تشهد تونس بعد الثورة الشعبيّة التي اندلعت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010؛ تضامناً مع الشاب "محمد البوعزيزي" الذي أوقد النار بجسده، ليكون الشرارة الأولى للانتقال من براثن الاستبداد إلى أجواء الحرية والكرامة، تشهد تحولات سياسية كبيرة أثرت على المجتمع بكلّ مكوناته وطبقاته، هذه التحولات في المشهد السياسي التونسي أخذت طابع الصراع لا التّعاون ولا المشاركة الفعّالة البنّاءة بين الأحزاب السياسيّة وقوى الثورة والمعارضة، وذلك بسبب تعدد الأحزاب ومساراتها الفكرية المأزومة والغارقة في الاستقطاب والأدلجة، والتي ظهرت جليّة في انتخابات الحكومة والبرلمان، ومع ذلك تحاول تونس ألّا تفرط بمبادئ الثورة وتتمسك بالحلول التي تحافظ على ديمقراطيتها، حيث توافقت الأحزاب السياسية في عهد الرئيس قيس سعيّد على تشكيل ائتلاف حكومي مُنِح الثقة من البرلمان.
الانتقال الديمقراطي
توالت الأحداث في تونس بعد هروب بن علي، بأن أجريت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان المؤقت)، المكلف بكتابة دستور جديد لتونس.
حيث فازت حركة النهضة بتلك الانتخابات، وانتخب المجلس الوطني التأسيسي "المنصف المرزوقي" رئيساً مؤقتاً للبلاد، لكن رغم تحقيق الانتقال السلمي للسلطة شهدت تواصلاً للاحتجاجات الاجتماعية وعمليات تصفية جانبية. اغتيل شكري بلعيد يوم 6 فبراير/شباط 2013، والنائب محمد البراهمي يوم 25 يوليو/تموز 2013، ما زاد الوضع الأمني والسياسي سوءاً على سوء، فاضطرت المنظمات والنقابات لإجراء حوار وطني بين حركة النهضة والمعارضة، انتهى بقبول الحركة ترك السلطة لحكومة التكنوقراط، وكذلك جاء قرار المجلس التأسيسي بتونس بإقراره "قانون العدالة الانتقالية"، الذي أحدث بموجبه هيئة "الحقيقة والكرامة" الموكلة بتوثيق ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان (1955- 2013). وفي نهاية عام 2014 أُجريت في تونس انتخابات تشريعية ورئاسية، فاز فيها الباجي قايد السبسي بمنصب الرئاسة.
انتخابات 2019.. الطريق الشائك
بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، في تاريخ أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي جاءت بالرئيس قيس سعيّد من خارج المنظومة السياسية التقليدية، ولا يعرف التونسيون عنه الكثير، سوى مجموعة من الشعارات وخطاب متكرر عن الثورة، فبعد مجيئه إلى الحكم تراجع دور الأحزاب والحكم المركزي، بسبب التمثيل المباشر ومعارضته للنظام السياسي الحالي. يغلب على شخص الرئيس سعيّد الغموض في سلوكه السياسي وطريقة اتخاذه للقرار، فهو يعتمد على مستشاريه الخاصين من أقاربه وثقاته، وهو ما خلق بعض التوتر في تعامل مؤسسة الرئاسة مع المنظومة الحزبية ومؤسسة البرلمان بشكل خاص.
ثم توافقت الأحزاب السياسية على تشكيل ائتلاف حكومي، وقد مُنِح الثقة من البرلمان، وضمّ كلاً من حركة النهضة (التوجه الإسلامي)، والتيار الديمقراطي (توجه ديمقراطي اجتماعي)، وحركة الشعب (توجه قومي)، وتحيا تونس (توجه ليبرالي)، إضافة إلى كتلة الإصلاح الوطني المتكونة من نواب مستقلين، واستثني من الائتلاف الحاكم كل من حزب قلب تونس (ثاني أكبر حزب ممثل في البرلمان)، وائتلاف الكرامة (ذي التوجه الإسلامي) والحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسى، التي تعادي الثورة وتعتبرها انقلاباً على نظام بن علي.
في هذه المرحلة كانت نتائج الانتخابات التشريعية قد أسفرت عن مشهد سياسي يصعب أن يتأسس عليه عمل حكومي مستقر أو مستمر، لاسيما أن البرلمان كان متشظياً، وأكبر أحزابه الفائزة (حركة النهضة)، الذي حصل على أقل من ربع مقاعد المجلس، في المقابل اتسعت دائرة المقاعد الفائزة بعدد محدود، وهو ما مكّنها من المناورة وصعوبة التفاوض معها عبر الائتلاف الحكومي، وفي ظل هذه الانقسامات السياسية والاستقطابات الأيديولوجية الحادة فشلت حكومة الخيار الأول التي شكلها مرشح الحزب الأكبر في نيل ثقة البرلمان، واستُبدلت بما سمي بحكومة الرئيس، وهي الخيار الثاني دستورياً، وهنا صارت صلاحية تكليف رئيس الحكومة البديل تؤول إلى رئيس الجمهورية في حال عجز الحزب أو الائتلاف عن تشكيل الحكومة أو في حال رفض البرلمان منح الثقة.
الأمر الذي أكسب الرئيس قيس سعيّد امتيازات وصلاحية الاختيار، ومنحه الأرضية التي تسمح له بالتدخل أكثر في الإدارة التنفيذية، سواء من خارج الأحزاب أو من خارج ترشيحاتها، أو حتى إن لم يكن خيار الأغلبية، وهذا كان في اختياره لشخص إلياس الفخفاخ من أجل تشكيل الحكومة، فرأى البعض في اختيار الرئيس للفخفاخ قلباً للموازين على رأسها، عبر تكليف من لم ينتخبه الشعب بقيادة القوى المنتخبة.
فبدأ التنافر بين مكونات الائتلاف الحاكم على تنصيب الحكومة، ولولا جائحة كورونا لانفجر الوضع منذ أولى مهامه التي غطّت تناقضاته، ومن المؤشرات السلبية بين أطراف الائتلاف الحكومي (التي تغذي الأجندات الحزبية المتعارضة لأحزاب الائتلاف على حساب الأجندة الوطنية الجامعة) أنّه ظهر جليّاً لحظة انتفاض البرلمان الجديد عندما لجأت حركة النهضة إلى التّحالف مع قلب تونس (خارج الائتلاف)، لإيصال مرشحها راشد الغنوشي إلى رئاسة المجلس بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الاتفاق مع كتلتي التيار والشعب، وتعرض رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي لمشروع سحب الثقة عنه من قبل الأحزاب المعارضة وغير المشمولة في الائتلاف الحكومي كالحزب الدستوري الحر الذي ترأسه عبير موسى، لكن في كل مرة تنجح الديمقراطية.
لم يبق أمام الرئيس سعيّد بعد فشل خيارات الحكومات السابقة والأخيرة التي اختارها بقيادة إلياس الفخفاخ التي لم تدم أعمالها إلا لشهور قليلة، وانتهت بسحب الثقة منها بتحالف أحد مرشحي حزبي النهضة وقلب تونس، لأنه وبكل بساطة ليس خيار الأغلبية، ولتضارب المصالح، إلّا أن يعيّن شخصاً تتوافق عليه أغلبية الأحزاب، فوقع الاختيار على "هشام المشيشي"، لتبدأ تونس مرحلة جديدة من التحديات والصعوبات لتجاوُز الأزمة الراهنة، المتمثلة في الاستقطابات والانقسامات السياسية، حيث لم يتضح بعد كيف سيتم تشكيل أعضاء الحكومة، هل من الأحزاب أم من الشخصيات المستقلة أم بالمزج بين الاثنين؟
أخيراً، الرئيس التونسي خليفة التجربة الديمقراطية التي حررتها الثورة التونسية، وهو كفرد إلى جانب البرلمان، والحكومة المخول باختيار رئيسها، وإن دل ذلك على شيء فهو الاستمرار في قيادة البلاد وفق نهج التّمسك بشعرة معاوية، حتى يحافظ على شرعيته، وإن رأى العالم مواقفه جاءت وفق إملاءات فرنسا، التي تعد أحد محاور المضادّين والمعادين لثورات الربيع العربي، ولا ننسى لقاءه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمر صحفي مشترك في باريس، حيث اقترح سعيّد وضع دستور مؤقت في ليبيا، على غرار الدستور الذي جرى وضعه في أفغانستان عام 2002. وعليه إن ما يحدث في دول الجوار كليبيا من تهديدات حدودية وما شابه، ستتعامل تونس معها كغيرها من الدول بمبدأ المصالح والاصطفافات، وأولى مصالحها ألا تصدِّر صراعها الداخلي إلى الخارج.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.