فوجئنا جميعاً، نهاية الأسبوع الماضي، الخميس 13 أغسطس/ آب 2020، بالإعلان عن اتفاق سلام مرتقب بين إسرائيل والإمارات. لم تكن المفاجأة، بطبيعة الحال، بسبب إقدام الدولتين على هذه الخطوة؛ فالإمارات العربيّة تعدّ، بحق ولا مبالغة، إسرائيل الخليج، من منظور نفسي وبحسب معطيات الاقتصاد السياسي، والعلاقات بينهما راسخة ومستقرة منذ مدة، ولكن سبب المفاجأة، كان: التوقيت.
ثلاث مقدِّمات أساسيّة، أدَّت إلى تكوين هذا المشهد المكثَّف، والّذي سيكتمل في البيت الأبيض بعد ثلاثة أسابيع، وتمهيد ثانويّ، قد نحتاج إلى إفراد مقال آخر له، عنوانها جميعاً هو البراغماتيّة، وضيق الأفق، وضياع البوصلة.
1. تنامي نفوذ الأذرع الإيرانيّة في المنطقة، منذ عام 2006، وعلى مدار 14 عاماً منذ ذلك التوقيت، دون التّوصّل إلى أيّ صيغةٍ لتقويض هذا المدّ، أو التّصالح معه. الخطابُ الإيرانيّ إيذاء الخليج مُراوغ في بعض الأحيان، ولكن خطّه الرئيس هو: إظهار العداء، والرغبة في الاستفراد بمشايخ النفط الهشّة. والسلوك أبلغ من أيّ خطاب.
2. الانسحاب الأمريكي من المنطقة، الَّذي اكتسى حُلةً قيميّة مع "أوباما"، واعتراف بالفشل، وربما المؤامرة، من وراء الرحلة الإمبرياليّة إلى الحاضرة العربيّة العريقة: بغداد. ثم اكتسى حُلةً مصلحيّة في عهد الجمهوريّ ترامب، فالأهميّة الإستراتيجية لمنطقة الخليج النفطيّة قلّت، وستقلّ تدريجياً، مع تحوّل واشنطن إلى أكبر منتج للنفط في العالم، وتكاليف عقود السلاح النوعيّة باتت ملاذاً متجدداً لإنعاش الخزانة الأمريكيّة بشكل يقلّل من الأهميّة الماليّة للوجود العسكري المباشر في هذه المنطقة. وبلورة واشنطن تصوراً أكثر عملية تجاه وجودها الأمنيّ في المنطقة عبر سياسة قطف الرؤوس الكبرى. مع تنامي تهديدات، أكثر خطورة من الشطر الأسيويّ.
مما فرض على الطرفين، إسرائيل والإمارات، ضرورة الفِطام المبكر والاعتماد على الذات، في ظلّ هذا الفراغ المؤسساتي والفكري والاجتماعيّ الّذي يجيد الإيرانيّون ملأه، بعيداً عن نجدة "ماما" أمريكا. وقد رأى الطرفان كيف تركتِ الولاياتُ المتحدة كبرى قلاع النفط السعوديّة (أرامكو) فريسةً للمسيرات الإيرانيّة، وكيف تركتِ الأقليّات الكرديّة تغرق وحيدةً في "نبع السلام" التركيّ.
3. استقرار معاهدات السَّلام الّتي وقعتها إسرائيل مع كل من مصر والأردن، على التوالي، لعقود طويلة؛ مع الشعور بالتهديد الجذريّ المشترك من كلّ من: إيران وتركيا كقوى إقليميّة كبرى تسعى لابتلاع وتطويق هذه الدويلات الصغيرة، والإسلام السياسيّ الحركيّ والجهاد السّني، باعتبارهما أذرعاً للقوتين الإقليميتين السابقتين في تأويل، أو باعتبارهما أصحاب مشاريع سياسيّة مستقلّة، تناهض الاحتلال ومشايخ الاستبداد لأسباب كثيرة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي. وهل ينسى أحد موقف الإخوان المسلمين، في مصر، بعد الثورة الداعم للقضية الفلسطينية والمناهض للاحتلال؟
مكاسب بالجملة
بدهياً، لن تقبل الدولتان على خطوة كهذه، إلا عندما تكون المكاسب أكبر من الخسائر، والفرص أهم من المخاطر والتهديدات. تحتاج الدولتان إذاً للتكتّل أمام التحديات المشتركة. ولكن، أهم سؤالين ينبغي الإجابة عنهما إيذاء هذا الاتفاق الجديد: لماذا لم يعجب البلدان نمط العلاقات السرّي، وقررا الخضوع لغواية الإعلان؟ والسؤال الثاني، الذي يرتبط به، ويشرك الراعي الرسمي لهذا الاتفاق في المعادلة، الولايات المتحدة، هو عن التوقيت؟
بالرغم من أنّ الرئيس الأمريكيّ الحالي دونالد ترامب، يتبنّى نهجاً انسحابياً من المنطقة، وأسلوباً محرجاً في التعامل مع أمراء النفط؛ إلا أنّه، كرجل يمينيّ شعبويّ، جمهوريّ، يتعامل مع إيران، وفق سياسة "الضغط القصوى"، الّتي أفرزت حدثين مهمين أربكا حسابات طهران في المنطقة، وهما: الانسحاب من الاتفاق النووي، واغتيال قاسم سليماني. تؤيِّد الإمارات، وإسرائيل، كلتاهما ترامب، وتُفضِّلان بقاءه على مجيء أي رئيس آخر قد لا يكون حاسماً مع إيران، لذلك، كان من الضروري منحه هذه "الهديّة" قبل الانتخابات الرئاسيّة القادمة. وهو ما تحدّث عنه بومبيو، وبلعه بايدن عندما اعترف بأهمية هذا الاتفاق.
ينطبق هذا الأمر أيضاً على رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، هذا الرجل الذي أثبت قدرته على الوصول إلى كلّ أسرار البرنامج النوويّ الإيرانيّ، وقلب العاصمة طهران، وضرب منشآتها الحيويّة، والنوويّة، بضغطة زرّ، من قلب أحد المواقع العسكريّة في مقرّ الكرياة، أو المبنى المحصن الجديد في القدس، أو من داخل إحدى وحدات الحرب السيبرانيّة في المنطقة الشماليّة العسكريّة. يصبح هذا الرجل القويّ ضعيفًا بعض الشيء أمام خصومه من قادة الجيش السابقين ذوي الميول اليسارية في الانتخابات، أو أمام سيل المحاكمات التي يواجهها؛ ويحتاج دعماً نوعياً في هذه المحطات الفارقة مستقبلاً، خوفاً من الإطاحة به، وتغير الحسابات في الإقليم.
وبالنسبة للإمارات، فإنها ارتضت بمعادلة المال مقابل الأمن. لن تحلّ إسرائيل محلّ الولايات المتحدة في المنطقة أبدا. فالاقتصاد الإسرائيلي شديد الهشاشة، والآلة العسكريّة الإسرائيليّة باتت تعتمد على النوع أكثر من الكمّ. وللمفارقة، فإن إسرائيل كانت تقف مذعورة أيضاً أمام كلّ محطّة تثبت فيها إيران قدرتها على الحرب غير المتماثلة، كما حدث في أرامكو، أو حينما تخلّت الولايات المتحدة عن الأكراد. كما أن الإمارات تمتلك بنية عسكرية شديدة التقدم. ولكنها، إسرائيل، تحتاج إلى: التكتّل، مع إسرائيل أخرى مثلها، أو الإمارات، وتحتاج المال الذي ينقصها، كما تحتاج إلى التطبيع مع العرب، دون الانصهار فيهم.
فيما ستستفيد الإمارات فعلياً من الاحتلال في منتجات الأمن، والمراقبة، والحرب الإلكترونية. تعدّ الإمارات الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد كاميرات المراقبة إلى عدد السكان. وتحتاج خبرات الاحتلال في تحلية المياه وتكنولوجيا الزراعة.
وسوف تعتمد على هذه الاتفاقية في الحصول على مزيد من الأسلحة النوعيّة. يرفض نتنياهو منح الإمارات مقاتلات (F-35)، وهو جادّ في رفضه، والقانون الأمريكي المتعلِّق بضمان تفوق الاحتلال العسكري يؤيده، ولكن هذا الرفض مبدئي، ولم يعد الاحتلال متعنتا حيال امتلاك حلفائه أسلحةً مهمة كما كان الأمر في السابق، فقد وافق نتنياهو على حصول مصر على الغواصات الألمانية، ورعى حصولها على الرافال، ولم يعترض على حصولها على (Su-35)، كما يتحدّث البعض عن بند سرّي يضمن نصيب الإمارات في هذه المقاتلات، وفي كل الأحوال يمكن مراضاة الإمارات، حيال هذه الصفقة، دون إغضاب إسرائيل، عبر طرق كثيرة.
كما خطتِ الإمارات، بهذا الإعلان، خطوتين مزدوجتين: الخطوة الأولى في طريق تثبيت جدارتها بعلاقات متميِّزة مع الولايات المتحدة، ستكون مضمونة بوثيقة تاريخيّة، تشبه تلك الموقعة مع مصر والأردن مع التأكيد على دورها الإقليمي، بعد أسبقيتها للسعودية في هذا المضمار، وإعلان عدد من الدول العربية السير على خطاها نحو تل أبيب، الثانية، تتعلق بموقف الإمارات من "الدين"، في صراعها مع القوى الدينيّة المنافسة في الإقليم، وصورتها الذهنية في الخارج، حيث تفضل الإمارات تسويق نفسها كراعٍ للأديان الثلاثة الكبرى، عبر علاقة متميزة مع الأزهر والفاتيكان، ينتظر أن تتوَّج بالوئام مع اليهوديّة، تحت مظلّة: ضمان التعايش والسلام العالمي، أمام خطر تطرف القوى المنافسة.
المتضررون
بات واضحاً أنَّ الادعاء الإماراتي عن تعليق خطة الضم مقابل التطبيع تجارة سياسيّة لحفظ ماء الوجه، تشبه تماماً ما تدّعيه مصر عن الخطِّ الأحمر الوهميّ في ليبيا. فقد تعطَّل الضمّ الذي كان مقرّراً له مطلع يوليو/تموز الماضي، لأسباب كثيرة، مثل التجاهل الأمريكي والرفض الأوروبي والضغط الأردني والمخاوف الداخلية، كما قال يسرائيل كاتس، وزير المالية الإسرائيلي، بما يعني أن الخطوة الإماراتية لا علاقة لها بالضم، إلا بما وصفه الوزير الإسرائيلي:"هذا أفضل للدول العربيّة"، وأن الفلسطينيين لم يجنوا شيئاً من هذا الاتفاق.
بل على العكس، فقد أعاد هذا الاتفاق بعث جوهر صفقة ترامب من جديد. صحيح أن الصفقة كانت تسعى لإيجاد حل نهائيّ للقضيّة، وفق معطيات معينة، لا تتقاطع مع تفاصيل الاتفاق. ولكن هذا الاتفاق برهن على مشروعيّة الأسس التي بني عليها هذا الاتفاق المهين: السَّلام مقابل السلام وليس الأرض، وأن كثيراً من العرب يؤيدون الموقف الإسرائيلي، وأن المشكلة قد تُحل اقتصادياً، وأن كثيراً من العرب تجاوزوا المطالب الفلسطينيّة، وأنّ أمام الفلسطينيين فرصة ليحصلوا على دولة ممزقة وبعض المال قبل أن ينهار كل شيء فوق رؤوسهم.
وبموجب هذا الاتفاق، فقد تمّت إعادة تعريف هذه الفرصة من جديد، وهي، كما قال كوشنر على هامش الإعلان الثلاثيّ، مقدار الوقت اللازم لمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لضم أراضي الضفة وغور الأردن والمستوطنات. وحينئذ سيقال: إن الإمارات سعت جاهدة لعرقلة خطة الضم، لكن الفلسطينيين لم يستفيدوا من الوقت. ومن المهم أن نعرف أن جوهر الضم يتقاطع مع الهدف من خطة ترامب في: محاولة تصفية القضيّة الفلسطينيّة بأي شكل يضمن أهداف الاحتلال.
وبالنسبة للإمارات، فإن استمرار القضية بهذا الوضع (بلا حلّ أو تصفية) غير مقبول لأنه يساعد على استمرار مشروعات التحرر التي تكرهها، ويتعارض مع مخططات الاحتلال الداخلية، التي باتت تتبناها، ويساهم في مزيد من التوظيف لجماعات الإسلام السياسي التي تحاربها. لذلك، فإن إنهاء القضيّة يمثل هدفاً للإمارات، وستكون الخطوة القادمة بكل تأكيد هي شن حرب استئصال جديدة على حماس في غزة، تشبه حرب 2014، مع مزيد من الضغط السياسي والاقتصادي على حكومة عبَّاس. فإما تعايش ورخاء على مقاس الاحتلال وفق صيغة صفقة القرن، أو مزيد من الحروب وفق نموذج الضم المنتظر.
إقليمياً، ما من شك في أن هذه الخطوة الإماراتيّة تؤثر على القوى الأخرى المنافسة في الشرق الأوسط، وتحديداً ضد تركيا وإيران. صحيح أنّ الجميع مجهَد اقتصادياً بعد أزمة "كورونا"، إلا أن الجميع يتجهَّز للحرب منذ عام 2013، وكلّ ما حصل في هذا الطريق، وصولاً إلى حصار قطر عام 2017، هي إما: أشكال مختلفة من الحرب، أو تحضيرات للحرب، أو محاولات للالتفاف على كلفة الحرب. ولا ننسَ أن الحصار كان مقرراً له أن يكون غزواً.
الاتفاق خطوة في طريق في إدماج الاحتلال داخل الاقتصاد العربي، والتي تنطوي على تغيرات جيوسياسيّة، واقتصاديّة، تتعارض، أحياناً، مع مصالح كل من تركيا، وإيران. وبحسب كثيرين، فإن تزامنه مع ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان ليس اعتباطياً. وهو ما ردّت عليه، تركيا وقطر في ليبيا بالفعل. ومن جهة أخرى، حذّرت إيرانُ الإمارات من عواقب أي تهور قد يجلب الاحتلال إلى الخليج العربي بموجب هذا الاتفاق مستقبلاً.
نهايةً، وبالاستعارة من سانام فاكيل من تشاتام هاوس، فإنَّ الأحلاف الأخرى المستهدفة إقليمياً، والقوى الفلسطينيّة الّتي يقول العرب إنهم باتوا عبئاً تاريخياً عليهم، من غزة والضفة، ستجد نفسها مضطرة إلى تجاوز خلافاتها "والتكتُّل معاً، واللّعب على نقاط الاختلاف في هذا التحالف. فكلّ دولة، ضمن التحالف العربي الإسرائيلي، سيظل لها مصالحها، ووظائفها، واعتباراتها المختلفة على حدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.