الأحداث الجارية في لبنان وما شهدته من تشكيل حكومة نجيب ميقاتي والحديث عن نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا فتحت الباب للحديث عن الدور الذي باتت تلعبه القاهرة في هذا الملف.
ويعود الحديث عن حضور سياسي وأمني واقتصادي لمصر في لبنان نتيجة مجموعة عوامل سياسية يشهدها لبنان وترتبط بالأحداث الواقعة منذ عدة سنوات.
ورغم أن هذا الدور المصري في لبنان ليس دوراً حديثاً، بل هو دور تاريخي يعود لمرحلة الرئيس المصري جمال عبدالناصر حين كانت القاهرة هي الحاضن الرئيسي للسنة في لبنان، قبيل انتقال الوكالة للسعودية عقب اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، فإن في السنوات العشر الأخيرة وجدت مصر لها متسعاً للحضور بقوة من جديد.
يأتي هذا عبر استعادة مجموعة ملفات رئيسية في المشهد اللبناني بعد الفراغ العربي الذي خلفته السعودية في أعقاب انسحابها التدريجي من لبنان منذ التسوية الرئاسية التي عقدها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مع الرئيس اللبناني ميشال عون، والذي يعتبر مرشح حزب الله.
مسرح لعودة العلاقة مع الأسد
بالعودة للأحداث وفق التسلسل الزمني وتحديداً منذ تولي عبد الفتاح السيسي للرئاسة في مصر، كان لبنان مسرحاً للقاءات جمعت ضباطاً من المخابرات العامة المصرية مع نظرائهم من المخابرات السورية.
هذه اللقاءات كانت في إطار التنسيق الجاري لعودة تطبيع العلاقات بين الجانبين عقب إيقافها خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، فجرت مجموعة من اللقاءات بدأت في شهر فبراير/شباط 2014 واستمرت حتى منتصف العام نفسه مهدت لعودة العلاقات بين الجانبين.
وبحسب أحد المصادر الأمنية لـ"عربي بوست"، فإن اللقاءات كانت تجري في السفارة المصرية في بيروت بحضور السفير المصري حينها أشرف حمدي.
الضغط لتسليم معارضين
عقب الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر منتصف 2013، انتقلت بعض المؤسسات الإعلامية المعارضة للعمل ضمن الساحة اللبنانية، فجرى نقل قناة "أحرار 25" التابعة لجماعة الإخوان المسلمين ليصبح مقرها واستديوهاتها في بيروت.
لذلك، وجهت الإدارة المصرية طلب إغلاق هذه القناة وتسليم طاقمها المصري للقاهرة، وجرى الطلب حينها – وفق مصادر سياسية مطلعة – من وزير الداخلية اللبناني السابق نهاد المشنوق المحسوب على المخابرات المصرية بتسليم المطلوبين.
وقام جهاز الأمن العام اللبناني بترحيل المطلوبين إلى القاهرة بعد أن أوقفهما لمدة خمسة أيام، رغم صدور حكم إعدام بحق أحدهم، وهو مسعد البربري، الذي كان يُقيم في لبنان بموجب إقامة رسمية، حيث اعتقل في المطار أثناء استقباله المحامي المصري جمال مختار الآتي من مصر للمشاركة في برنامج على القناة.
وفور وصول مختار تم توقيفه من قبل الأمن العام اللبناني بسبب وجود مشكلة في جواز سفره، وسارع الأمن العام إلى توقيف البربري رغم أن لا مشكلة في جوازه.
وبعد خمسة أيام من الاعتقال ومنع الزيارات عنهما، تم ترحيل الرجلين إلى القاهرة، وجرت اتصالات سياسية لمنع ترحيلهما حيث وعد رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام بترحيلهما إلى السودان بدلاً من مصر، لكن اتصالات اللحظة الأخيرة من السفير المصري في لبنان أشرف حمدي أدت إلى ترحيلهما إلى مصر.
وبررت حينها الداخلية اللبنانية ترحيلهما بأنه جاء بناء على اتفاقيات أمنية موقعة بين مصر ولبنان، وأن لبنان ليس بلداً للجوء السياسي، ولا يمكنه مخالفة الاتفاقيات الأمنية الموقعة مع الدول.
دار الفتوى واستعادة الدور
تاريخياً، كانت دار الفتوى اللبنانية ضمن الهامش السياسي لمصر في لبنان في إطار التنافس الديني بين مصر والسعودية في الأفكار الدينية والسياسية، لذا فإن مصر وخلال مرحلة تولي مجلس قيادة ثورة 1952، عملت على تصدير علماء الأزهر إلى الدول العربية وتحديداً لبنان والذي لا يزال يتبع المنهج الأزهري في الفتاوى والفقه الإسلامي.
لكن انقطع التأثير السياسي المصري على المؤسسة الدينية الأولى في لبنان عقب اتفاق الطائف في عام 1989.
وفي عام 2014، عاد العمل على الحضور في المؤسسة الدينية، وتحديداً عقب انتهاء ولاية مفتي الجمهورية اللبنانية السابق محمد رشيد قباني، حيث قامت الإدارة الدبلوماسية المصرية في بيروت صيف العام 2014 بالعمل على إجراء مصالحة بين المكونات السنية للاتفاق على انتخاب مفتي للجمهورية اللبنانية في ظل التنامي الملحوظ للحركات الإسلامية ضمن المؤسسة الدينية الرسمية.
يقول مصدر مطلع في هذا الشأن لـ"عربي بوست" إن السفير المصري أشرف حمدي قام بإجراء اتصالات شملت كل الوزراء والنواب والشخصيات السنية للاتفاق على انتخاب المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان ضمن اتفاق وتسوية بين معظم الأطراف السياسية المعنية.
اختطاف الحريري.. القاهرة تخذل الرياض
يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري استقالته من منصبه من مدينة الرياض، ما شكل صدمة لكل المتابعين داخلياً وخارجياً وخاصة أنه كان وقبيل استقالته كان قد حدد موعداً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شرم الشيخ، وعليه فإن السيسي وجد من استقالة الحريري شيئاً غريباً غير طبيعي.
ووفقاً لمصدر سياسي لـ"عربي بوست" فإنه وعقب انتشار خبر اختطاف الرجل من قِبَل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أجرى مدير المخابرات العامة المصرية عباس كامل (مدير مكتب الرئيس السيسي آنذاك) اتصالاً بوزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق، استقل المشنوق طائرة خاصة، سراً، قاصداً العاصمة المصرية القاهرة.
التقى المشنوق مع عباس كامل ومن ثم انتقلوا لوزارة الخارجية للقاء وزير الخارجية سامح شكري، الذي شرح لهم ما يجري، وأكد شكري أن القاهرة على يقين من أن الحريري "مختطف"، وأن المخابرات العامة المصرية قدمت تقريرها للسيسي حول ظروف احتجاز الرجل في الرياض.
استفسر المشنوق إذا كان المصريون يؤيدون ما جرى، لكنَّ المسؤولين في القاهرة أكدوا للمشنوق أن السيسي سيجري اتصالات دولية واسعة لإنقاذ الحريري وإعادته لبيروت، وأجرى شكري اتصالاً هاتفياً بنظيره اللبناني جبران باسيل طلب منه الإصرار على عدم قبول استقالة الحريري وأن يجري زيارات للدول المؤثرة للضغط على السعوديين.
وبحسب المصدر، فإن ولي العهد السعودي طلب من الرئيس المصري استقبال الحريري في إطار جولة يحضرها بن سلمان للحريري لإبعاد تهمة الاختطاف عنه، ردَّ السيسي على بن سلمان بأن القاهرة لن تستقبل رئيس الحريري إلا إذا كان سيغادرها إلى بيروت.
انتخابات 2018.. لا للإخوان
تقول مصادر سياسية في "الجماعة الإسلامية" (تنظيم الإخوان اللبناني) إن جهات سياسية عديدة على رأسها تيار المستقبل والقوات اللبنانية وقوى سياسية أخرى تلقت طلباً واضحاً من السفير المصري نزيه النجاري بعدم قبول القاهرة بتحالف هذه القوى السياسية مع الجماعة والتي تعتبر امتداداً طبيعياً للإخوان المسلمين، في نظرهم.
ورفضت معظم القوى ضم الجماعة للوائحها الانتخابية، وهذا الأمر أدى برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط للإعلان عن رفضه بشكل قاطع الأمر، وهو ما أزعج القيادة المصرية حيث عبَّر السفير المصري لجنبلاط عن امتعاض القاهرة من موقفه الداعم للجماعة عبر زيارتها وإعلان التضامن معها.
التمسك بالحريري.. والغاز والمتوسط
وفقاً لمصدر دبلوماسي عربي، فإن الاهتمام المصري بلبنان مرتبط بمجموعة عوامل لا يمكن إغفالها وهي أن القاهرة حريصة على ترتيب ملف المتوسط بمشاركتها وتأثيرها المباشر، خاصة أن الملف بات حامياً ويشهد تطورات كبيرة بدأت من ليبيا وتمتد لتحالف مصر مع مجموعة دول متوسطية، ولا تنتهي بالتحالف الثلاثي مع الأردن والعراق والذي يراد ضم لبنان وسوريا له بموافقة أمريكية وروسية.
ووفقاً للمصدر فإنه وفي الملف السياسي المرتبط بلبنان ومحيطه وعلى الرغم من تطور العلاقة التركية-المصرية، فإن القاهرة حريصة على سد أي ثغرة تسمح لأنقرة بالتسلل عبرها في المنطقة العربية، خاصة أن شعبية تركيا تزداد مؤخراً في الساحة اللبنانية وفي الحاضنة التي تعتبر عربية تاريخياً.
وعليه فإن القاهرة حريصة على احتضان الحريري ودعمه وتأمين حماية سياسية له؛ لأنه يمثل بطبيعة الحال تياراً سياسياً "سني الهوية لكنه معتدل ويميل للعلمانية"، وأن أي محاولة لضرب الحريري أو اقصائه تفتح الباب لتسلل إما حركات إسلامية أو جماعات أكثر تطرفاً وهذا ما تسعى القاهرة لمنعه في محيطها.
في المشهد الإقليمي الكبير يرى المصدر أن لبنان يعيش فراغاً عربياً عقب انسحاب السعودية، لذا فإن المنطق السياسي يقول إن الفراغ يجب أن يتم ملؤه ومصر الأقدر بموقعها الجيوسياسي وتأثيرها الإقليمي على أن تلعبه لكن بالتنسيق مع دول المنطقة وتحديداً السعودية وتركيا.
بالإضافة إلى أن مصر تسعى منذ فترة إلى إحياء فكرة تزويد لبنان بالغاز المصري، من خلال أنابيب مشروع خط الغاز العربي، الذي يصل مصر بلبنان، مروراً بالأردن وسوريا.
هذا المشروع كان قد وُضِع على الرفّ منذ اندلاع ثورتيْ سوريا ومصر سنة 2011، وتضرّر خطوط نقل الغاز، ثمّ تجميد صيانة الأنابيب بسبب العقوبات الأمريكيّة المفروضة على سوريا.
والآن، عاد الملف إلى الواجهة من زاوية الاهتمام المصري بتقديم هذا النوع من الدعم للبنان، في ظل الانهيار المالي الذي تمرّ به البلاد، فيما كان ملفّ العقوبات على سوريا آخر العراقيل التي تحولُ دون دخول الخطة حيّز التنفيذ.
العلاقة مع حزب الله
يقود رئيس المخابرات المصرية عباس كامل حراكاً باتجاه حزب الله منذ فترة تعود لسنة ونيف، حيث أجرى كامل ثلاث زيارات للقاء مسؤولين في حزب الله في إطار مبادرات يقودها الجانب المصري مرتبطة بالانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا بالإضافة لملفات إقليمية شائكة مرتبطة بالأمن الإقليمي وملف اليمن والعراق والتهدئة في سوريا وملف تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل.
وكان "عربي بوست" كشف سابقاً تفاصيل زيارات كامل لبيروت والمواضيع التي تطرق لها مع قيادة حزب الله والزيارة المتوقعة لمسؤولين من الحزب يجري التحضير لها إلى القاهرة ولقاء مسؤولين مصريين في الخارجية والمخابرات.
دور في تشكيل الحكومة ووعود بالضغط على السعودية
وعشية تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة برئاسة نجيب ميقاتي لعبت القاهرة دوراً في الضغط على الأطراف اللبنانية لتشكيل الحكومة؛ حيث أجرى رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية عباس كامل اتصالات مع رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل والمعاون السياسي لأمين عام حزب الله الحاج حسين خليل جرى خلال الاتصالات حث الأطراف على تشكيل حكومة.
ووفقاً للمصدر، فإن كامل وعد ميقاتي وعون بأن مصر ستقوم بلعب دور في إقناع دول عربية وعلى رأسها السعودية بدعم الحكومة ومساعدتها، بالإضافة لاتصالات روسية وأمريكية وقطرية مارست ضغوطاً على الفرقاء السياسيين بهدف تشكيل حكومة سريعة.
الدور المتوقع مستقبلاً
تتوقع جهات سياسية عديدة أن الاستمرار في الانكفاء السعودي عن لبنان في ظل التفاهم الفرنسي-الإيراني والموافقة الضمنية الأمريكية على تشكيل حكومة، سيعيد للقاهرة للعب دور في لبنان كنافذة عربية وحيدة عقب الغياب الخليجي المتصاعد عن لبنان، وخاصة أن مصر حريصة على إحداث توازن في لبنان انطلاقاً من مجموعة عوامل مستقبلاً أهمها الحفاظ على التوازن والاستقرار، وخاصة أنهم يتحدثون بشكل دائم مع حزب الله وإيران وفي الوقت نفسه يتواصلون مع خصوم الحزب، وهذا تاريخياً ضمن الأداء المصري في لبنان.
والاهتمام الرئيسي لمصر مؤخراً متعلق بالمشاريع الاستراتيجية النفطية في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما يتجلى بالاتفاقات الثلاثية بين مصر والأردن والعراق مؤخراً التي تريد القاهرة ضم لبنان وسوريا لها برعاية إقليمية ودولية عبر مشاريع استجرار الغاز إلى لبنان.
بالإضافة لدور مصر المتوقع في الإطار الأمني والعسكري حيث ستركز القاهرة على استراتيجية مهمة بدعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية بالتعاون مع دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
كما ستركز القاهرة على دورها في دار الفتوى وخاصة أن استحقاقات متعلقة بانتخاب مفتٍ للجمهورية ومفتين للمناطق تحرص على إحاطتها بشكل دائم ومتابعتها مع الأطراف المعنية في الطائفة السنية.