إذا سألني أجنبي عن جنسيتي، وأجبته بأنني لبناني، ربما يقول لي، أنا أسألك عن جنسيتك وليس عن مهنتك. وما ينطبق على اللبناني ينطبق على بلده أيضاً. فلبنان مهنة، ومهنة لبنان هي صناعة الأزمة والألم ومعاقبة محبيه. ورغم أن رموز الوطن موجودة؛ لدينا علم تزينه شجرة الأرز ونمتلك نشيداً وطنياً، أما عن المناصب والألقاب فحدِّث ولا حرج، موجودة في كل حارة وزقاق. أما الدولة فغائبة أو بالأحرى مغيبة.
انفجار بيروت سواء كان إهمالاً أم جريمة حبكت على طريقة روايات أغاثا كريستي عاشقة الجرائم الغامضة، لن يغير قيد أنملة من اللبنانيين حكاماً ومحكومين. العبقرية في هذا العالم هي الصباغ الأرجواني وهذا الصباغ صناعة لبنانية. والعجائب هي بالطبع لبنانية وقوامها ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة. وتلك الثلاثية ليست آخر ثلاثيات عجائب لبنان، فلدينا انفجار ونيترات أمونيوم ومجهول ما كالعادة.
قبل مائة عام أطل الجنرال الفرنسي هنري غورو من شرفة في كازينو قصر الصنوبر في بيروت، وأعلن ولادة دولة لبنان الكبير، لكن لم يجد في لبنان قبائل كبيرة يسلمها دفة الحكم، فجعل من الطوائف والمذاهب قبائل ووضع دستور للبلاد يوزع السلطة على القبائل المستحدثة.
بعد مئة عام من ذلك التاريخ، أطل الرئيس الفرنسي ماكرون من على نفس الشرفة التي أطل منها غورو، لكن بعد أصبح ذلك القصر مقراً للسفارة الفرنسية بعد أن كان كازينو إبان فترة الاستعمار الفرنسي للبنان.
أطل الرئيس الفرنسي على بعض أمراء الطوائف ليعلن عن سياسي كأنه على طاولة روليت وليس في سفارة دولية، حيث يجب أن تكون الكياسة والدبلوماسية هي الحاضر الأكبر، فقال: "أنتم بحاجة لنظام سياسي جديد." وصفق له أحفاد من صفقوا للجنرال غورو، لأن الوراثة السياسية هي أيضاً ماركة لبنانية مسجلة. لكن لم يتبادر لذهن أحد من أولئك المصفقين سؤال ماكرون: ومن زرع هذا النظام السياسي المتعفن الذي تدعو إلى تغييره غير الفرنسيين؟
من زرع العبوات الناسفة في حياة الشعب اللبناني غير الفرنسيين عبر جعل الطوائف والمذاهب قبائل متناحرة؟!
بالتأكيد لم يأتِ الرئيس ماكرون لإنقاذ الشعب اللبناني بل أتى في محاولة لاستعادة أمجاد فرنسا المفقودة مستغلاً جراح ومآسي اللبنانيين. لكن وعلى ما يبدو فإن خبرة ماكرون في السياسة الدولية فقيرة إلى حد جعله يظن أن الأحلام تصبح وقائع بعد النهوض من النوم مباشرة.
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت الانزواء عن معضلات المنطقة وهي بصدد إعادة التموضع في بحر الصين الجنوبي لكن لم تقفل أبواب صالونها في المنطقة بالشمع الأحمر بعد. بل تشجع بعض الدول الاقليمية على فتح صالونات تملأ الفراغ، حيث هناك صالون إسرائيلي وصالون سعودي وتستغل بعض الدول الفرصة السانحة فنرى الصالون التركي يتمدد والإيراني كذلك. كلها صالونات يتم بناؤها في النظام الإقليمي الجديد.
ومن المحتمل أن الرئيس ماكرون، ورغم أنه في ريعان الشباب، نسي أن ما قاله الجنرال دونالد رامسفيلد وزير دفاع جورج بوش عن أوروبا العجوز. لذلك كان من الأجدى للرئيس الفرنسي أن يبني داراً للمسنين لدول أوروبا المتقدمة ومأوى لعجزة الساسة الأوروبيين بدلاً من تحمل مشقات السفر إلى لبنان. حتى روسيا بوتين المتواجدة عسكرياً في المنطقة لن تستطيع أن تبني صالوناً لها لاستقبال أحد، وذلك لأن روسيا، وعلى الرغم من جبروتها، وحسب تعبير الرئيس السوفييتي الراحل أندروبوف، لم تستطع بناء صالون لحكام منطقة الشرق الأوسط بل كانت مجرد غرفة انتظار يجلس فيها حكام المنطقة فيها حتى يفتح لهم الأمريكيون باب صالونهم.
علاوة على ذلك لا يفهم الرئيس ماكرون أحاجي لبنان وهو معذور. فلقد التقى هوامش السلطة كما التقى هوامش المعارضة. ربما لا يعرف أن كل من يتعاطى الشأن العام في لبنان ينتمي إلى الهوامش. الموالي منهم والمعارض سواء، جميعهم ينتظر التعويم السياسي ويبحثون عن حصص من المساعدات القادمة، ولا أحد منهم يعنيه مآسي اللبنانيين ولا جراحاتهم ولا دمار بيوتهم.
وفي مطلق الأحوال، شكراً للرئيس الفرنسي على الالتفاتة الإنسانية، وإذا ما أراد العودة إلى لبنان في سبتمبر/أيلول القادم بقصد السياحة فعلى الرحب والسعة أما إذا كان الهدف من الزيارة القادمة إصلاح ما أفسده الدهر، أتمنى ألا يجهد نفسه لأن اللبناني ألِف عقوبة الانتماء إلى بلده الحبيب لبنان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.