تشهد ألمانيا إعادة تشكيل لمشهد اليسار، ما بين ولادة حركة يسارية ذات نبرة معادية للأجانب وتحدي أنصار البيئة لحزب اشتراكي ديمقراطي في أزمة، بحثاً عن حلول بمواجهة صعود اليمين المتطرف.
وبعدما مهدت الطريق بمهارة منذ أشهر، تطلق سارة فاغنكنيخت، أبرز وجوه حزب "دي لينكي" اليساري الراديكالي، في الرابع من سبتمبر/أيلول حركة "انهضوا" (أوفشتيهن)، التي تعتزم بمعزل عن تناول المسائل الاجتماعية، طرح خط أكثر تشدداً بشأن الهجرة.
وهدف فاغنكنيخت المعلن هو توحيد قوى اليسار التقدمية حول مشروع يرمي إلى مكافحة الفوارق الاجتماعية المتزايدة في القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا.
وتفيد أولى الأرقام الرسمية بانضمام حوالي 40 ألف شخص إلى الحركة التي تندرج في خط تحرك سياسي في انتشار أوصل في فرنسا جان لوك ميلانشون إلى الجمعية الوطنية، وإيمانويل ماكرون إلى الرئاسة.
وتخاطب هذه الحركة الجديدة أنصار اليسار الراديكالي والحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر، وجميعهم من الذين خابت آمالهم بعد 13 عاماً من حكم المستشارة أنجيلا ميركل، فاتجهوا إلى اليمين المتطرف أو باتوا يقاطعون الانتخابات.
والهدف النهائي هو تشكيل "غالبيات سياسية جديدة وحكومة جديدة ذات جدول أعمال اجتماعي"، على ما أوضحت فاغنكنيخت، وهي شخصية معروفة ومثيرة للجدل على غرار زوجها أوسكار لافونتين، الوزير السابق من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي ساهم في تأسيس "دي لينكي".
حان الوقت
والظروف مواتية لمثل هذا التحرك، إذ بات الألمان يضعون المواضيع الاجتماعية في طليعة مطالبهم إلى جانب سياسة الهجرة، بحسب ما كشف استطلاع للرأي أجرته مؤخراً شبكة "آ إر دي" التلفزيونية.
وفي مواجهة صعود حركة "البديل لألمانيا" اليمينية المتطرفة التي دخلت العام الماضي إلى مجلس النواب، رأت مجلة "ديرشبيغل" أن "الوقت حان لإطلاق حركة تجمع اليسار".
وهذا يصح رغم أن شخصية مؤسسي هذه الحركة لا تبعث على الارتياح، وهم موضع انتقادات داخل صفوف حزبهم نفسه وليسوا معروفين بسعيهم لتوحيد الصفوف، بل إلى إثارة الشقاقات.
ورأى الخبير السياسي في برلين ديتر روشت، أن الحركة قد تلقى نجاحاً "أقله على المدى القريب".
وأوضح أن مواقف فاغنكنيخت المؤيدة لسياسة هجرة مشددة ولتقارب مع روسيا "من شأنها نيل تأييد قسم من ناخبي (البديل لألمانيا)".
وفي مواجهة هذا التهديد الذي يستهدفه هو أيضاً مباشرة، يبدي الحزب الاشتراكي الديمقراطي ارتياحه، حيث قالت رئيسته، أندريا ناليس، منذ أبريل/نيسان: "هذا لا يحرمني من النوم".
والواقع أنها تواجه مشكلات على أصعدة أخرى. فبعدما سجل حزبها أسوأ نتيجة تاريخية له في انتخابات 2017 التشريعية، حيث لم يحصل سوى على 20,5% من الأصوات، يعاني منذ ذلك الحين من تراجع متواصل في استطلاعات الرأي، في حين انضم إلى ائتلاف ميركل منذ مارس/آذار، وتقلص الفارق الذي يفصله عن اليمين المتطرف وكذلك أنصار البيئة.
خطر أخضر
ويشجع هذا الوضع الخضر على إبداء طموحاتهم وتمييز أنفسهم عن حزب اشتراكي ديمقراطي في تراجع. وأعلن روبرت هاسبيك، الذي انضم حديثاً إلى رئاسة الخضر، أن "إنشاء غالبيات سياسية ليبرالية وتقدمية وبيئية هو من واجب الخضر قبل غيرهم".
وتابع محذراً: "إن كان ذلك غير كاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي… عندها سيتحتَّم البحث عن حلول أخرى"، في نداء مبطن إلى المحافظين، بغية تشكيل تحالف حكومي عام 2021، حين ستسلم ميركل على الأرجح قيادة البلاد.
ويدرس الاشتراكيون الديمقراطيون هذا التهديد بجدية، وقالت ناليس مؤخراً، إنها تعمل على تشكيل تحالف "أحمر أخضر" على المستوى الوطني، ومن ضمنه بالتالي اليسار الراديكالي.
غير أن الكثيرين يشككون في قدرة أقدم أحزاب ألمانيا على استقطاب التأييد.
وأوضح الخبير السياسي ماتياس ميكوس، من معهد الأبحاث حول الديمقراطية في غوتينغن، أنه منذ الإصلاحات الليبرالية التي أقرَّها المستشار الأسبق غيرهارد شرودر، يعاني الحزب الذي أنشئ قبل أكثر من 150 عاماً من "قصور في التوجه".
وتابع متحدثاً لوكالة فرانس برس: "إنه لم يعد يعرف ما هي أهدافه، ومن هي مجموعات ناخبيه" معتبراً من الضروري إعادة تحديد مواصفات الحزب.
وهذا ما يحاول الاشتراكيون الديمقراطيون القيام به، وقد باشروا مؤخراً حملةً سياسةً اجتماعيةً تتمحور حول النظام التقاعدي.
وفي سياق هذه المساعي، قطع الحزب وعوداً كان هو نفسه يعتبر في ما مضى أنه لا يمكن تحقيقها، مثل ضمان مستوى المعاشات التقاعدية حتى 2040، من خلال زيادة المساهمات ورفع الضرائب، وهو ما اعتبرته "ديرشبيغل"، "رهانا ينطوي على مجازفة".