ربما ليس ثمة حديث جامع في مصر خلال الأيام الأخيرة إلا عن الحملة الشَّنعاء الّتي يشنُّها النِّظام ضدّ مشاهير مستخدمي تطبيق "تيك توك"، وبالأخصّ الفتيات. ونسبة الحملة إلى النظام المصريّ هنا، كناية بديهيّة عن مجموعة المؤسسات التنفيذيّة والقانونيّة الّتي توحّدت وحلّت، بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، في شخصيّة الرئيس عبدالفتاح السيسي.
أما وصفها بالشَّنعاء راجع لسببين: الأوَّل أن الفاعل هو النِّظام المصري المعروفة أخلاقُه وقيمه جيداً لكلّ من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، والثَّاني أنها ضدّ مجموعة من المراهقين، والمراهقات، الّتي ضاقت بهم سبل العيش الكريم، والحياة المستقرة المرفهة، تعليماً وتوظيفاً، في بحر السُّيولة الرَّقْميّة، لتلقيهم على شاطئ تطبيق إعادة تدوير المحتوى، وإضفاء طابع تمثيلي عليه: تيك توك.
مقاربات متقاطعة
ولعلَّ السؤال الرَّائج والمشروع في هذه الآونة، هو ما هو الدَّافع وراء شنّ النِّظام المصري هذه الحملة، إذ لا شك أن هذا التوجّه ليس عفوياً، لسبب أخر ثانوي على السبب المشار إليه في الفقرة الأولى، عن هيمنة الرئيس وفكره على كلّ المؤسسات، وهو أنّ هذا السلوك بات مطّرداً: شخصية مشهور، فتاة على الأرجح، تُصور مقاطع تيك توك غير لائقة، تحظى برواج كبير، يتم القبض عليها، ملحوقاً بخطبة عصماء مكتوبة عن "الأمن القومي الاجتماعي" عبر صفحة النيابة العامة، وحكم سريع، ومصادرة أموال.
نظرياً، يمكن مقاربة هذا التوجّه من عدّة زوايا: الأولى، هي الزاوية الطبقية، أنه حربٌ على سبل الربح السريع المتاحة أمام الفقراء، إذ تعدّ الشريحة الأكثر استخداماً لهذا التطبيق من الفئة الأقلّ دخلاً وتعليماً وفرصاً في العبور الطبقي، أو تقييد هذه الزاوية وتخصيصها، بإضافة الشباب إليها، لنصبح أمام شباب الفقراء، وهو تصنيف عمري اجتماعي، اعتماداً على أن مستخدمي هذه الأدوات تجمعهم سمات مشتركة، عمرية واجتماعية، بل وشكليّة (معايير الجمال)، مثلما حدث منذ وقت قريب مع منتجي المهرجانات، تلك الفئة الاجتماعية والعمرية التي بدأت المؤسسات الرسمية التضييق عليها مؤخراً، بعد أن حققت نجاحاً مادياً وشعبياً هائلاً.
كما يمكن مقاربة هذا التوجه مقاربة ثقافيَّة من زاوية ثالثة، على أساس أن النظام المصري يريد تكريس وضع سلطويّ، ذكوريّ وأبويّ، ضدّ الإناث، لكونهنّ إناثاً من ناحية، ولتقديمهن محتوى جريئاً خارجاً عن العرف العام من ناحية أخرى، خاصة أن معظم المقبوض عليهم كانوا إناثاً بالفعل. ويمكن فهمه من زاوية رابعة، وهي رغبة النظام المصري في "رسمنة" كل الأنشطة الترفيهية والخدمية، وإخضاع القائمين عليها على المرور من القنوات الرسمية، حتى لو كانت أنشطة غير شرعية، في العالم الافتراضي.
المقاربة الأشمل
بيد أنّه في الحقيقة، لا تزال هذه النظريات والمقاربات – الّتي يمكن أن تتقاطع معاً لتكوَّن وجهة نظر سطحيّة وجذّابة من الخارج – تطرح مزيداً من الأسئلة، أكثر مما تقدّم إفادات ذات قدرة تفسيريَّة وتنبؤيَّة حقيقيّة في الواقع، وعلى رأس هذه الأسئلة المطروحة: لماذا قرر النظام المصري خوض هذه الحملة في الوقت الحالي؟ وما الفائدة المرجوّة منها؟ وما هي العلاقة بين إنشاء ما تسمى بوحدة الرصد، بالتزامن مع قدوم النائب العام الجديد، وهذه الحملة؟
كلمة السرّ المفقودة في هذه المعادلة، والّتي تعالج قصور المقاربات السابقة، ولا تنكرها بطبيعة الحال، هي الرغبة في: الهيمنة السياسية ومحاولة تعويد المصريين على التنميط الاجتماعي. فهناك سلسلة طويلة من الإجراءات والقوانين والمساعي التي بدأت تظهر إلى النور بشكل متتالٍ خلال الشهور الأخيرة، والّتي لا يمكن فهمها، أبداً، إلا على ضوء هذين المفهومين: الهيمنة السياسية، والتنميط الاجتماعي.
فالسيسي، كشخص، لم يأتِ إلى السلطة لسحق الإخوان المسلمين، والمعارضة المدنية، وتنصيب نفسه رئيساً لمصر، وإعادة تمكين الثورة المضادّة وحسب، وإنما، وهذا مما يمكن قراءته دائماً ما بين سطور مقولاته وتحرّكاته، جاء لإعادة هندسة المجتمع المصري، "وإعادة تشكيل وعيه"، كما يحبّ أن يقول دائماً، وضمان تجذير الحكم العسكري وديمومته في المجتمع، وتحويل هذا المجتمع، في علاقته مع السلطة، وسلوكياته في الشارع، والتفاعل الداخلي، إلى مجتمع مراقبة، جُلُّه مواطنون صالحون، على مقاس السلطة تماما، كما قرأتَ، أو سمعتَ في مزرعة الحيوان، ورواية 1984، لجورج أورويل.
إلى أي مدى يفكر السيسي في ذلك؟ وإلى أي مدى هذه المقاربة العامة قادرة على تفسير تفصيلة دقيقة مثل ملاحقة مُعدّي المحتوى في تيك توك؟ وكيف تتمّ إعادة ترتيب مستوى العلاقات داخل المجتمع المصري؟ دعني أُذكرك ببعض نصوص ومضامين تصريحات السيسي الّتي قالها وسعى لتنفيذها على مدار الأعوام السابقة.
ففي أحد لقاءاته مع ياسر رزق، إذا لم تخُني الذاكرة، نوَّه السيسي بأهميّة دوره، على المستوى الشخصي والمهني، في التنميط الاجتماعيّ، قائلاً لرزق ما معناه: إن الجيش يضم، كل دفعة، كماً كبيراً من البشر المختلفين، اجتماعياً وثقافياً ودينياً وعلمياً، وإن مهمته، كقائد عسكريّ، وتخطيطيّ، هو تحويلهم إلى كتل صمَّاء، تخضع لطبيعة الحياة العسكريّة (الكلام على معناه)، ويبدو أن رزق قد تلقف الفكرة الّتي تدور في رأس السيسي، وأعاد تنقيحها، ليخرج علينا بمقترح مرعب عن عمل مدارس ومعسكرات وأنشطة رسمية وشبه رسمية، تثبت في وجدان النشء الجديد تعاليمَ وقيم "ثورة" 30 يونيو/حزيران، حتى لا تخسر الدولة معركتها مع الأجيال الجديدة، وكي لا يسقط الحكم في يد أطراف غير مرغوبة مجدداً. بطبيعة الحال، تضمن هذه القيم السياسية المراد تلقينها للأجيال الجديدة أبعاداً ثقافية واجتماعية ودينية تعكس هوية المواطن المنشود بالنسبة للدولة.
وفي عدة أحاديث بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز مباشرة، أحدها مع مجدي شردي وفريقه على قناة المحور، قال السيسي إن لديه مقترحات وتصورات عن برامج عمل لغرس التربية الوطنية والقيم والأخلاق في نفوس النشء، وإنه عازم على تنفيذها، بيد أنها ستأخذ وقتاً لرؤية نتائجها. كما قال في حديث تلفزيوني آخر، إنه لا يؤمن بأي مرجعيّة دينيّة غيره في الدولة، في إشارة لرغبته في تحجيم دور الأزهر، مبرراً ذلك بأنه من سيحاسب وحده أمام الله عن هذا المجتمع، وليست هذه المؤسسات الدينية. وهو ما يعني أن برامج السيسي الإصلاحية على المستوى الاجتماعي، ورؤيته لهوية الدولة، تتعارض حتى مع توجهات الأزهر. يفكر السيسي في الاجتماع من منظور الهيمنة السياسية أولاً وأخيراً، بينما يختلف منظور الأزهر للاجتماع، حتى لو اتفقا على الممارسات.
نظرية السيسي في الحكم
تقوم نظرية السيسي في الحكم، ولعلنا في القريب العاجل سنرى عدداً من المواد المكتوبة عن هذه النظرية، ولا سيما بعد تبلورها، على عدة ركائز، الركيزة الأولى، هي الحفاظ على هيمنة العسكرية على المجالين السياسي والاقتصادي، مع محاولة تفصيل الهيمنة السياسية على مقاسه، لأطول فترة ممكنة.
ضمَّن السيسي في التعديل الدستوريّ الأخير مادةً تمنح القوات المسلحة الحق في التدخل بالحياة السياسية بغرض حماية شيء هلامي، يتقاطع مع نظرية السيسي عن المواطن الصالح، وهو هوية الدولة. ومن جهة أخرى، منع، مؤخراً بموجب قانون، ترشح العسكريين للسلطة إلا بموافقة المجلس العسكري، تفادياً لما حدث مع كل من قنصوة وعنان، وهو ما يعيدنا إلى معادلة: تكريس الهيمنة العسكرية على السياسة، مع محاولة السيسي الاستفادة من هذه الهيمنة بشكل شخصي. كما منح العسكريين، مؤخراً أيضاً، سلطات واسعة في المحافظات تضاهي، وقد تفوق، سلطات المحافظين المدنيين. فالرجل لم يأت للحكم فقط، بل أتى لتدشين تصور عن الحكم ليبقى مدداً طويلة لا يعلم مداها إلا الله.
وعلى مستوى علاقة المواطن بالسلطة، فالرجل بدأ أيضاً يعيد تعريف المواطنين بحدود علاقتهم مع المجال العام المادي (المكان): هدم المباني المخالفة – أو إجبار أصحابها على دفع الجبايات، واشتراط تركيب العدادات الكودية مسبقة الدفع للحصول على الخدمات الأساسية، وفرض إحلال جميع السيارات التي تعمل بالبنزين بالغاز الطبيعي، واستبدال الأسواق الشعبية بالأسواق الحضرية، وقانون الغرامات المرورية الفورية، بل وترخيص مهنة السايس.
قد ترى أن المخيال الذي يدور في عقل السيسي عن علاقة المواطن الصالح بالسلطة المقدمة للخدمات إيجابي ويعيد الانضباط المفقود للمجتمع والشارع، وبالأخص عندما نتحدَّث مثلاً عن نوع من الاستبداد الكفء، على نحو رغبته في إيقاظ المواطنين للعمل من الخامسة فجراً، ونواياه المطردة في التحكم بأوزانهم، ولكن ما يهمنا هنا، الإشارة إلى أن الرجل يمتلك بالفعل هذا المخيال العام من جهة، وإيضاح طريقة تنفيذ هذا المخيال الذي يستهدف تقييد حركة المواطن من جهة أخرى.
وعلى مستويات هيمنة أكثر رمزيّة، تأتي الركيزة الثالثة، حيث يحاول السيسي، ويصمم، على ممارسة أقصى ضغط ممكن، لسحب البساط الديني من مؤسسة الأزهر، التي لا يعجبه بعض مناكفاتها، لصالح المؤسسة الدينية "الرسمية" (الأوقاف والإفتاء)، كما يثبت من خلال ما يسمى بوحدة الرصد الاجتماعي، حدوداً ناعمة جديدة عن المسموح وغير المسموح به أخلاقياً في دولته الجديدة. ويمكن ضم أي خطوة أو توجه تعجز عن فهمه للنظام مؤخراً إلى أي من هذه الركائز الثلاث: تعميق سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية، وإعادة تشكيل علاقة المواطن بالسلطة في مجال الخدمات العامة والشارع، والسيطرة على حركته اجتماعياً واحتكار الدين ومنافسة مؤسساته التقليدية.
مستقبل الحملة
ولعلّ مما يثبت أن الدافع الحقيقي وراء حملة السيسي الأخيرة دافع سياسيٌّ بحت، أبعد ما يكون عن الأخلاق، أو الدين، أو الثقافة، أن السيسي، الذي حجب مئات المواقع الصحفية المعارضة بغير سند قانونيّ منذ أعوام، لم يطرح، أو نظامه، مسألة حجب المواقع الإباحيّة قط.
كما أنه لم، ولن يكون متوقعاً أبداً لمن يقول إن هذه الحملة نتاج لتحالف السلطوية السياسية (الدولة)، مع السلطوية الاجتماعية (الأسرة)، مع التيار الديني المحافظ (السلفية)، أن يذهب النظام إلى ما هو أبعد من ذلك، كأن يضيق على المسيحيين دينياً، أو على المكتسبات الخاصة بالنساء في المجال العام، بل على العكس، يسوّق النظام نفسه كضامن لكل الحريات، الدينية والشخصية، عدا السياسية، ويقول السيسي عن نفسه إنه نصير المرأة، في المقابل، من تهديد خصومه الإسلاميين لهذه المساحات.
وللمفارقة، فإن عدداً من ذوي الفتيات المحبوسات في الحملة الأخيرة، ذكوراً وإناثاً، قالوا إنهم لم يكن لديهم اعتراض على الأنشطة الترفيهية أو الربحية التي كانت تقوم بها الفتيات. كما أكدت واحدة من أولى الفتيات المحبوسات، حنين حسام، أن أخاها كان موافقاً، وعلى علم بأنشطتها على "تيك توك".
فالأمر كله تمثيل للنزاع المتخيل عن نموذج هوية الدولة المطلوبة، والمجتمع المنشود، والمواطن الصالح، في عقل السيسي، والذي يمكنه (النموذج) من إحكام قبضته على كل شيء في البلاد، البشر والحجر، إما بالمحافظة الاجتماعية تارة، ومن ثم تكون الدولة وحدها هي من تمثل الدين والقيم، وترسم حدودهم، لتعيد الدولة توظيف هذه القيم والبضاعة الدينية لتسويغ قمع المجتمع سياسياً، أو بالانفتاح الاجتماعي، غير السياسي، بحيث تنحي الدولة الوجود الديني الذي قد يتسلل من خلاله خصومها السياسيون. وكله شد وجذب وتوتر في هذه المنطقة.
ولحسن الحظّ، فإن هذه الحملة، بهذا الشكل، لن تنجح في إيقاف السلوكيات الّتي يقول النظام إنه يمنعها لأغراض أخلاقية، بينما يحاربها، لأغراض سياسية تتعلق بالقدرة على الضبط الاجتماعي، لسبب بسيط: وهو أن مئات الفتيات المصريات، وربما آلاف، يفعلن نفس هذه السلوكيات، ويقمن ببثها، على مدار الساعة، وبطبيعة الحال، لن يقوم النظام بالقبض عليهن جميعاً. فالطريقة الأنسب للمنع، والتي يعرفها النظام، هي: تحجيم الشروط الموضوعية المنتجة لهذه الظاهرة، عبر تحسين حياة الملايين من هؤلاء الشباب نوعياً، والتضييق على التطبيق نفسه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.