حالة من الغموض التام تحيط بقضية الفساد الكبرى في وزارة الصحة المصرية، ومدى تورط الوزيرة هالة زايد فيها، بسبب التكتم الذي فرضته الحكومة المصرية على القضية، والحرص على عدم توضيح الحقائق فيها.
وزاد من حالة الغموض إصدار مكتب النائب العام المصري بياناً مبهماً يطالب فيه الجميع بعدم تصديق ما ينشر من شائعات في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل حول قضية الفساد، وأهابت النيابة العامة بالالتزام بما تعلنه وحدها من معلومات حول الواقعة، علماً بأنها لم تعلن حتى كتابة هذه السطور أي بيانات أو معلومات عن القضية.
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر شهدت جدلاً واسعاً حول وزيرة الصحة المصرية منذ يوم الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول، عقب انتشار خبر إصابتها بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم ونقلها إلى مستشفى "وادي النيل" التابع لجهاز المخابرات العامة في منطقة حدائق القبة شرقي العاصمة المصرية القاهرة.
تزامن ذلك مع الإعلان عن إلقاء هيئة الرقابة الإدارية القبض على أحمد سلامة مدير مكتب الوزيرة، و4 قيادات أخرى في الوزارة بينهم مدير إدارة العلاج الحر و3 من العاملين بالإدارة، منهم المسؤول عن لقاحات فيروس كورونا بتهم الفساد المالي.
الكشف عن قبول الوزيرة هدية ثمينة
"عربي بوست" علمت من مصدر موثوق بهيئة الرقابة الإدارية أن السبب الحقيقي للأزمة الصحية التي ألمَّت بالوزيرة المصرية، أنها اكتشفت ورود اسمها في التحقيقات التي أجرتها الهيئة.
فطبقاً للمصدر، فقد شملت تحقيقات هيئة الرقابة الإدارية اعتراف بعض المتهمين الذين ألقي القبض عليهم، بأن بعض وقائع الفساد التي رصدتها الهيئة كانت بعلم الوزيرة نفسها، وأنها وافقت على قبول هدية تم تقديمها لنجلها عبارة عن سيارة فاخرة من طراز BMW يزيد ثمنها على المليون جنيه، مقابل تقديم تسهيلات غير قانونية لإحدى شركات توريد المستلزمات الطبية للوزارة، حسب ما ورد في التحقيقات.
وأضاف المصدر أن جهات التحقيق في الهيئة تحدثت مع الوزيرة يوم الإثنين الماضي، وواجهتها بما قاله المتهمون، وهو ما تسبب في إصابتها بحالة شديدة من الانزعاج والتوتر، وسقطت على إثر ذلك مصابة بارتفاع في ضغط الدم، استدعى نقلها إلى مستشفى وادي النيل.
ولم يكشف المصدر عن رد الوزيرة على واقعة قبول سيارة فاخرة كهدية لنجلها، لكنه قال إن نجلها لديه بالفعل سيارة فاخرة حصل عليها العام الماضي بعد احتفاله بوصول أول مولود له والحفيد الأول لوزيرة الصحة.
لكن المصدر الذي اكتفى بنقل ما ذكرته التحقيقات، رفض التأكيد بشكل قاطع ما إذا كان نجل الوزيرة قد حصل على السيارة كهدية أم اشتراها بأمواله الخاصة.
وعن سبب نقل الوزيرة للعلاج في مستشفى تابع للمخابرات العامة رغم أنه ليس قريباً من مقر الوزارة في وسط العاصمة المصرية، ووجود عشرات من المستشفيات الجيدة الأقرب للوزارة من مستشفى وادي النيل، قلل المصدر من أهمية الأمر.
وأشار إلى أن الأمر ببساطة أن طبيب القلب المعالج للوزيرة (أستاذ أمراض القلب المعروف حازم خميس) هو من طلب نقلها إلى مستشفى وادي النيل، لأنه كان متوجهاً إلى هناك في الوقت الذي شعرت فيه بالتعب.
ونفى المصدر ما أشيع عن أن تحويل الوزيرة إلى هذا المستشفى كان بهدف وضعها تحت رقابة جهاز المخابرات أو بمثابة وضع تقييدي لها، قائلاً إن المستشفى ليس قاصراً على شخصيات بعينها ولكنه مفتوح للجميع، وأن تبعيته للمخابرات تبعية امتلاك فقط مثل مستشفيات الجيش والشرطة وغيرهما.
ودلل على كذب الشائعات بأن الوزيرة غادرت المستشفى بالفعل يوم الأربعاء 27 أكتوبر/تشرين الأول إلى منزلها، ولو كان هناك أمر باحتجازها أو وضعها تحت الرقابة لكانت استمرت في المستشفى أو تم التحفظ عليها في مكان آمن.
لكن هذا لم يحدث ببساطة لأنه حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يتم توجيه اتهام محدد ضد الوزيرة.
جهة رقابية طلبت إبعاد الوزيرة لحين انتهاء التحقيقات
من جهة أخرى علمت "عربي بوست" من مصادرها في النيابة العامة بعض تفاصيل قضية الفساد المتهم فيها 5 من قيادات وزارة الصحة بينهم مدير مكتب الوزيرة.
تعود القضية إلى حوالي 3 شهور ماضية حين رصدت الجهات الرقابية اتصالات لمدير مكتب الوزيرة مع عدد من أصحاب الشركات الخاصة، وكذلك مع مدير إدارة العلاج الحر حول إرساء تعاقدات بالمخالفة للقانون مع عدد من المستشفيات والشركات الخاصة، وتم استئذان النيابة العامة لتسجيل المكالمات، وهو ما تم بالفعل.
ورفض المصدر التعليق على تورط الوزيرة من عدمه في قضية الفساد، لكنه قال إن جهة رقابية طلبت إبعاد الوزيرة عن مكتبها في الوزارة في الفترة الحالية لحين انتهاء التحقيقات في القضية، ووضع المعلومات كاملة أمام رئيس الجمهورية، ليقرر هو إعفاء الوزيرة من منصبها أو استمرارها فيه.
وحول تفسيره لأسباب الإفراج عن مدير مكتب الوزيرة وعودته إلى مكتبه في الوزارة يوم الخميس 28 أكتوبر/تشرين الأول، وما إذا كان ذلك توطئة لتبرئة كل المتهمين في القضية، قال المصدر إنه لا يستطيع الكشف عن معلومات تخص تحقيقات جارية حالياً لأن هذا الأمر يعرِّض من يقوم به للمساءلة القانونية.
لكن المصدر اكتفى بالقول إن مدير مكتب الوزيرة لم يكن محتجزاً حتى يتم الإفراج عنه، وإنما خضع للتحقيق، ولم يصدر- بحسب علمه- أي أمر من النائب العام بالتحفظ عليه، نافياً في الوقت نفسه أن يكون الرجل قد عاد إلى مزاولة عمله المعتاد، وإنما ربما ذهب إلى الوزارة للسلام على زملائه أو لأي سبب، لكنه بالتأكيد ليس لممارسة عمله.
رئيس الوزراء طلب من هالة زايد التعاون
المثير- كما كشف مصدر مقرب من الوزيرة لـ"عربي بوست"- أن وزيرة الصحة لم تعرف بأمر المكالمات المرصودة سوى في اليوم الذي سبق إصابتها بارتفاع ضغط الدم، حينما كانت عائدة إلى مكتبها بعد حضورها حفل تخريج طلبة إحدى الكليات العسكرية.
فقد فوجئت الوزيرة بوجود مسؤولين من الرقابة الإدارية في مكتبها، وهو ما أصابها بالانزعاج الشديد، وهاتفت رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، تشكو له من تجاهل إشراكها في قضية بهذا الحجم، فما كان من الأخير سوى أن طالبها بالهدوء والتعاون مع المحققين وتقديم كل ما يريدون من معلومات ووثائق، لأن هذا هو طوق نجاتها من المساءلة أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ثم كانت الطامة الكبرى حين واجه مسؤولو الرقابة الإدارية الوزيرة بقصة السيارة الهدية، واعترافات بعض المتهمين بأنها كانت تعلم بنشاطهم ولم تعترض عليه، حيث أصيبت بارتفاع في ضغط الدم وجرى نقلها إلى المستشفى.
مصدر آخر في وزارة الصحة ألمح لـ"عربي بوست" إلى أن الوزيرة كانت تعلم بالفعل بما يحدث، وأنها لم تفعل شيئاً لإنهاء الأمر، ويدلل على ذلك بحالة الضبابية التي رافقت نقلها إلى المستشفى وتضارب المعلومات التي ظهرت حول حالتها الصحية.
فقد كتبت بعض المواقع نقلاً عن أطباء المستشفى أنها أصيبت بارتشاح في المخ، وكتبت مواقع أخرى نقلاً عن أطباء آخرين في نفس المستشفى أنها أجرت قسطرة علاجية.
وعندما ذهب "عربي بوست" للمستشفى للوقوف على الأمر، أكد مصدر طبي أنها أجرت قسطرة تشخيصية لمعرفة أسباب الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم، ثم غادرت إلى منزلها بعد يومين فقط قضتهما في المستشفى.
مدبولي أسند وزارة الصحة بالإنابة إلى وزير التعليم العالي
وسط هذه الحالة من المعلومات المتواترة حول قضية الفساد، يبقى السؤال قائماً حول ما إذا كان إسناد مهام الوزارة إلى وزير التعليم العالي خطوة على طريق الإقالة أم مجرد إجراء روتيني، خصوصاً أنه تم وفقاً لقرار وزاري صادر عام 2018، ينظم بديل كل وزير في حالة غيابه لفترة مؤقتة عن أداء مهامه الوزارية.
"عربي بوست" طرح السؤال على مصدر برئاسة الوزراء المصرية، فرفض الرد على السؤال بشكل مباشر، لكنه قال إن هناك مؤشرات يمكن لكل ذي عقل أن يستشف منها مستقبل الوزيرة، أولها أن الحالة الصحية لهالة زايد ليست بالغة السوء أو حرجة، فقد أجرت قسطرة تشخيصية فقط، وهي لا تحتاج سوى ليوم أو اثنين راحة على أقصى تقدير، لكنها طلبت إجازة مرضية.
وأضاف أنه تصرف غريب على الدكتورة التي عرفت بنشاطها غير الطبيعي طوال السنوات الثلاث التي تولت فيها مهامها الوزارية.
المؤشر الثاني وهو الأهم أن رئيس الوزراء لم يلتزم بالقرار السابق الذي يلزمه بتكليف من ينوب عن الوزير الغائب طوال فترة غيابه، إذ إن القرار القديم يحدد وزير التضامن الاجتماعي ليحل محل وزير الصحة في حالة غياب الأخير أو عدم قدرته مؤقتاً على أداء مهامه، لكن ما حدث أن مدبولي اختار وزير التعليم العالي خالد عبد الغفار لأنه الأكثر جاهزية لإدارة ملف وزارة الصحة حالياً باعتباره طبيباً، ويتولى بالفعل إدارة المستشفيات الجامعية في مصر في ظل الظروف الاستثنائية التي تشهدها البلاد وتفشي فيروس كورونا المستجد ومتابعة ملف لقاحات فيروس كورونا.
وزيرة الصحة شغلت منصبين في لجان تكافح الفساد!
في سياق متصل، كشفت بعض المواقع الاخبارية نقلاً عمن وصفتهم بمصادر حكومية مصرية مطلعة، أنه قد تم سحب جميع الملفات التي تديرها هالة زايد وإسنادها لاثنين من مساعديها وشخصيتين رقابيتين، بما في ذلك ملف متابعة الحالة الوبائية لفيروس كورونا، في انتظار ما ستنتهي إليه التحقيقات التي تباشرها النيابة العامة في قضية الرشوة التي فُجرت هذا الأسبوع في مكتبها، وشهدت إلقاء الرقابة الإدارية القبض على سكرتير مكتبها ومدير العلاج الحر وأربعة من مساعديه.
وأضافت المصادر أن زايد ليست لها أي صلاحيات حالياً، وهي في انتظار تحديد مصيرها من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، بناء على ما تثبته التحقيقات من علمها أو جهلها أو على الأقل تراخيها إزاء تفاصيل قضية الفساد المضبوطة.
المفارقة أن هالة زايد التي تبلغ من العمر 54 عاماً، شغلت من قبل منصب رئيس لجنة مكافحة الفساد بوزارة الصحة والسكان، وعضو باللجنة التنسيقية لمكافحة الفساد، وقد تولت منصبها الوزاري في يونيو/حزيران 2018، وهي عضو في المجلس التعليمي لكلية الطب بالقوات المسلحة، وفي لجنة أخلاقيات البحث العلمي للكلية كذلك، وكان آخر منصب شغلته هو رئاسة أكاديمية 57357 للعلوم الصحية.