تركت الفُتات لليهود العرب والغجر.. كيف بنت إسرائيل دولتها وحصلت على ما يقرب من 90 مليار دولار باستغلال المحارق النازية؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/19 الساعة 18:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/19 الساعة 18:43 بتوقيت غرينتش
Israeli Prime Minister Ehud Barak (R) and German Chancellor Gerhard Schroeder (L) speak at a joint press briefing following a welcoming ceremony and a meeting at the Prime Minister's office in Jerusalem October 31, 2000. Schroeder is on a two day trip to Israel and the West Bank for a visit aimed at improving bilateral relations. NB/JDP

عندما تنتهي الحروب الكبرى، التي شهدت كمّاً هائلاً من الدمار، والخسارة المادية والبشرية، غالباً ما تتوجه الأعين وتمتد الأيادي إلى توقيع المعاهدات، واتفاقيات الصداقة، في محاولاتٍ لمساعدة جراح الحرب على الالتئام، وبدء صفحات جديدة دون خلافات، أو نزاعات، لكن موزاين القوى أحياناً تتحكم في الأمور، وتضع خططاً، من شأنها إخضاع الدول المهزومة في المقام الأول، ربما بهدف ضمان الاستقرار، والسلام مستقبلاً، أو ربما بهدف ما يشبه "ترويض" تلك الأمم، وفرض عقوبات عليها للاستفادة من النصر بكامل مَجده. أو ربما التعامل مع تلك الدول التي تسببت في الخسائر باعتبارها "مذنبة"، ومطالبتها بتحمل تكلفة هذا الذنب؛ سواء بشكل مادي، أو معنوي؛ وهو ما حدث مع ألمانيا بصفتها، دولة محورية في الحربين العالميتين الأولى، والثانية، وبالنظر إلى ما حدث خلالهما من دمار، واضطهاد عرقي لبعض الفئات؛ وكان من أشهرهم يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما ظلت ألمانيا تتحمل تكلفته حتى يومنا هذا.

اتهامات بالتسبُّب في الحرب الأولى.. العداء اليهودي المبكر

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، والتي شهدت خسائر بشرية، ومادية هائلة؛ بخسارة الجانب الألماني وحلفائه تم عقد مباحثات موسعة للسلام بدأت بمؤتمر باريس للسلام في يناير/كانون الثاني 1919 بحضور أكثر من 30 دولة على رأسها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، للتباحث بشأن عملية السلام بين الدول التي شاركت في الحرب، وبعد ستة أشهر من المحادثات، والمداولات؛ خرجت قوى الحلفاء بنص معاهدة فرساي في 29 يونيو/حزيران عام 1919، وتضمنت عقوبات، ومطالبات لها، وعلى رأس تلك المطالبات تعويضات مادية بلغت 269 مليار مارك ذهبي ألماني، أي ما يعادل 100 ألف طن من الذهب، تُدفع للدول المتضررة من الحرب، باعتبار ألمانيا هي المسؤول الأول عن قيام تلك الحرب.

الحرب العالمية الأولى قد تكون من أسباب العداء الأولى في ألمانيا ضد اليهود
الحرب العالمية الأولى قد تكون من أسباب العداء الأولى في ألمانيا ضد اليهود

بعدما اجتاح حزب العمال الألماني النازي الانتخابات البرلمانية عام 1932، قرر أدولف هتلر ترشيح نفسه للرئاسة، فلم ينجح، ولكنّ شعبيته وشخصيته القوية دفعت الرئيس الفائز في الانتخابات "بول فون هندنبرج" إلى تعيينه مستشاراً للدولة، أي رئيساً للحكومة، فأحكم قبضته على كل نواحي الحياة العامة في ألمانيا، وبدأ هتلر في النهوض بالصناعات المختلفة.

واهتم بمجال الدعاية بشكل خاص والتي عملت بقوة لترسيخ العداء لليهود ولومهم على خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، واتهامهم بالوقوف خلف عقوبات فرساي؛ ولكن بعدما دخلت ألمانيا في قلب معمعة الحرب، رأى هتلر أن تشويه اليهود، وعزلهم لم يكن كافياً بالنسبة له وقرر عام 1941 أن يبدأ في إبادة اليهود بشكل نهائي من ألمانيا، ولاحقاً من الدول المجاورة التي قررت ألمانيا احتلالها مثل "بولندا" و"الاتحاد السوفييتي".

ليس اليهود فقط.. الجنس الآري فوق الجميع!

بدأ الحزب النازي وأقطابه في إقامة ما عرف لاحقاً بمعسكرات الحشد، أو معسكرات التعذيب concentration camps والتي فصل فيها هتلر الأجناس غير المرغوب فيها داخل نسيج المجتمع الألماني، وكان أغلب روادها من اليهود، والغجر، ومثليي الجنس، وهو ما رآه هتلر بمثابة "تطهير" للعرق الآري الألماني من "العيوب"، وفي تلك المعسكرات كان الجيش الألماني، بمعاونة أجهزة الاستخبارات النازية يشرفون على أعمال شاقة، ومهام عصيبة تُطلب من المعتقلين، وأحياناً بعض التجارب العلمية ذات الأغراض العسكرية.

هتلر لم يعتقد في نقاء الجنس الآري فوق اليهود فحسب، ولكن فوق كل الأجناس الأخرى
هتلر لم يعتقد في نقاء الجنس الآري فوق اليهود فحسب، ولكن فوق كل الأجناس الأخرى

مثل تجارب مدى تحمل الإنسان البشري لشرب مياه البحر المالحة، وتجارب احتمال البرودة الشديدة؛ لاختبار ما يمكن تدريب الجنود الألمان عليه، بخلاف بقايا المحارق في أفران الغاز والتي تم ربطها بإبادة 6 ملايين أوروبي من اليهود بحسب أغلب المصادر الغربية، بينما ذكرت إحداها أنهم أقل من مليون يهودي بحسب أحد الحاخامات اليهود، المحارق التي اكتشفت بعد نهاية الحرب، كان أشهرها معسكر "أوشفيتز" Auschwitz في بولندا أثناء احتلالها، بجوار أعداد تتراوح ما بين 220 ألفاً إلى واحد ونصف مليون من غجر الروما الذين انتشروا في رومانيا وما حولها أثناء اجتياح هتلر أوروبا أثناء الحرب.

ما بعد الحرب.. التعويضات التي قامت عليها إسرائيل!

تضمنت خطط الحلفاء والولايات المتحدة في مؤتمراتها التي انعقدت عقب انتهاء الحرب على العديد من القرارات التي خرجت إلى العالم في أكثر من مؤتمر واتفاقية، من أهمها مؤتمر "بوتسدام" عام 1945، واتفاقية باريس للسلام عام 1947، وكانت من أهم تلك النتائج إلزام دول المحور على رأسهم ألمانيا بدفع تعويضات للدول التي تضررت من الحرب، ومنهم اليونان وبولندا وغيرهم، وأخيراً يهود العالم أجمع؛ قبل إعلان فلسطين وطناً قومياً لليهود، تلك التعويضات التي مازال الألمان يعانون تبعاتها حتى اليوم، وربما الغد القريب.

مؤتمر باريس للسلام كان أحد الأسس التي وُضعت من أجل دفع التعويضات لضحايا النازية
مؤتمر باريس للسلام كان أحد الأسس التي وُضعت من أجل دفع التعويضات لضحايا النازية

بدأت التعويضات الألمانية لليهود باتفاقية لوكسمبرغ عام 1952 والتي وقعتها إسرائيل مع ألمانيا، وتضمنت التعهد بسداد مبلغ 822 مليون دولار تعويضاً عن الاضطهاد العرقي وضحايا النازي من اليهود، وفي خلال 14 عاماً كانت ألمانيا "الغربية" وقتها قد دفعت ما يقرب من 3 مليارات مارك للحكومة الإسرائيلية، ومبلغ 450 مليون مارك بشكل منفصل إلى المجلس اليهودي العالمي، كما توجهت أغلب التعويضات الألمانية في السنوات التالية إلى جهات حكومية إسرائيلية، وحتى حزب العمل الإسرائيلي "هستدروت".

بخلاف معدات حديثة لما يقرب من 1300 جهة حكومية إسرائيلية، بما فيها السكك الحديدية وشبكات إمدادات المياه كما استغلت نسبة 30 % من التعويضات الألمانية لإسرائيل لشراء الوقود للسفن التجارية وعمليات الاستيراد والتصدير، كما شكَّلت التعويضات الألمانية ما يقرب من ثُلث تكلفة البنية التحتية الكهربائية والزراعية، وقطاعات التعدين، والصناعات المعدنية في إسرائيل، وهو ما ساهم بشكل كبير في تنمية تلك القطاعات وغيرها في الفترات الاولى وحتى السبعينيات؛ من ترسيخ وجود الاحتلال الإسرائيلي بصفته "دولة حديثة"، بحسب ما نشر في كتاب "المليون السابع: الإسرائيليون والهولوكوست" للكاتب والمؤرخ اليهودي توم سجيف، وهو ما أيدته إحدى الدراسات المنشورة بجامعة " كاليفورنيا سانتا باربرا" عام 2002

ليست مالية فقط بل مساعدات مادية أيضاً.. ولايزال هناك المزيد

بجوار ما وصلت إليه مبالغ أخرى؛ زوَّدت بها الحكومة الألمانية إسرائيل منذ بدء الإتفاقية وحتى عام 2007، ما يقرب من 700 مليون دولار في شكل مساعدات مادية، وبضائع، وهو ما أعلنته ألمانيا بالفعل بشكل شبه غاضب في أواخر 2007، مما دفع وزير المالية الإسرائيلي وقتها "روني بار-أون" إلى الرد بإعلان نية إسرائيل طلب دفعات جديدة من التعويضات، وهو ما اضطرت ألمانيا للقبول به.

لا تزال إسرائيل حتى الآن تتمتع بتعويضات تدفعها الحكومات الألمانية المتعاقبة، في الصورة: رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك مع المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر في القدس المحتلة
لا تزال إسرائيل حتى الآن تتمتع بتعويضات تدفعها الحكومات الألمانية المتعاقبة، في الصورة: رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك مع المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر في القدس المحتلة

واستمرت ألمانيا في دفع تعويضات جديدة إلى إسرائيل حتى عام 2012، حتى وصل مجموع ما دفعته ألمانيا إلى إسرائيل واليهود إلى ما يقرب من 89 مليار دولار، بخلاف موافقة ألمانيّة جديدة في يوليو/تموز 2018 على دفعة تعويضات جديدة بمبلغ 88 مليون دولار؛ كدفعة أولى من مبلغ 560 مليون دولار وعدت بهم ألمانيا الحكومة الإسرائيلية بحلول 2019، لتقترب التعويضات الألمانية لإسرائيل واليهود من حاجز 100 مليار دولار في حال استمر الضغط الإسرائيلي على ألمانيا لسنوات قادمة.

ماذا عن غجر الروم وغيرهم.. أم أن اليهود هم المفضّلون دائماً؟

بعد انتهاء الحرب وتقسيم ألمانيا إلى جزأين، شرقي وغربي، قام العديد من جماعات غجر الروما بمحاولات أمام السلطات الألمانية الغربية لإثبات التمييز العنصري، والإبادة النازية لذويهم أثناء الحرب وتعرضهم للتعذيب من قبل إدارة هتلر العسكرية وعلى رأسهم الطبيب النازي "يوسف منجيل"؛ ولكنّ السلطات في ألمانيا الغربية رفضت الإقرار والاعتراف بتلك الفظائع بشكل رسمي، متعللين بأن التطهير العرقي النازي لهم كان سببه "خلفيتهم الاجتماعية والإجرامية".

وبقيت جرائم النازيين في حق الغجر محل نكران لفترات طويلة، حاولوا خلالها الاستعانة بالمجتمع الدولي، وإيصال أصواتهم إلى العالم دون جدوى، وظلوا لفترات طويلة عاجزين عن الحصول على حقوقهم، حتى عام 1979 عندما قامت الحكومة الفيدرالية لألمانيا الغربية بالاعتراف الرسمي بأن المذابح التي أقيمت ضدهم –الأخص قبائل البوراجموس- هي "عرقية" النزعة ، وأقرت بأحقيتهم في الحصول على تعويضات.

ضحايا النازيين كانوا من الروس واليهود والغجر وغيرهم، إلا أن إسرائيل كانت الرابح الأكبر من تعويضات الهولوكوست
ضحايا النازيين كانوا من الروس واليهود والغجر وغيرهم، إلا أن إسرائيل كانت الرابح الأكبر من تعويضات الهولوكوست

الأمر الذي جاء متأخراً، فقد كان أغلب المستحقين للتعويضات ميتين بالفعل، أو بعيدين عن التمثيل الرسمي للمطالبة بحقوق آبائهم، ولم تعترف ألمانيا الموحدة بعد ذلك بالأمر إلا عام 2011 في يوم ذكرى محارق الهولوكوست، ولم تخصص الحكومة الألمانية لهم إلا مبالغ ضئيلة –مقارنة باليهود- ضمن برامج حكومية وخاصة لتعويض العمالة الجبرية أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، والتي لا تتجاوز 18 مليون  دولار للفئة بأكملها وليس للغجر وحدهم، الجدير بالذكر أن نسل غجر الروما اليوم تتراوح أعدادهم ما بين 10 إلى 12 مليوناً في أنحاء أوروبا، ويعانون الكثير من المتاعب في المجتمع الأوروبي، بداية من التمييز العنصري والاتهامات بالإجرام، وطبقاً لأرقام الوكالة الأوروبية لحقوق الإنسان فإن واحداً من بين ثلاثة من غجر الروما تحت خط الفقر، ويعانون من البطالة.

بينما لم تحصل دول أخرى تضررت من الحرب على تعويضات ألمانية كبيرة مثل الصرب ويوغسلافيا، والذين حصلوا على ما يقرب من 36 مليون دولار في شكل مساعدات ألمانية، ومعدات لإعادة الإعمار، واليونان التي حصلت على 115 مليون دولار عقب توحيد ألمانيا، برغم أن خسائر الحرب في اليونان وأغلب تلك الدول لم تتناسب مع التعويضات الألمانية المدفوعة.

إسرائيل التي ابتلعت كل التعويضات نيابة عن يهود العالم!

برغم أن التعويضات الألمانية لليهود ذهب جزء منها بشكلٍ منفصل إلى المجلس اليهودي العالمي بقيمة 450 مليون مارك، إلا أن النقطة التي شهدت خلافاً بين اليهود في بداية وقت دفع التعويضات، هو أن اليهود الذين تعرضوا للإبادة وقت الحرب العالمية الثانية كانوا من يهود أوروبا وبالتحديد النسبة الأكبر من "بولندا" والتي كانت قد حصلت عام 1975 في اتفاقية جيريك-شميدت على مبلغ 1.3 مليار دولار تخصص لتقاعد البولنديين غير اليهود المتضررين من العدوان النازي، ولكن أصر "ديفيد بن غوريون" رئيس وزراء إسرائيل وقتها وأحد مؤسسيها وقتها كما جاء في كتابه "السياسة والقيادة في إسرائيل" أن التعويضات واجبة التخصيص إلى إعادة "تسكين" و"توطين" ضحايا النازية في "وطن يهودي".

وهو ما تجلى في وظيفة "الوكالة اليهودية" والتي نشطت في الخمسينيات، وعملت على تهجير أكبر قدر من اليهود الناجين من الحرب إلى "أرض الميعاد"، والتي كان من المخطط لها لم شمل اليهود الناجين، واليهود في كل أنحاء الأرض، لخلق الصفة "الرسمية" للمطالبة بالتعويضات.

إسرائيل حاولت تجميع اليهود من كل مكان من ضحايا النازية كي تطالب بأكبر قدر ممكن من التعويضات
إسرائيل حاولت تجميع اليهود من كل مكان من ضحايا النازية كي تطالب بأكبر قدر ممكن من التعويضات

بينما لم تُخصص تعويضات ألمانية ليهود آخرين إلا مؤخراً، وتحديداً عام 2011 عندما طالبت إسرائيل ألمانيا بدفع تعويضات لليهود المغاربة، الذين عانوا من الاضطهاد وقت الحكم النازي، ولجيرانهم من اليهود الجزائريين أيضاً، والتي وافقت عليها ألمانيا عام 2017 بصرف مبالغ تتراوح ما بين 2500 يورو لكل شخص، وهو المبلغ نفسه الذي حصل عليه المغاربة من قبل في 2011، بينما ترى بعض الآراء أن تلك التعويضات قد ابتلعتها إسرائيل بالكامل برغم أنها لا تمثل الكثير من اليهود الضحايا والذين تظل نسب كبيرة منهم غير معلومة الهوية والجذور، وأنه كان هناك تلاعب إسرائيلي للاستفادة من النسبة الكبرى وشبه الكُلية من تلك التعويضات.

تحميل المزيد