"مرة أخرى في هذه الثواني المتبقية… خيانة عظمى"
كانت هذه الكلمات بمثابة الضربة القاضية التي وجَّهها المترشح للرئاسية قيس سعيد لمنافسه نبيل القروي، خلال المناظرة التلفزيونية التي جمعتهما سهرة 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قبل 48 ساعة من الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، والتي فاز فيها أستاذ القانون الدستوري بـ73% من مجموع الأصوات.
التطبيع خيانة عظمى… هي الجملة التي سحرت الرأي العام التونسي من وافد جديد على السياسة، اختار الوضوح وقوة الشعارات والقطع مع ممارسة السياسة بشكلها الكلاسيكي المعتاد، وإعطاء جرعة أمل للجماهير الغاضبة من أداء الطبقة السياسية.
هكذا كان موقف المترشح للرئاسية قيس سعيد من القضية الفلسطينية والتطبيع، فكيف كان موقف رئيس الجمهورية قيس سعيد من تطبيع دولة الإمارات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل؟
الأربعاء 19 أغسطس/آب 2020، المكان قصر قرطاج، الحدث استقبال رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد للسفير الفلسطيني في تونس، لإعلامه بدعم تونس المتواصل للقضية الفلسطينية، ذلك الحق الذي لا يسقط بالتقادم، ولا يُباع ولا يشترى.
وفي إشارة ضمنية لموقفه من تطبيع دولة الإمارات لعلاقاتها مع الكيان الصهيوني، قال سعيد "إننا لا نتدخل في اختيارات بعض الدول، ولا نتعرّض لها، ونحن نحترم إرادة الدول، فهي حرة في اختياراتها وأمام شعوبها".
نعم، فقد أصبح التطبيع الذي كان بالنسبة للمترشح للرئاسية قيس سعيد "خيانة عظمى"، وجهة نظر بالنسبة لقيس سعيد رئيس الجمهورية، ووجهة نظر تُحترم ويُحترم صاحبها…
وليست هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها أستاذ القانون الدستوري تبايناً بين شعاراته الانتخابية وطريقة ممارسته للسلطة، حيث نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية تقريراً في بداية شهر فبر اير/شباط، تحدّثت فيه عن كواليس إقالة تونس المفاجئة لسفيرها لدى الأمم المتحدة منصف البعتي.
حيث قالت المجلة إن الإقالة جاءت مباشرة بعد قيادة السفير التونسي لمفاوضات دبلوماسية، وتنسيقاً مع ممثل دولة إندونيسيا حول مشروع قرار يدين خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشرق الأوسط، والتي تنتهك القانون الدولي، وذلك وفقاً لثلاثة مصادر دبلوماسية أممية، حيث قال اثنان من هؤلاء إن الرئيس التونسي المنتخب حديثاً قيس سعيد قام بإعفاء البعتي، بعد شكوى من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يُفهم على أنه تفادٍ لخلاف كبير في العلاقات مع واشنطن في بداية عهدته الرئاسية، حيث أكدت حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في تصريح للمجلة الأمريكية، أن جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره في الشأن الشرق أوسطي، نزل بثقله لتهديد البلدان العربية، بما في ذلك تونس، من غضب الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ذات الأسبوع، نشرت صحيفة "معاريف" اليومية الإسرائيلية مقالاً تحدَّثت فيه عن مشاركة منتخب إسرائيل في دورة هلسنكي بفنلندا، في إطار بطولة التنس للسيدات.
وأشارت "معاريف" إلى أن المناسبة كانت تاريخية، بملاقاة لاعبات المنتخب الإسرائيلي لنظيراتهن التونسيات، حيث جمع رئيس الاتحاد الدولي للتنس، ديف هاجرتي، بين رئيس الاتحاد الإسرائيلي وعضو اللجنة الأولمبية يوني ياروم، وسلمى المولهي رئيسة الاتحاد التونسي للتنس، في إطار صورة تذكارية تاريخية
هذه الصورة التذكارية كانت رسالة مضمونة الوصول من اللوبي الصهيوني في العالم لحاكم قرطاج الجديد
وفي سياق متّصل بالقضية الفلسطينية، وقّع رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، الإثنين 6 يوليو/تموز 2020، أمراً رئاسياً يقضي بمنح 135 شخصاً الجنسية التونسية، بينهم 34 فلسطينياً، غير أنّ هذا الأمر استثنى السيدة ماجدة الزواري، أرملة الشهيد محمد الزواري (ناشط تونسي في حركة حماس الفلسطينية اغتاله الموساد الإسرائيلي في شهر ديسمبر/كانون الأول 2016، أمام منزله في صفاقس)، التي تقدَّمت بطلب للحصول على الجنسية التونسية في أكثر من مناسبة، وهو ما طرح لدى الرأي العام التونسي أكثر من علامة استفهام، حيث إن هناك إجماعاً على أن للسيدة ماجدة الزواري الأولوية المطلقة للحصول على الجنسية التونسية، تكريماً لزوجها الشهيد الزواري، الأمر الذي عزَّز فرضية وجود ضغوطات على قصر قرطاج في الموضوع.
زيارة الرئيس التونسي لقصر الإيليزيه بباريس، نهاية شهر يوليو/تموز، كانت هي الأخرى اختباراً جدياً لقيس سعيد، حول مدى محافظته على شعاراته الانتخابية، التي قامت على "السيادة"، حيث وقع في خطأ تقديري خلال لقاءٍ إعلامي على هامش الزيارة مع قناة france 24، عند سؤاله عن موقفه من اللائحة التي عُرضت على البرلمان التونسي لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن فترة الاستعمار، حيث حاول الرئيس التونسي تقريب وجهات النظر، خاصة أنه في ضيافة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكنه أثار الجدل بوصفه للاستعمار الفرنسي لتونس بـ"الحماية"، وأن كل من يطلب الاعتذار فهو يدين نفسه، الأمر الذي زعزع ثقة الرأي العام التونسي في توجهات رئيسهم السيادية الصلبة.
في نهاية هذا المقال، يمكن التلخيص بأن التغييرات "الشاقولية" التي عرفتها مواقف قيس سعيد، من مترشح للرئاسة إلى رئيس للجمهورية، تعكس الهوة العميقة التي تفصل الشعارات عن الواقع، وتؤكد أن للحكم إكراهاته، خاصة في دولة صغيرة تصارع لإنجاح مسارها الديمقراطي المتعثر، في سياق إقليمي متفجّر، وارتباطٍ عضويّ بالجهات المانحة، والعواصم الغربية التي يسيطر فيها اللوبي الصهيوني على مراكز صنع القرار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.