنسا حين ضُبِطنا. أحدهم أخبر الشرطة عن مكاننا".
لا تتسم محاولات المهاجرين عبور الحدود بأنَّها خطرة وغير مجدية في غالبها فحسب، بل تقع كذلك في قلب العلاقات المشحونة حالياً بين فرنسا وإيطاليا.
في اليوم السابق لمحاولة العبور هذه، جلست المجموعة ذاتها، التي تضم أيضاً عراقييّن وإيفوارياً، خارج مقهى محطة بلدية أولكس الإيطالية المجاورة في انتظار الحافلة الأخيرة لتُقِّلهم إلى كلافيير، حيث يعد الممر الجبلي الممتد لنحو 12.8 كيلومتر أقل خطورة من أي مكان آخر على الحدود. ومع ارتدائهم أحذية رياضية وسترات خفيفة، لم تكن المجموعة مهيأة جيداً لهذا التحدي، إلى جانب أنَّهم لم يبدُ عليهم الانزعاج من المصير الذي لاقاه ديرمن تميمو، وهو رجل يبلغ من العمر 29 عاماً من توغو لقي حتفه من جرَّاء انخفاض درجة حرارة جسمه في أثناء خوضه الرحلة ذاتها في الأسبوع السابق.
4 تجارب مأساوية
سرد كل واحدٍ من الأربعة تجاربه المأساوية الماضية. فقال طاليب فالا، من العراق، إنَّه فقد أسنانه الأمامية حين ضربه رجال شرطة في كرواتيا. وتحدثوا كذلك عن كفاحهم للحصول على الوثائق اللازمة للبقاء في إيطاليا. أما الرجل الإيفواري، الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته، فكان يحمل أوراق ترحيل وقعَّتها السلطات الإيطالية في 13 فبراير/شباط، بعدما رُفِضَ طلبا لجوء تقدم بهما.
وفي كلافيير، ورغم ما نال منهم من تعب، عزموا على تكرار محاولة عبور الجبل. إذ عَلِمَ سامي أنه يُحتَمَل وجود مسارٍ آخر. وقال: "علينا محاولة بناء حياة لنا، ليست هناك أي فرصة متاحة لنا في إيطاليا. لا توجد فرص عمل، وإذا حاولتَ الحصول على وثائق يمنعونك".
أصبح البقاء في إيطاليا يزداد صعوبةً منذ سنَّت حكومتها الشعبوية اليمينية إجراءات هجرة مشدَّدة. ومن بين الكثيرين ممن يتوجهون إلى كلافيير حالياً المهاجرون الذين تشرَّدوا بعد إجلائهم من مراكز إيواء اللاجئين في إيطاليا خلال الأشهر الأخيرة، بموجب هذا القانون حديث العهد.
هذا القانون المُسمَّى "ماتيو سالفيني"، تيمناً بنائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الإيطالي وزعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف، يلغي تصاريح الحماية الإنسانية. كان هذا التصريح يُمنَح للأشخاص الذين لا تنطبق عليهم صفة اللاجئين ومع ذلك لا يمكن إعادتهم لبلدانهم الأصلية لعدة أسباب؛ ومن ثم كان يُسمَح لهم بموجبه الإقامة لمدة عامين قابلة للتجديد في إيطاليا والعثور على عمل. وكانت هذه الوثيقة تسمح كذلك لحامليها العبور إلى دولٍ أوروبية أخرى، بشرط التقدم بإخطارٍ مسبق للسلطات الإيطالية، والبقاء في الدولة الأخرى فترة لا تزيد عن 90 يوماً. ويُقدَّر عدد الأشخاص الذين منحتهم إيطاليا هذا التصريح نحو 100 ألف شخصٍ وصلوا إليها في السنوات الأخيرة.
وفي هذا الصدد، أشار باولو دي مارتشيس، عمدة بلدية أولكس الإيطالية، إلى أنَّ هناك زيادة في أعداد القادمين إلى المدينة منذ نُشِرَت نسخة من مشروع القانون في سبتمبر/أيلول. وقال: "كان بعضهم يتقدم للحصول على تصريح الحماية، لكن تخوفوا من عدم الحصول عليه؛ لذا هربوا من مراكز الإيواء. بينما جاء البعض الآخر بعد سحب الحماية منهم. ويصلون هنا لهدف وحيد؛ وهو الوصول إلى الحدود الفرنسية. هم مقتنعون أنَّ الأوضاع ستكون أفضل هناك. لكن الحقيقة هي أنَّهم يُقابلون بالرفض عند الحدود".
يُذكَّر أنَّ أكثر شكاوى إيطاليا من فرنسا هي رفضها آلاف المهاجرين عند حدودها. وتمارس فرنسا أشد الضوابط عند الحدود التي تفصل بين منطقة الريفييرا الفرنسية ومنطقة ليغوريا الإيطالية، قرب مدينة فنتيميليا. فخلال النصف الأول من عام 2018، أعادت السلطات الفرنسية أكثر من 10500 شخص حاولوا العبور مستقلين القطارات أو سيراً على الأقدام على طول الطريق السريع أو عبر الجبال.
واتهمت الجمعيات الخيرية الشرطة الفرنسية باستخدام أساليب غاشمة ضد المهاجرين، ومنها استخدام رذاذ الفلفل، إضافةً إلى الإساءة للأطفال وتزييف تواريخ ميلادهم في وثائق "رفض الدخول"، حتى يُظّن خطأً أنَّهم بالغون ويمكن إعادتهم إلى حيث كانوا.
وتحتج إيطاليا أيضاً بأنَّ الشرطة الفرنسية غالباً ما تزدري القواعد التي تحكم الحدود؛ فمثلاً، استدعت الحكومة السفير الفرنسي بعدما اقتحمت الشرطة عيادة مخصصة للاجئين أقامتها جمعية Rainbow for Africa الخيرية في محطة قطار مدينة باردونيكيا، التي تبعد محطة واحدة عن بلدية أولكس، وأجبرت رجلاً نيجيرياً اشتبهت في حيازته مخدراتٍ بتقديم عينة بول لفحصها، وجاءت نتيجته سلبية.
تحميل فرنسا الخزي
وفي غضون ذلك، حمَّل سالفيني فرنسا "الخزي" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعدما ظهرت أدلةٌ على أنَّ الشرطة الفرنسية "تلقي" المهاجرين على جانب الطريق في كلافيير بدلاً من تسليمهم للسلطات والإفصاح عن أسباب إعادتهم إلى إيطاليا. فمن الناحية العملية، يحق للمهاجرين عقب دخولهم إلى دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي أن تُنظَر في قضايا طلب اللجوء الخاصة بهم. ومن جانبها، أقرَّت الحكومة الفرنسية أنها "أخطأت"، لكنها طالبت بالحاجة لأن تصبح دول الاتحاد أكثر فعالية في طرد المهاجرين غير الشرعيين.
فيما قال ديفيد روستان، وهو راهبٌ محلي في وادي سوسا في إيطاليا: "احتفل سالفيني بهذا الاكتشاف، لكن هذا ما يحدث منذ عامٍ".
كان هذا الاكتشاف هو السلاح الذي يحتاجه سالفيني ليلوح به في وجه فرنسا، بيد أنه هو بدوره يلعب لعبةً مماثلة، بإعادة القوارب المحملة بالمهاجرين في البحر المتوسط إلى ليبيا مرة أخرى. ففي الأسبوع الماضي، تفاخر بأنَّ إجراءاته المشددة أحدثت تراجعاً ملحوظاً في أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى بلاده، وفي الوقت نفسه تزداد أعداد طرد المهاجرين. لكن في الواقع، ما يحدث هو أنَّ المهاجرين "المطرودين" ينتهي بهم الأمر عند الحدود؛ إذ لا تمتلك إيطاليا الأموال الكافية ولا الإجراءات العملية اللازمة لإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
واتفاقية دبلن تخدم فرنسا
وبالرغم من أنَّه من غير القانوني إعادة القاصرين، لا تنتهك فرنسا أية قوانين بإعادتها الأشخاص الذين تشكل إيطاليا أول محطة عند وصولهم إلى الاتحاد الأوروبي، وفقاً لاتفاقية دبلن الخلافية، التي تكبدت بموجبها إيطاليا واليونان العبء الأكبر في أزمة المهاجرين.
وقال روستان: "الحل الوحيد الممكن هو إعادة صياغة اتفاقية دبلن بالكامل. هذه هي المشكلة الكبرى؛ لا تريد أوروبا أن يأتي الفقراء إلى حصنها بحثاً عن وظائف، مثلما فعل ملايين الأوروبيين في أماكن أخرى من العالم".
في ظل استمرار هذه المشاحنات المريرة، أخذت شبكة من المتطوعين تعمل على طول الحدود؛ بتقديم الطعام والملابس والمأوى للمهاجرين، وتحذرهم ضد سلوك المسارات الجبلية.
ويُعد تميمو أول حالة وفاة مسجلة أثناء محاولة خوض الرحلة من كلافيير هذا الشتاء. في حين لقي 3 أشخاص مصرعهم العام الماضي في ممر "كول دو لإيشيل" الجبلي الأصعب، الذي يبدأ من مدينة باردونيكيا، لكنَّه لم يعد يُستخدَم كثيراً الآن. ومن جانبها، قالت سيلفيا غيلاردي، الممثلة عن منظمة Rainbow for Africa الخيرية: "قد يكون الطريق من كلافيير أقل صعوبة، لكنه الأسهل في اعتراض من يخوضونه. ويصل الناس إلى محطة أولكس غير مستعدين للبرد والثلج، ولا يحملون سوى حقيبةٍ صغيرة والملابس التي يرتدونها".
أما إيلينا بوتسالو، المتطوعة في محطة أولكس، فقد استضافت العام الماضي شاباً كاميرونياً في العشرين من عمره، حين كان في فترة نقاهة بعدما كاد يفقد قدميه من جراء قضمة صقيع أصيب بها في كول دو لإيشيل. وقالت بوتسالو: "لستُ بطلة، هناك الكثير غيره بحاجة للمساعدة؛ لكنَّ الوضع هنا يشبه قطة تحاول مطاردة ذيلها. نحذر الناس من الذهاب، ومع ذلك يحاولون، ربما لخمس أو ست مرات. هناك حاجة أكيدة لتغيير اتفاقية دبلن، لكن في العموم، يحتاج القادة لأن يتخلوا عن بعض أنانيتهم ويصبحوا أكثر تعاطفاً".