لا تزال تلك المعركة التي نشبت بين وزير الإعلام المصري وكبار الصحفيين بمصر، تلقي بظلالها على وسائل الإعلام، في واقعة غير مسبوقة وغير معتادة بمصر. لكن السؤال الذي لا يجد إجابة له حالياً: من الذي يقف وراء كل طرف؟ وما حقيقة الصراع الحادث بالضبط؟
وكان وزير الإعلام المصري، أسامة هيكل، خرج ليعلن أن كبار الصحفيين ورؤساء التحرير في مصر يتلقَّون أوامر مباشرة، وأن هناك من يُملي عليهم حرفياً ما يكتبون. المفاجأة لم تكن في التصريح نفسه، بل فيمن صرح به بكل هذه الصراحة.
بهذا التصريح اعترف الوزير بأن الإعلام المصري يُدار بواسطة الأجهزة الأمنية، وأن رؤساء التحرير لا يعدون مجرد "أدوات"، وذلك على حد تعبير الوزير المختص شخصياً. لكن إذا كان هيكل يرى أنهم "مجرد أدوات"، على حد تعبيره، فهو أيضاً لا يعدو كونه أداة، لكن في يد مختلفة.
ظاهرياً تبدو الأزمة أو الصدام بين وزير الإعلام ورؤساء تحرير الصحف فقط لا غير، لكن تصريحات الوزير تدل على وجود صراعٍ ما، بين الأجهزة الأمنية التي تدير الإعلام في طرف، ووزير الإعلام المصري والجهة أو الشخص الذي يقف وراءه ويمنحه هذه القوة في التصريحات، بالطرف الآخر. فما هي حقيقة هذه المعركة؟
صراع الأجنحة حول الإعلام
منذ صعود الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم عام 2013، كان الإعلام- ولا يزال- من أهم الملفات التي تؤرِّقه، وهو ما ظهر في أحاديثه المتعددة عن الإعلام وأهميته، مرَّة مترحِّماً على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي كان محظوظاً بإعلامه، ومرات مهاجماً الإعلام الحالي الذي لا يؤدي واجبه في نشر الإيجابيات وترسيخ الوعي الصحيح بعقول المصريين، على حد تعبيره.
ولأن الإعلام أولوية في الأجندة الرئاسية، كان من الطبيعي وقوع "تناحر" بين أطراف من الدولة على إدارته، بعد أن تمَّت السيطرة عليه وإخضاعه، إما بالشراء أو الحجب أو التنكيل.
مسؤول بارز في إحدى الهيئات الإعلامية المهمة بمصر- رفض الكشف عن اسمه- قال لـ"عربي بوست"، إن هناك جناحين مختلفين، يسعى كلاهما لفرض فلسفته حول كيفية إدارة الإعلام المصري.
الجناح الأول يمثله اللواء محسن عبدالنبي مدير مكتب رئيس الجمهورية المصري الحالي، والمدير الأسبق لإدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة.
عبدالنبي بحكم إدارته لملف الشؤون المعنوية منذ عام 2012، حين كان نائباً لرئيس الإدارة ثم مديراً لها وحتى يوليو/تموز 2018، حين انتقل مديراً لمكتب رئيس الجمهورية، كان مشتبكاً مع الصحافة والإعلام، ولديه علاقات تراكمية مع كثير من اللاعبين الرئيسيين في هذا الملف.
ومع تسلُّمه لمنصبه الجديد مديراً لمكتب الرئيس، خلفاً للواء عباس كامل الذي انتقل إلى جهاز المخابرات العامة، لم يتوقف عبدالنبي عن إبداء اعتراضه على الطريقة التي يُدار بها الإعلام في مصر، واصفاً إياهاً بـ"العك"، وهو ما ذكره صراحة في أكثر من لقاء جمعه بمسؤولين إعلاميين.
وأوضح المسؤول أنَّ سعى اللواء عبدالنبي لمدِّ سلطته على المشهد الإعلامي، جاء بشكل واضح عبر تعيين أسامة هيكل وزيراً للدولة لشؤون الإعلام؛ في محاولة لدعمه من أجل تمكين قبضته.
لكن ذلك كان بمثابة إعلان حرب على الجناح الآخر الذي أحكم قبضته على الإعلام بالفعل، وهو جناح اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات وساعِده الأيمن المقدم أحمد شعبان، الذي نجح بالفعل في أن يصبح الحاكمَ الفعلي لإمبراطورية الإعلام، التي يمتلك بالفعل الجزء الأكبر منها عبر شركة المخابرات "إعلام المصريين".
تهميش لوزير الإعلام بأوامر المقدم شعبان
ما يقوله هذا المسؤول يتفق تماماً مع ما ذكره أحد أعضاء نقابة الإعلاميين لـ"عربي بوست"، موضحاً أنه بأحد الاجتماعات التي عُقدت في يونيو/حزيران 2020، طالب وزيرُ الإعلام نقيبَ الصحفيين، طارق سعيد، بتقديم كشف بأسماء الإعلاميين المقيدين بالنقابة وغير المقيدين ويظهرون على الشاشات.
وقد رفض نقيب الصحفيين تقديم تلك البيانات، بناء على تعليمات مباشرة من المقدم أحمد شعبان، (وهو ما كرره مرتين خلال الاجتماع).
وذكر عضو النقابة، أن المقدم أحمد شعبان قال للنقيب: "سيبك منه"، وبالفعل رفض النقيب تسليم القوائم، وتسبب ذلك في أزمة حينها، تلاها هجوم على الوزير في الجرائد التابعة للمخابرات.
استغلال لأزمة الكنيسة
تزامن ذلك مع ضربة أخرى وُجهت إلى وزير الإعلام أسامة هيكل، من القنوات التابعة للمخابرات، والتي استغلت أزمة غضب الكنيسة المصرية من غلاف مجلة "روزاليوسف"، الذي تضمَّن صورة أحد أساقفة الكنيسة والمرشد العام لجماعة الإخوان المصنفة جماعة إرهابية.
حينها هاجمت الوزيرَ الفضائياتُ، التي كان رأس الحربة فيها، وائل الإبراشي، الذي هاجم الوزير على شاشة التلفزيون المصري الرسمي نفسه، قائلاً: "ليس مطلوباً من وزير الإعلام أن يكون مدير مدرسة يُملي علينا التعليمات ويحدد ما نقوله؛ بل يضع سياسة إعلامية".
وأوضح النقابي الإعلامي أنَّ كرم جبر، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة (والموالي لأحمد شعبان)، لعب دوراً محورياً في تلك الأزمة حين سارع بإحالة رئيس تحرير المجلة إلى التحقيق، وقدَّم اعتذاراً للكنيسة، وبذلك ظهر الوزير أمام الرئيس بمظهر "غير المسيطر"، عكس شعبان القادر على احتواء الأزمات.
هذا الأمر شكَّل إحراجاً للواء محسن عبدالنبي، الذي كان المسؤولَ الأول عن إنشاء تلك الوزارة وتعيين هيكل على رأسها.
هنا تجدر الإشارة !لى أن علاقة أسامة هيكل بالجيش والشؤون المعنوية تمتد لسنوات طويلة، حيث عمِل هيكل مراسلاً عسكرياً فترة طويلة، ترسخت خلالها علاقته بإدارة الشؤون المعنوية، وكانت تلك المسوغات أحد أهم أسباب ثقة اللواء محسن عبدالنبي، المدير السابق لإدارة الشؤون المعنوية، به.
القشة الأخيرة.. نقطة الانفجار
بالعودة إلى المسؤول الإعلامي، فقد ذكر لـ"عربي بوست" كواليس الأزمة الأخيرة، قائلاً إن تصريحات أسامة هيكل الأخيرة التي هاجم فيها الإعلاميين، لم تكن اعتباطية ولا محض صدفة.
وأوضح أن الجناح الموالي للواء محسن عبدالنبي قرر التحرك صوب تعيين هيكل وزيراً للإعلام بعد استحداث وزارة، بهدف سحب الصلاحيات من المخابرات العامة، التي يرى محسن أنها فاشلة تماماً في إدارة ذلك الملف، وأدت إلى ترك مساحات كبيرة لقنوات الإخوان في قطر وتركيا للعمل، وهو ما صرح به أكثر من مرة في لقاءاته مع بعض الصحفيين الموالين له.
وذكر أن بداية الهجوم كانت في لقاء هيكل مع قناة "فرنسا 24″، الذي هاجم فيها الإعلام، أو تحديداً من يديرونه، واصفاً إياهم بأنهم تسببوا في ابتعاد الناس عنهم والذهاب لـ"قنوات الإخوان"، وهو نفس ما تحدث به اللواء عبدالنبي.
ثم أتت تصريحات هيكل الأخيرة على صفحته حول أن الشباب الصغير لا يقرأ الصحف ولا يشاهد التلفزيون، ومن ثم فإنه من المهم التفكير في نمط حياة هذه الفئات.
كانت هذه ضربة موجهة ومقصودة، ليردّ بعدها المقدم أحمد شعبان بهجوم كاسح عبر مذيعيه وإعلامه؛ وهو ما دفع الوزير ليردّ قائلاً: "سأردُّ على من أعطى لهم الأمر بالكتابة"، في إشارة واضحة إلى المقدم أحمد شعبان.
الرئاسة لم تحسم أمرها
مصدر بالرئاسة المصرية قال لـ"عربي بوست"، إن الرئيس عبدالفتاح السيسي لم يحسم أمره بعد من تلك المعركة.
لكن المصدر ذكر أن الرئيس قال: "مش عاوز دوشة"، وهو ما يعطي ربما إشارة إلى أن كلاً من أسامة هيكل ومحسن عبدالنبي قد خسر المعركة، وربما لن يجد الوزير حقيبة له في التجديد القادم.