بحلول الظهيرة في جامعة كانتربري بنيوزيلندا، تتنقَّل الأستاذة الجامعية آن ماري برادي بين الصخور البارزة في تيارٍ مائي صافٍ.
تأخذ الأستاذة، التي قضت حياتها في العمل الأكاديمي، طريقاً به شجيراتٍ متضخمة لتصل إلى حدائق Okeover المشتركة، وعيناها تبحث في السماء عن الطيور المحلية. إنها قمة الصيف في مدينة كرايستشرش بنيوزيلندا، والحديقة مليئة بنباتات الراوند، والسبانخ المطاطية والبصل الربيعي الذي تحولت أطرافه في الشمس إلى اللون الأبيض.
تقول برادلي (52 عاماً) لـ صحيفة The Guardian البريطانية وهي تفحص الأرض التي حرثها أعضاء هيئة التدريس والطلاب من أجل الاسترخاء: "اعتدت قضاء الكثير من الوقت هنا، لا أريد شيئاً آخر".
قضت برادي أكثر من 25 عاماً في البحث ودراسة الحزب الشيوعي الصيني، باستخدام قاعدتها في نيوزيلندا كملاذٍ للعمل على كتبها، وطهي وجبات الطعام المتقنة لعائلتها ورعاية الخضراوات والزهور في حدائقها.
لكن منذ نشر كتابها أسلحة سحرية- Magic Weapons- عام 2017، والذي يصف مدى التأثير الصيني في نيوزيلندا، انقلبت حياة برادي رأساً على عقب، وأصبحت هدفاً لحملة التخويف و"العمليات النفسية" التي تعتقد أنها موجهة نحوها وعائلتها من العاصمة الصينية بكين.
رسائل ومكالمات تهديد
بدءاً من أواخر 2017، تعرض منزل برادي للسطو وتم اقتحام مكتبها مرتين. عبثوا بسيارة عائلتها، وتلقت رسالة تهديد مكتوبٌ فيها ("أنتِ التالية")، وأجابت على العديد من المكالمات الهاتفية المجهولة في منتصف الليل على الرغم من أن رقم المتصل غير مدرج بهاتفها. وجاء آخرها في الساعة الثالثة من صباح اليوم الذي عادت فيه عائلتها إلى المنزل بعد عطلة عيد الميلاد. تقول: "أنا مراقَبة".
اضطرت برادي، التي وصفت نفسها بأنها "رواقية" -وهو اتباع المذهب الفلسفي الذي يقول بأن الرجل الحكيم يجب أن يتحرر من الانفعال- اضطرت إلى الاعتماد على خبرتها في مواجهة اضطراب ما بعد الصدمة، التي اكتسبتها عقب زلزال عام 2010 الذي ضرب كرايستشرش، لمواجهة المضايقات التي تتعرض لها.
تقول برادي بصوتٍ يتأرجح قليلاً: "لقد حميت نفسي بالفعل وفقاً لكل المعلومات التي أمتلكها، والباقي هي لعبة عقلية. الهدف من ذلك هو إخافتي.. ليسببوا لي مرضاً عقلياً أو لمنع المواضيع التي أكتب عليها – ولإسكاتي، لذا فزت بعدم الخوف".
تعرضت وزارة أمن الدولة الصينية إلى المقربين من برادي.
استأجرت جامعة كانتربري -التي تعمل بها برادي- مستشاراً أمنياً لحماية مكتبها. رُكبت أقفال جديدة، ونظام كاميرات مراقبة، وثُبِّت برنامج تشفير.
على الرغم من التقدم بثلاثة طلبات للحصول على مساعدة حكومية، كان على برادي وزوجها -وهو فنان من بكين- أن يتعلموا كيف يحمون منازلهم الموجودة في منطقة من الضواحي، حيث يربون ثلاثة أطفال مراهقين "يُبدون"- حسب تعبير برادي- عدم ارتياحهم إزاء الموقف.
تقول برادي، وهي جالسةٌ على مقعد في حدائقها حيث لا يمكن سماع حديثها مع صحيفة The Guardian: "لدى النيوزيلنديين شعور عميق بالرضا عن أمنهم ويشعرون أنهم بعيدون جداً عن المشاكل التي نشهدها في أجزاء أخرى من العالم، هذا ليس صحيحاً بعد الآن".
"نحن أيضاً جزءٌ من البيئة الدولية، وما حدث لي -اقتحام بيتي ومكان عملي- هو دعوة للناس للاستيقاظ".
يصبح المراقب مراقَباً
في الأشهر القليلة الماضية، بدأت برادي استخدام الفكاهة لمواجهة خوفها، وذهبت إلى مختصٍ بناءً على نصيحة الشرطة، ومازالت تعيش بكامل إدراكها "في الوقت الحالي".
درست برادي أساليب الدعاية والتخويف التي تتبناها الحكومة الصينية على مدى عقود، لذلك هناك نوعٌ من التهكم يظهر في حياتها الخاصة. أصبح المُراقِب مراقَب.
تقول برادي وخبراءٌ آخرون إن الأكادميين الصينيين حول العالم يتعرضون لتهديدات مستمرة، في ظل قيادة الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ. يرفض البعض التحدث علناً بسبب الخوف من الانتقام أو منعهم من دخول الصين.
تقول برادي نقلاً عن مثلٍ صيني "اقتل الدجاج يخاف القرد".
وقد نُقلت أجزاء حساسة من محاضرات الدكتور كيفن كاريكو، وهو محاضر في جامعة ماكواري الأسترالية، في الفصول الدراسية الأسترالية إلى بكين، التي زار مسؤولوها بعد ذلك الآباء المقيمين في الصين لبعض الطلاب.
قال كاريكو لموقع Inside Higher Ed الإلكتروني "أدرك الناس أنه لم يعد هناك جدار حماية بين الممارسة الأكاديمية داخل الصين وخارجها".
الصين "تحدٍّ لسيادتنا"
رفضت برادي وزوجها عروض العمل في الخارج للبقاء في نيوزيلندا وتربية أطفالهما في "مجتمع عالي الثقة". لكن هذا الاعتقاد يتدهور ببطء.
تقول برادي: "إننا فخورون للغاية بأن ثقلنا يرتقي إلى المستوى الدولي، بأن لدينا سلطة أخلاقية على المسرح العالمي. ولكن في العام الماضي، بدأتُ أتشكَّك حقاً في ذلك".
وأضافت: "هذا هو التحدي الحقيقي لسيادتنا -وللأسرة النيوزيلندية التي تَهدد أمنها- وحكومتنا لا تدافع عنهم".
تقول الشرطة النيوزيلندية إنها تواصل التحقيق في الأعمال الخبيثة ضد برادي وأن القضية لا تزال تحظى بأهمية كبيرة.
وقالت متحدثة باسم رئيسة الوزراء، جيسيندا أرديرن، إنها "تدافع تماماً" عن حق الأكاديميين في العمل بحرية، لكنها "لم تتلق أي تقارير تفيد بوجود قضية تعزى إلى الصين أو لأي بلدٍ آخر".
منذ أن بدأت حملة الترهيب، ثبتت برادي صورة للعميلة النيوزيلندية، أثناء الحرب العالمية الثانية، نانسي ويك فوق مكتبها، وبحثت عن الشجاعة من خلال كتابات جورج أورويل.
قالت ضاحكةً "مهمتي الأساسية هي العناية بنفسي والاستمرار في فعل ما أفعله، لأنه من المؤكد أن من المهم أن يوجه لي الكثير من الاهتمام".
تقول برادي إن المطلعين في الحكومة يشجعونها مراراً وتكراراً على مواصلة القراءة والبحث والنشر. قالت: "أعرف أن البحث الذي أقوم به يحظى بتقدير حكومتنا، كما أن شجاعتي في التحدّث تُقَدر أيضاً".
"لكنني وعائلتي جزء من الوضع السياسي الجغرافي المتغير. ولا بد لي من التعامل مع ذلك وفي الوقت نفسه أكون أمّاً، وأستاذةً أكاديمية، وزميلةً، وشخصاً في السوبر ماركت.. يجب أن أكون طبيعية كذلك".