استعاد العراق، الإثنين 31 أغسطس/آب 2020، أكثر من 6 ملايين صفحة من الوثائق التي تحوي أسرار نظام صدام حسين، ومنها أسماء أعضاء حزب البعث ومخبريه، قادمة من أمريكا، وذلك على متن طائرة عسكرية حطت في العاصمة بغداد، كما أحيطت بالعملية الكثير من السرية والغموض.
وفق تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، الثلاثاء 2 سبتمبر/أيلول 2020، فإن هذا الأرشيف الذي يحمل أسرار الحزب أخفته الولايات المتحدة لحفظه مع تصاعد العنف في العاصمة العراقية قبل 15 عاماً.
القصة: عندما اجتاح اللصوص بغداد بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، سمع كنعان مكية أنهم يتجهون نحو نصب تذكاري، للتنظيم السياسي الذي خرج منه صدام حسين، وأصبح أحد القوى الرئيسية المحركة للاضطراب في الشرق الأوسط برمته.
هرع هو ومصطفى الكاظمي، وكلاهما كان من النشطاء العاملين في مجال حقوق الإنسان، إلى مبنى التنظيم، ليكتشفوا مجموعة من السجلات الرسمية في قبو مغمور بالمياه، سجلات أتاح البحث فيها نظرة داخلية على حزب البعث وأسراره.
الآن، مصطفى الكاظمي هو رئيس وزراء العراق، في حين يعيش مكية في كامبريدج، بولاية ماساتشوستس الأمريكية.
تاريخ العراق الحديث: كان يُنظر إلى تلك الوثائق على أنها مورد تاريخي للشعب العراقي بأكمله، ووسيلة للتقدم نحو المصالحة وتجاوز الانقسامات العميقة في المجتمع العراقي، لكن في الوقت الحالي، تغير الوضع ليصبح الأرشيف قضيةً حساسة للغاية، في ظل الأوضاع المتوترة في بغداد، ومن ثم سيبقى الأرشيف في البداية مغلقاً بالضبة والمفتاح.
من جانب آخر، قال مسؤول عراقي في بغداد: "نأمل أن يأتي الوقت ونكون قادرين على إقامة الهيكل المؤسسي المناسب، حيث تصبح هذه الوثائق متاحة للجمهور، وخاصة للباحثين الذين سيساعدون في تعريفنا جميعاً بحجم أهوال النظام البعثي وجرائمه".
وأضاف المسؤول العراقي: "نريد أن تكون هذه اللحظة لحظةَ تعلم وتدبر، وليست لحظة انتقام وتشفٍّ. إلا أن التفكير بهذا المنطق قد يستغرق الإعداد له بعض الوقت".
كيف عثر عليها؟ بالعودة إلى مكية الذي وصل إلى مقر النصب التذكاري لميشيل عفلق، وهو مفكر سوري وأحد مؤسسي حركة البعث، ليكتشف هو والكاظمي أكواماً من الوثائق السرية في قبو المبنى، والتي كانت موجودة أيضاً تحت مقر حزب البعث المجاور.
وبموافقة سلطة الاحتلال الأمريكية، نقل مكية الوثائق إلى منزل عائلته السابق في بغداد، وهناك عملَ مع الكاظمي ومجموعة صغيرة من المتطوعين على فهرسة واستقصاء الأرشيف، ليتبين لهم أنه يحتوي على سجلات موظفي الحزب ومراسلات داخلية بين أعضائه وقوائم مخبرين وحتى سجلات للعائلات العراقية التي قُبض على أبنائها خلال السنوات الثماني التي استغرقتها الحرب العراقية الإيرانية. (فقد كان الحزب متخوفاً من كون ولاء العائلات الشيعية محل شك).
كان الأرشيف هائلاً، وسقطت قذائف هاون بالقرب من منزل مكية، وتلقى هو تهديدات بالقتل. ومع تزايد العنف الطائفي في العاصمة، تزايد قلق الباحثين من إمكانية تدمير الأرشيف أو الاستيلاء عليه من أعضاء سابقين في نظام صدام حسين أو متطرفين شيعة مدعومين من إيران أو مسلحين من تنظيم القاعدة في العراق.
الطريق إلى أمريكا: وفي محاولة لحماية الكنز، ذهب مكية إلى بول وولفويتس، نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، وتوصل معه إلى اتفاق في فبراير/شباط 2005، لشحن الوثائق إلى الولايات المتحدة.
هناك قام أحد المتعاقدين مع وزارة الدفاع الأمريكية بتوظيف بعض السكان المحليين لتنسيق الوثائق ورقمنتها بمساعدة باحثي المؤسسة التابعة لمكية من الناطقين بالعربية. وفي النهاية، أُرسل الأرشيف إلى مؤسسة هوفر، وهي مؤسسة فكرية ذات ميول محافظة في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا.
ولم يُنشر أي من الوثائق على شبكة الإنترنت، إذ يحتاج الباحثون إلى موافقة مسبقة، خشية توزيع معلومات شخصية عن مواطنين عراقيين عاديين.
طريق العودة: يرى البعض أن المسؤولين الأمريكيين قرروا إعادة الأرشيف كبادرة حسن نية تجاه رئيس الوزراء الجديد، مصطفى الكاظمي. وفي الوقت نفسه، تحتفظ مؤسسة هوفر بنسخة رقمية من الأرشيف.
صرّح مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية أن العراق طلب إعادة الأرشيف، وأن الولايات المتحدة ليس لديها أي دليل على إساءة استخدام وثائق سابقة أعيدت إلى العراق في عام 2013.
المسؤول قال عن الوثائق التي أُعيدت يوم الإثنين 31 أغسطس/آب: "الاحتفاظ بهذه الوثائق من حق العراقيين، لأنه جزء من تاريخهم. العراق دولة ذات سيادة، ويجب أن يكونوا مسؤولين عن أي احتياطات يتعين عليهم القيام بها لمنع سوء الاستخدام المحتمل لتلك الوثائق".
من جهة أخرى، تم تغليف عملية نقل الوثائق بنطاق من السرية، بسبب الخشية من استيلاء ميليشيات مدعومة من إيران أو مجموعات خارجة عن القانون عليها، وقد أصبحت مؤمنة بإحكام في مكان غير معروف في العاصمة العراقية.
يقول بروس مونتغمري، وهو أمين أرشيف سابق في جامعة كولورادو، وقد ألّف كتاباً عن أرشيف الوثائق العراقي، عن الوثائق: "العراق يستحق استعادة إرثه التاريخي، ويمكننا أن نثق بعض الشيء بأن حكومة الكاظمي ستتعامل معها بمسؤولية، لكن ما سيحدث بعد انتهاء فترة رئيس الوزراء الحالي هو ما قد يكون إشكالياً للغاية".