في مقابلة صحفية لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية مع الملياردير المصري نجيب ساويرس، مايو/أيار 2018، قال فيها إنه قد وضع نصف ثروته في الذهب، بسبب الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والعالم، وتوقعاته بارتفاع سعر الذهب عالمياً، وقال نصاً: "يلجأ الناس عادة إلى شراء الذهب عند حدوث الأزمات، ونحن نعاني من أزمات عدة حالياً، انظر إلى الشرق الأوسط والعالم، السيد ترامب لا يساعد".
وأشار إلى أنه يستثمر في أسهم شركات تعدين الذهب فقط قائلاً: "أقوم بزيادة حصتي في إحدى شركاتي؛ لأن تكلفة إنتاج الأوقية أقل بكثير من سعر المعدن نفسه".
ومع استثمارات مجموعة ساويرس في استخراج الذهب في غانا وساحل العاج وبوركينا فاسو وأستراليا، فقد بلغ ربح المجموعة من الاستثمار في الذهب 2019 أكثر من 300 مليون دولار وحل رابعاً على قائمة المليارديرات الأكثر ربحاً في مجال الذهب.
ما الذي يدفع مستثمراً كبيراً كنجيب ساويرس إلى تحويل نصف ثروته المليارية للاستثمار في مجال الذهب؟ هل من أجل الربح فقط؟ أم أن هناك عوامل أخرى؟
****
بعد الحرب العالمية الثانية وُضِع أساس لنظام اقتصادي عالمي جديد كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية سيدة العالم، وكان الغطاء أو المعيار الذهبي هو المقوم الدولار وباقي العملات، لكن في عام 1971 قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون تحت ضغط استنزاف الذهب والاقتصاد نتيجة حرب فيتنام بفصل الدولار عن معيار الذهب، وأصبح الدولار من دون غطاء ذهبي، وبمساعدة المملكة العربية السعودية -أكبر منتجي البترول التي أقنعها نيكسون ببيع بترولها بالدولار وشراء سندات أذون الخزانة الأمريكية- ظهرت إلى الوجود السياسة النقدية المعروفة بـ"البترودولار" التي جعلت من الدولار عملة احتياط لدى كل دول العالم، ومن يومها ولم يعد الذهب معيار تقويم للعملات حول العالم، وأصبحت مطابع الدولار هي الأداة التي تتحكم بها أمريكا بالعالم، ولِمَ لا، هل تعلم أن حجم الزيادة في النقد الأمريكي في الفترة من 1950-1970 كانت 55%، وصلت إلى 2000% في الفترة من 1971-2000.
وأصبح الدولار العملة الأساسية، ليس لقوته الاقتصادية، ولكنه راجع لقوة أمريكا العسكرية والنفط الذي جعل من كل دول العالم تستثمر في السندات الأمريكية رغم معدل الفائدة المنخفض، ما جعل المواطن الأمريكي يعيش أزهى عصوره على الإطلاق. لكن هذه السياسة القائمة على طباعة الدولار جعلت الاقتصاد الأمريكي يمشي وهو شبه ميت ينتظر تشييعه إلى مثواه الأخير.
ولكن كيف سيموت؟ ومتى يشيع إلى مقبرة التاريخ؟
****
هناك من الظواهر السياسية والعسكرية ما لا يستطيع أحد من السياسيين أن يفسّرها دون الأخذ في الاعتبار الأساس الاقتصادي لها. ففي عام 2000 وأثناء الحصار الاقتصادي على العراق بعد غزو الكويت قام الرئيس صدام حسين بإصدار تعليمات بالتخلي عن التعامل بالدولار واستبداله باليورو في بيع وشراء النفط، فكان هذا مؤشراً لم يلتفت إليه أحد، ولكن هناك في واشنطن مَن تلقف الإشارة الحمراء على تجاوز العراق لخط تهديد عرش "البترودولار"، فكان الغزو الأمريكي 2003 للعراق وإخضاع التعاملات العراقية كلها وإرجاعها لحظيرة البترودولار مرة أخرى.
في عام 2006 أقدم الرئيس السوري بشار الأسد على تحويل عائدات النفط كلها إلى اليورو، ما أورثها في النهاية إلى سيطرة أمريكا في 2019 على بترولها وعقد صفقات بينها وبين الأكراد السوريين بعيداً عن الحكومة السورية وبيعه بالدولار.
في عام 2008 أنشأت إيران بورصة للبترول لتقويمة بالدولار واليورو والذهب، وهو ما جعل أمريكا تشدد عليها الحصار الاقتصادي أكثر فأكثر، وما البرنامج النووى إلا غطاء مناسب لاستمرار العقوبات.
في عام 2010 كانت محاولة معمر القذافي إنشاء بنك إفريقي لإصدار عملة سمّاها "الدينار الإفريقي" مقوماً بالذهب والثروة البترولية الليبية الأكبر في إفريقيا، وهو الأمر الذي أقلق أمريكا آنذاك التي كانت تخشى على سيطرة الدولار، وفرنسا التي كانت تخشى على قوة الفرنك في إفريقيا.
وبعيداً عن كل ذلك فإن قوة أمريكا أصبحت على المحك إذا ما قررت دول مجموعة "البريكس"، المكونة من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، التخلي عن قاعدة الدولار كعملة احتياط هنا ستتهاوى أمريكا كنمر من ورق، لكن ما يؤجل ذلك هو الخوف من قوتها العسكرية الجبارة.
لكن مع بداية عام 2020 وحلول الأزمة الاقتصادية مغلفة بغطاء ظاهري هو جائحة كورونا، تهاوت أسعار النفط ومعها الدولار، ولكن في المقابل ارتفعت أسعار الذهب بطريقة جنونية على الرغم من تباطؤ الاقتصاد العالمي، الأمر الذي أرجعه الاقتصاديون إلى رغبة الناس في الاستثمار الآمن في الأصول الثابتة لحين زوال الأزمة الاقتصادية، لكن ما حدث يفوق تلك الظاهرة المعتادة، فحجم شراء البنوك المركزية حول العالم، خاصة الصينية، ينذر بحلول أزمة عالمية وبوادر لنظام عالمي جديد.
ماذا يحدث؟
****
الأزمة التجارية بين أمريكا والصين ليست فقط خلافاً بين قطبي الاقتصاد العالمي حول الإجراءات الجمركية أو لمعالجة الخلل التجاري لصالح أحدهما، بل خلافاً على من سيقود العالم خلال العقود القادمة، فالصين ترغب في جعل عملتها اليوان عملة تداول واحتياط رئيسية في العالم، وأمريكا لا تريد، لهذا نجد أن الصين تشتري الذهب بكميات كبيرة جداً وتخفي الرقم الحقيقي لحجم مخزوناتها من الذهب، وهو ما جعل أمريكا تستشعر الخطر من محاولة الصين هز عرش البترودولار، وإرجاع العمل بقاعدة معيار الذهب، وهو ما يجعل أمريكا وعملتها في مهب الريح، وهذا يفسر محاولات أمريكا للضغط على الصين لتحرير سعر صرف عملتها اليوان مقومة بالدولار، وسط رفض صيني صارم، ويفسر أيضاً محاولات أمريكا إغراق الصين باستثمارات مليارية دولارية في محاولة لإحداث فقاعة اقتصادية تطيح بالاقتصاد الصيني، كما حدث لمجموعة الدول الآسيوية المعروفة بـ"النمور الآسيوية" في تسعينيات القرن العشرين.
****
أما في مصر فمع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها منذ سنوات، ظهرت آثار تهاوي الاقتصاد العالمي الذي تقوده أمريكا، فربط الجنيه المصري بالدولار جعله يعاني من الآثار التضخمية كبقية دول العالم، وأصبح رفع أسعار الفائدة هو الحل للسيطرة على جموح الأسعار المقومة بالدولار غير المدعوم ذهبياً بل مدعوماً بقدرة المطابع الأمريكية على طبع مزيد من الورق الملون، وأصبح التراجع وسط الأزمة الاقتصادية عن معدلات الفائدة العالية حلاً للحيلولة دون صعودها مرة أخرى لتفادي الانهيار الاقتصادي، وأصبحت الاستدانة من الخارج حلاً للخروج من تلك الحلقة الجهنمية.
وأصبحت حرب العملات وحرب الذهب تلقي بظلالها على الاقتصاد المصري الذي يعاني رغم التحسن الكبير الذي طرأ عليه بعد أحداث ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما أعقبها في 30 يونيو/حزيران 2013.
****
مدير أحد الصناديق التي تستثمر في قطاع الذهب، دياجو باريلا، قال: "إن الذهب قد يرتفع بين ثلاثة آلاف وخمسة الآف دولار للأونصة خلال ثلاثة إلى خمسة أعوام قادمة". أي أن الأزمة العالمية مستمرة إلى ما يقارب الخمس سنوات قادمة، وعليه فإنه على الحكومة المصرية أن تجد حلولاً جديدة تحفيزية للاقتصاد وسط حرب العملات وحرب الذهب الدائرة حالياً بين أمريكا والصين حتى لا تفاجأ بما لا تتوقعه، وأن تتحسب للحروب التي تدور حولها بالوكالة ظاهرها حروب لمصالح مباشرة لأطراف الصراع ولكنها حروب نيابة عن قوى عظمى تريد الهيمنة على مقدراتنا.
لهذا نقول: ماذا أعدت مصر لمرحلة ما بعد تراجع الدولار الأمريكي وسياسة البترودولار عالمياً؟ وماذا أعدت لزيادة الاحتياطيات الذهبية التي تعتبر استثماراً آمناً يحمي العملة المحلية في حال خسارة الدولار كعملة تقويم لمكانته الدولية أمام اليوان الصيني أو سلة عملات أجنبية؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.