كيف تُربِّي طفلاً لا يكره إسرائيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/19 الساعة 12:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/24 الساعة 08:09 بتوقيت غرينتش

قبل أيام، وأثناء سفرٍ طويل بالسيارة، جاء الدور في قائمة التشغيل على مقطوعة موسيقية، وكانت مثل غيرها، نتفاعل معها، لكن المفاجأة كانت حين قال صديقي إنها معزوفة حلوة، قلت نعم، قال لكنها لعازفٍ "إسرائيلي"، فصُعقت، ليس لأن عصابة مسلحة تعزف الموسيقى، فلا غرابة في ذلك، إن الحروب لا تبدأ إلا بقرع "الطبول"، لكن الصدمة كانت في خوفي على نفسي، لو كان صديقي بعد انتهاء المقطوعة قال إنها لإسرائيلي، كيف كنتُ سأسامح نفسي على التفاعل دقيقتين مع شيء صنع في "إسرائيل"؟ وخفتُ لأن "إسرائيل" قريبة إلى هذا الحد، ذلك السرطان يطاردنا في كل شيء، ظننتُه بعيداً لكن لا أعلم كيف تسلل ببساطةٍ إلى سيارة صديقي، وكيف وصل إلى سمعي دون مقاومة تذكر؟

وقبل أيام مرةً أخرى، جذبتي صورة لزوجين تبدو عليهما أمارات الحب، يساعدها، يكرم حياتها، يملؤها بالحب، وتبدو صورهما مثيرة للمشاعر، مشاركته لها في أعمال البيت، تنزههما معاً، خروجهما إلى الشارع بثيابٍ من نفس اللون، كان كل شيء عادياً، والصور رومانسية جداً، إلى أن صُدمت مجدداً، كان هذا "الكابِل" من هناك، من أرضنا المحتلة، يقيم في بيتٍ بُني – بلا شك- على أنقاض بيتٍ لأحد أجدادنا، يخرج للتنزه في شوارع تغيرت أسماؤها من العربية إلى العبرية، وهو وحلوته ليسا من هناك، ولا آباؤهما، لا بد أن موطنه الأصلي بلدٌ ما في الخريطة، حتى جاء جده إلى أرضنا في أحد الأعوام بعد 48.

وتحكي إحدى الزميلات عن منتدى ثقافي كانت فيه بدولةٍ يُرفَع فيها الأذان، وفي ختام المنتدى كان على كل طالبٍ أن يحكي شيئاً عن مشروعه، عن بلده، ويروّج لوطنه وجمالاته، قامت طالبة وأخذت تحكي عن بلدها العظيم، تدعو الجميع ليزورها هناك، تعِدهم أن وقتهم سيكون ممتعاً، تحكي عن الأطباق الشعبية وتأتي على ذكر الفلافل، تحكي عن العاصمة وتقول أورشليم، تحكي عن السواحل وتقول حيفا، تحكي عن بلادنا كأنها بلد أمها، تحكي عن فلسطين المحتلة، عن التي يريدون تسميتها "إسرائيل"، تحكي وحولها طلاب مسلمون وعرب، وحولها طالبات عربيات ومسلمات، وعلى أفواههم جميعاً ابتسامة متسامحة جميلة، لأننا في عصر السلام وتبادل الثقافات، وهؤلاء بشر مثلنا.

خفتُ، بل أنا مرعوب، من تسلل السرطان إلى أوصالنا دون أن ندري، وأسأل نفسي: متى وكيف صار كيان الاحتلال الإسرائيلي دولة لها مواطنون؟ كيف تحولت عصابات مسلحة إلى أزواج طيبين وأطفال ضاحكين وشعب مسالم، يخرج إلى التنزه في العطلات ويتجول بين دول العالم بارتياح ويحكي عن أطباقه وبلاده وأجداده؟ منذ متى وللإسرائيليين أجداد "إسرائيليون"؟ متى وصلوا إلى هنا؟ كيف صمموا ذلك القناع بتلك المهارة؟ هناك خلل في شيء ما.

في حلقته "هل فلسطين حقيقية؟" يقول المدوّن "الإسرائيلي" نصير ياسين، بالعربية، إن فلسطين دولة صعبة، لكنهم يعيشون فيها، فيها بعض نقاط التفتيش المتعبة، وفيه جدار يجعل التنقل أصعب، لكنه يصور الشعب الودود، هنا وهنا، خلف الجدار وأمام الجدار، والكل سعيدٌ كأنه لا جدُر ولا حواجز في فلسطين المحتلة.

ويتابعه المُشاهد مبتسماً مطمئناً متسامحاً مع "الشعبين"، لأنهما في الأصل متسامحان، بينهما بعض "الخلافات"، لكن -كما يقول ياسين- "يوجد في الحياة أمور أفضل وأكبر وأكثر أهمية للتركيز عليها، بدلاً من الخلاف على اسم قطعة من أرض"، وأنت كمشاهِد خام، كإنسانٍ لم يقرأ من قبل ولم يعرف عن فلسطين إلا اسمها المزعج في نشرات الأخبار، تتفق مع تلك الرؤية، لأن في الحياة أشياء أهم بكثير من مجرد "اسم" بلد.

وهنا الكارثة، كارثة دفعتني للبكاء وأنا أتصفح الفيديوهات والمقاطع التي يضحك فيها الجميع، من الذي يبكي إذن؟ متى نسينا كل هذه الأشياء التي تدفعنا إلى البكاء؟ كيف أصبحت "قضية" فلسطين "خناقة" بين السياسيين، أما الشعوب فمتسامحة جميلة.

منذ متى اعترفنا أن للمحتل شعباً وعلماً ودولة؟ كيف أصبحت فلسطين مجرد نزاعٍ على اسم؟ هل كل تلك الدماء لأجل الاسم فقط؟ وهل لو كانت لأجل الاسم فقط، أليس الاسم بحد ذاته يشير إلى كل شيء تحته؟ أليست فلسطين أمراً بديهياً؟ ألم تكن كذلك؟ ألم نولَد بالفطرة على حب ذلك المكان الذي لم نره في حياتنا، لكننا جرحنا حناجرنا من الهتاف له؟ نضع أيادينا على قلوبنا وتدمع عيوننا ونحن نغني نشيدها الوطني، الذي ليس نشيدنا الوطني -كغير فلسطينيين على كل حال- لكنّ هناك أمراً أكبر من تلك الحدود، هناك احتلال، واغتصاب، وحواجز لا تصعب حركة التنقل، وإنما يُقتل عندها الأطفال الذاهبون إلى مدارسهم، وجدار لا يضيّق على الأحياء خلفه، وإنما يجعل كل ما وراءه مجرد مقابر، وشعب ليس متسامحاً بالمرة مع مستوطنين قاتلين، وجنود غاصبين، وشبه دولة تريد أن تمحو التاريخ الأزلي في "دقيقة واحدة".

الاحتلال الآن يتحول، من الخشونة إلى النعومة، ومن الرصاص الحيّ إلى الرصاص الخفيّ، ومن اعتقال الأجساد إلى أسر الأفكار، ومن حصار الأفدنة إلى حصار الأفئدة، ومن القضاء على المواليد إلى تبنّيهم، ومن غزو المزيد من الأراضي بالدبابات والأباتشي، إلى توكيد وجودهم على الأراضي التي احتلوها منذ البداية.

والأخطر من ذلك كله أنهم لا يواجهون جيلاً تربى على معرفة محمد الدرة وأحمد ياسين ويحيى عياش وعماد عقل وعائد إلى حيفا والتغريبة الفلسطينية، ووُلد وفي أذنه الأذان وصوت أمه وأخبار الانتفاضة في نشرة الثانية، وإنما يواجهون جيلاً لا يعرف أين تقع القدس، وأين يكون الأقصى، وما حكاية فلسطين، جيلاً لا يعرف خريطة أرضه المحتلة، وقد يكون لا يعلم أن له أرضاً محتلة أصلاً، ولو أتيت له بعلم الاحتلال الإسرائيلي ليقبله مقابل قطعة حلوى فسيفعل، ليس لأنه يحب الحلوى، لكن لأنه لم يكره "إسرائيل".

وأرى أن حب فلسطين قضية، وكره "إسرائيل" قضية أخرى، لا بد من إعطاء ذلك حقه وتلك حقها، ثم ندمج القضيتين معاً، لأن حب فلسطين وحدها في هذا الزمن ليس كافياً، وسط أحاديث كثيرة عن شيء اسمه السلام.

وحب فلسطين يكون بتعليق خريطتها أمام عينيك وعيون أولادك، يكون بوِردٍ ثابت لها في الأحاديث اليومية، يكون بصندوق تبرعات على مرأى الأطفال، يكون بعَلَم فلسطين فوق أسرّتهم، يكون بنحت الاسم في خزاناتهم، يكون بالأناشيد والأغاني التي تهتف باسم الوطن الخالد، ويكون بأن تكون فلسطين محوراً في حياتهم، لا موضوعاً على الهامش.

ثم كره "إسرائيل"، بتعريف تاريخها الدموي، بأنها احتلال، بأنها جاثوم على جسد الأمة التي لا تستطيع الحركة ولا الصراخ ولا التخلص منه ولا الإفاقة من النوم وإنهاء ذلك الكابوس، بأن الاحتلال قتل وشرد وهجر واعتقل مئات الآلاف من إخواننا هناك، بأن "إسرائيل" شيء نجس كبير، أي اقتراب منه من أي جانب لن تنال منه إلا القذارة، ومجرد ذكر اسم ذلك الورم يستدعي جلسة كيماوية فوراً، وغُسل الجنابة.

وبعد إذن التربية الحديثة، والحرص على إخراج أطفال "أسوياء نفسياً"، لا يرون مشاهد العنف، ولا يعرفون أن في العالم دماً وخراباً ودماراً، فإن ذلك سيخرج أطفالاً مشوهين، يحسبون أن السواء النفسي يكون بالتسامح مع الغاصبين، ولن يتشكل بداخلهم كره ذلك المحتل مهما أخبرتموهم بألسنتكم، ما لم تتركوا المشاهد تخبرهم، الإطارات المشتعلة، واحتجاجات المولوتوف والمقلاع، والشهداء على البوابات والحواجز، والجرحى الساقطين أثناء تسلق جدار الفصل العنصري، سيخبرونهم جميعاً بطريقة أبلغ منك.

وذلك لن يؤثر بالسلب على نفسية صغيرك، وإنما في ميزاننا سيكون تأثيراً إيجابياً، سيكون شحناً عاطفياً قوياً، تجاه قضيتنا التي أعيتها الدبلوماسية القذرة، وباعها الساسة الذين ربما كان لهم آباء حريصون على تنشئتهم أسوياء نفسياً، لا يشاهدون قصف غزة ولا قنص الشبان ولا ركل العجائز.

اغرسوا حب فلسطين في قلوب أطفالكم، وراقبوا ما يشاهدونه على مواقع التواصل، لأن "إسرائيل" الآن قريبة من بيتك إن لم تكن تعيش داخله بالفعل، عبر مقاطع تصور لنا الحياة بسيطة إلى هذا الحد، الذي يجعلنا نستمتع بالاغتصاب لأننا لم نعرف كيف نقاومه.

فلسطين الآن ليست مسؤولية الجيل الجديد، وإنما مسؤولية كل منكم، مسؤولية كل واحد فينا، لأن أولاد الحرام الذين يبيعون القدس ليس شرطاً أن يكونوا أتوا إلى الحياة بطريقة غير شرعية، بل لأنهم كبروا بطريقة غير شرعية، على السلام والتسامح والود، مع كل أحدٍ، حتى ولو كان صهيونياً.

يا سادة، يا عالم، يا ناس، يا هو، والله إن الاحتلال الإسرائيلي ليس مكتفياً بحيازة الحجر والشجر، وإنما الآن يحوز البشر، هذه مرحلة التجنيد، مرحلة الشعوب لا الحكام، مرحلة جعل ابنك يقف محايداً أمام قضية الانحياز الضروري الكامل، محاوِلين تثبيته في موقعٍ لا يستطيع منه أن يرمي الحجارة ولا أن يشعل المولوتوف ولا أن يهتف "الأرض لنا".

اعتبروا ندائي هذا نداء استغاثة، صافرة إنذار، صرخة إنسانٍ يخشى أن ينشأ أصدقاء أولاده على "حب إسرائيل"، أو على الأقل، على "عدم كره إسرائيل".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد