يعدُّ مؤتمر فلسطينيي أوروبا بنسخته العشرين من المحطات المهمة والمميزة في مسيرة ونضال الشعب الفلسطيني، باعتباره نتاجاً وبلورةً لجهود فلسطينية حثيثة في أنحاء القارة الأوروبية.
يأتي مؤتمر فلسطينيي أوروبا لإبراز قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، والتمسك بها، وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجُروا منها إبان النكبة في العام 1948، التي يعيش الشعب الفلسطيني ذكراها الـ75 هذا العام، والتي تكتسب أهمية خاصة في سياق مساعي فلسطينيي أوروبا وجهودهم تلك، وهو ما جعلها مناسبة لالتئام مؤتمرات فلسطينيي أوروبا بدءاً من مؤتمر لندن عام 2003.
حتى يتمكن القارئ من الإلمام بحيثيات هذه المؤتمرات، لا بدّ من الرجوع إلى ثلاثة عقود للاطلاع على الأزمات متعددة العناوين المتمثلة في اتفاقية أوسلو التي لها أثر بالغ في تغيير مجرى النضال الوطنيّ، وتفتيت طموح الشعب الفلسطيني السياسي وخطابه واستراتيجيّاته، وحالة الترهل داخل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك حالة الانقسام الداخلي الذي أفضى لغياب المرجعية الجامعة التي تمثل عموم الشعب الفلسطيني وتعبر عن إرادته ضمن برنامج سياسي يهدف لاستعادة كامل الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم، ولا بدّ من مخرج لذلك يتمثل بإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية تقوم على الانتخابات العامة في الداخل والخارج؛ حيث أمكن، والتوافق في حال صعوبة ذلك، بغية فرز مجلس وطني جديد ينتخب بدوره قيادة تنفيذية، بعد اتفاق الفصائل الفلسطينية وقوى الشعب كافة ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية على تفاصيل ذلك.
الحفاظ على الهوية الوطنية والانتماء
أمام هذه الإشكالية وهذه التحديات، وفي ظل الظروف المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية وفي ظل وجود الطاقات الكبيرة التي تحتضنها الدول الأوروبية والأجيال الفلسطينية المتعاقبة التي نشأت فيها، والتي استطاعت أن تزاوج بين التمتع بمواطنة البلدان والحفاظ على الهوية الفلسطينية والانتماء الراسخ من الأهمية بمكان عدم الركون لهذه الحالة المترهلة.
كما من الضروري أن ينبري المخلصون من أبناء شعبنا، بغض النظر عن مواقعهم وأماكن وجودهم، إلى البحث في سبل إيجاد اختراق لحالة انسداد الأفق السائدة، وهنا يؤمن المؤتمر بأن فلسطينيي أوروبا بالخصوص يمكنهم أن يسدّوا هذه الفجوات بما لديهم من إمكانية تشكيل نموذج مميز للتقدم إيجاباً في الحالة الوطنية الفلسطينية على أسس ديمقراطية، ضمن مبدأ الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد إعادة هيكلتها كمرجعية وممثل للشعب الفلسطيني دون استثناء وإقصاء أحد.
في تفصيل أكثر يتمتع فلسطينيو أوروبا بميزات مهمة كونهم يقطنون ببيئات أوروبية منفتحة ومتنوعة وممتدة جغرافيّاً، سواء من الناحية السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ مما ينعكس إيجاباً على أوضاعهم ولو بشكل نسبي، وأفرز نماذج نجاح فردية وجماعية عديدة ومتفوقة أحياناً.
كما نشأ من امتداد الوجود الفلسطيني في أوروبا نشوء أجيال وطاقات شبابية حيّة ومبدعة استطاعت أن تشكّل نوافذ حقيقية على المستوى السياسي والعلمي والأكاديمي والمؤسساتي، كل تلك العوامل انعكست إيجاباً على الحراك الفلسطيني لصالح القضية، وأدّت إلى شيء من التقارب الوطني المتقدم، وأوجدت تجارب عمل مشتركة لصالح القضية، مدعومة بحركة التضامن الواسعة من أبناء الجاليات العربية والمسلمة وأحرار أوروبا في عموم دول القارة الأوروبية.
عليه.. نرى فيما سبق اجتماع الحاجة الملحة والفرصة السانحة لتكوين مرجعيات جامعة تأخذ بتلك الميزات؛ للاستفادة منها في تحقيق منافع للقضية، والوقوف في وجه اللوبي الصهيوني الذي يستهدف النيل من حقوق الشعب الفلسطيني وتشويه عدالة قضيته.
إن مؤتمر فلسطينيي أوروبا يرى أن المرجعيات المخلصة للقضية ستسهم في تقديم وجهة النظر الفلسطينية لدوائر القرار الأوروبي من ناحية، كما ستولي من ناحية أخرى عناية واهتماماً حثيثين لشؤون أبناء شعبنا الفلسطيني في القارة الأوروبية، وخصوصاً الأجيال الجديدة منهم، وواجب الحفاظ على هويتهم الوطنية ومتابعة أية صعوبات حياتية تعترضهم، ومحاولة حلها.
تتوّج كل هذه الجهود بتقديم كل أشكال الدعم والإسناد لأبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل الرازح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك أبناء شعبنا في مخيمات اللجوء والشتات؛ ليتم ذلك كله تحت سقف القوانين المحلية والدولية والالتزام الكامل بها.
في ظل ما سبق ولحين التوافق الفلسطيني الجامع على انتخابات شاملة لفرز مجلس وطني جديد وإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية، كما عبَّر عنه القائمون على فعاليات المؤتمر هو التطّلع وبدافع الأهمية الاستراتيجية لعمل مرجعيات ديمقراطية محلية في الأقطار المختلفة، ولاحقاً، ما أمكن، على مستوى القارة الأوروبية تقوم على الأسس التالية:
١- هذه المرجعيات ليست بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية، وتعترف بها مرجعية، وتطالب بسرعة إعادة هيكلتها على أسس ديمقراطية تعتمد على الانتخابات، حيث أمكن مبدأ أساسي للفرز القيادي لمجلس وطني جديد.
٢- تحتاج هذه المرجعيات إلى التوافق ما أمكن من قبل المؤسسات والشخصيات الفلسطينية المحلية في القطر الواحد؛ ليشكلوا غطاء قانونياً للانتخابات المؤملة تدفع أبناء الشعب الفلسطيني في القطر الأوروبي إلى الطمأنينة والإقدام على المشاركة بفاعلية في الانتخابات.
٣- هذه المرجعيات الديمقراطية شعبية بحتة.
٤- هذا المرجعيات لا تدعي تمثيل عموم الجالية أو القارة، إنما تمثل من يشارك في الانتخابات.
٥- يتم التوافق على هيئات محايدة، سواء من أبناء الجاليات العربية أو من أحرار أوروبا الداعمين للقضية، أو من الشخصيات الفلسطينية الوازنة والمستقلة؛ لتشرف على العملية الانتخابية ونزاهتها.
٦- تتفق الجهات المبادرة على تعريف من هو الفلسطيني وكيفية إثبات ذلك.
سيل من الاتهامات
اللافت للانتباه سيل الاتهامات الموجهة للمؤتمر، فهي ليست جديدة، فقد بدأت مع انطلاقته عام 2003، عندما رأت فيه حركة فتح محاولة لتشكيل بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية أو تعطيل دورها، رغم التأكيدات المتكررة من القائمين على أعمال المؤتمرات بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولا يوجد أيّ مساعٍ لإلغائها أو تعطيل دورها أو تهميشها، بل إصلاحها لتكون أهلاً لتمثيل كل فلسطيني.
لا كما يدعي رموز السلطة والمتنفذون داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وهو اتهام القائمين على المؤتمر والجاليات الفلسطينية في الخارج بالسعي إلى تعميق الانقسام، وضرب وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، وأن هذا خارج عن إرادة الشعب الفلسطيني في أوروبا.
الهجوم الأبرز من جانب السلطة كان من جهة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ووزير الشؤون المدنية في السلطة، حسين الشيخ، الذي وصف مؤتمر فلسطينيي أوروبا بـ"المشبوه"، وزعمه أن "هذا المؤتمر يهدف إلى ضرب وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني من خلال منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وشق الصف الفلسطيني وانقسام جالياتنا في الخارج".
كما أضاف: "هذا خط أحمر لن نسمح بتجاوزه"، وفق قوله، وتهديده بالقول: "كل من يشارك في هذا المؤتمر سيطبق عليه ما ورد في الأنظمة والقوانين واللوائح الداخلية لمنظمة التحرير، كما سيتحمل مسؤولية التبعات الكاملة لمشاركته".
دور فعّال لـ "مؤتمر فلسطينيي أوروبا"
يمكن القول إن عقد مؤتمر فلسطينيي أوروبا كان منعطفاً هاماً، لأنه يضمُّ في رِحابه شريحة عريضة من النشطاء، ولا سيَّما الشباب، الذين يدعمون الحركات والحملات التضامنيّة في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى دورهم الفعَّال في تنظيم المظاهرات والفعاليّات رداً على الجرائم الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وكذلك في التعبير عن المطالب السياسيّة الفلسطينية، خاصةً المتعلِّقة بحقّ العودة.
هكذا يعدّ مؤتمر فلسطينيي أوروبا منعرجاً هاماً في مسيرة الشعب الفلسطيني، وخاصة أنه يضم الآلاف من فلسطينيي أوروبا بمختلف توجهاتهم، إضافة لعدد من النواب في البرلمانات السويدية والإيطالية والإيرلندية، وممثلين عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار وحزب البيئة في السويد.
كما يضم مؤتمر فلسطينيي أوروبا عدداً من الكتاب السويديين، وأعضاء في مجالس البلديات هناك، وجمعاً غفيراً من السياسيين والناشطين السويديين والأوروبيين والشخصيات الفاعلة في الشأن الحقوقي والإعلامي والاقتصادي والفني والثقافي من أوروبا والعالم.
إضافة إلى ما سبق، يتضمن المؤتمر الأساسي عدة مؤتمرات موازية، أبرزها مؤتمر المهندسين الفلسطينيين في أوروبا، مؤتمر المرأة الفلسطينية في أوروبا، مؤتمر المؤسسات العاملة لفلسطين في أوروبا، مؤتمر الشباب الفلسطيني، مؤتمر المعلمين الفلسطينيين، ومؤتمر واقع الطبيعة في فلسطين، مهرجان الفيلم الفلسطيني، خيمة معرض الأسرى، ومنصة تكريم شهود النكبة الفلسطينية في أوروبا، وورشة للتفكير في تشكيل لوبي فلسطيني قوي.
سجل للمؤتمر وفق سجلات القائمين عليه منذ نسخته الأولى في عام 2003 إسهامات بارزة في نشر الرواية الفلسطينية وبيان الحق الفلسطيني في المحافل الأوروبية، وفضح الادعاءات الإسرائيلية القائمة على الزيف والبهتان، وفضح جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين وأرضهم وممتلكاتهم.
إضافة إلى ذلك، فإن مؤتمر فلسطينيي أوروبا جاء ليؤكد على التمسك بالحقوق والثوابت الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها الحق بالحرية والعودة وتقرير المصير.
أطلق مركز العودة المؤتمر في العام 2003، ونظم 19 دورة سابقة، قبل أن يصبح مبادرة مستقلة وقائمة بحد ذاتها، إضافة إلى إطلاق عشرات المبادرات على شكل مشروعات خدمية وخيرية وسياسية وحقوقية لمختلف أماكن الوجود الفلسطيني في الداخل والخارج، من بينها حملات الدعم الإنساني، وسفن كسر الحصار عن غزة، والوفود البرلمانية الأوروبية التي زارت فلسطين ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
ينظر الفلسطينيون في أوروبا إلى هذا المؤتمر على أنه لقاء جامع لهم، وفرصة سانحة للتأكيد على حق العودة وكل الثوابت الفلسطينية، وأنه مَكَّنَ الفلسطينيين المنسيين والمهمشين في أوروبا من أن يكون لهم دور وعمل، ويساعد في تسليط الضوء على قدراتهم وإمكانياتهم، ويكشف عن مواهبهم وطاقاتهم، ويظهر أنهم يستطيعون المساهمة في المقاومة، وخدمة شعبهم، ودعم صمودهم، وترسيخ ثباتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.