في حين تتعدد وتتفاقم الأزمات التي تواجه مصر من كافة النواحي، اتخذت السلطة قراراً حاسماً، بعدالة ناجزة، وحكمت بالسجن لمدة عامين وغرامة 300 ألف جنيه على مودة الأدهم وحنين حسام و3 آخرين فيما عرف بقضية "فتيات التيك توك". تأتي تلك الخطوة في محاولات السلطة علاج أزماتها الداخلية؛ إذ اتضح أن السبب الحقيقي وراء المشكلات كافة هن نسوة يتراقصن عبر منصة تيك توك.
وقالت النيابة العامة المصرية إن أولئك الفتيات "تعدين على القيم والمبادئ الأسرية"، وهي التهمة التي تندرج تحت بند التحريض على الفسق والفجور، ولم توضح النيابة ماهية تلك الأفعال المخالفة لقيم ومبادئ الأسرة المصرية، ولم يكشف لنا أحد أيضاً تلك القيم.
لذا يجدر أن نتساءل، ما هي قيم الأسرة عموماً، وما المميز في قيم الأسرة المصرية بالتحديد؟ وهل القضية حقاً تتعلق بصبايا رقصوا ومارسوا أفعالاً مشينة، أم هي أوراق دومينو تتراصّ متجاورة، وهناك يد أسقطت الورقة الأولى، ثم توالى سقوط باقي الأوراق؟
هل هي حوادث فردية، أم أنه منهج يرمي لأبعد من الدعارة، نهج يؤمم الحياة العامة ويمسنا جميعاً؟
ما هي القيم الأسرية؟
بحسب تعريف قاموس كامبريدج، فإن القيم الأسرية هي الأسس والمعتقدات التي تُبنى عليها الأسرة التقليدية، المكونة من أب وأم وأطفال يعيشون معاً. وفي قواميس أخرى ترتبط كلمة "العائلة" بالأيديولوجية المحافظة، المتمسكة بالعادات والتقاليد المتوارثة. وبالنسبة للقيم المجتمعية، فهي معايير متعارف عليها ضمن المجتمع، تشير إلى طرق تعامل الأفراد معاً، والموافقة على السلوك المقبول، ورفض غير المقبول. تلك المعايير ذات معنى واسع مبهم، جمل سائلة يجدر بمن يدعي وجودها أن يضع قواعد نستخلص منها تلك الأحكام الأخلاقية، مؤسسة في سياق تاريخي يضع في الحسبان تطور المجتمع والتكنولوجيا ونمط الحياة.
إن المحاججة بوجود قواعد ثابتة للأخلاق والأسرة المصرية يجعلنا بصدد الوقوف أمام خطاب فارغ المحتوى، يسلم فقط بمعايير عامة كأساس للأخلاق لن يستطيع المجتمع تجاوزها بمرور الزمن. ويمكن النظر لتطور الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كمثال جيد يدحض ذلك الادعاء. فالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لم تهب وتمنح لأصالة مجتمع أو تفرده من قبل السلطة، بل هي مكتسبات ونتيجة نضال الشعوب غالي الثمن. لم يتوقف التاريخ البشري في اليونان القديمة عند أرسطو باعتباره العبودية أمراً عادياً، عندما جادل أنه لو كان للأشياء أو الأدوات أن تتحرك من تلقاء ذاتها؛ لاستغنى أرباب العمل عن العمال والسادة عن العبيد.
وباعتبار القيم الأسرية هي الأخلاقيات المكتسبة من العائلة عن طريق التربية؛ فالتعامل مع المجتمع كبنيان واحد من منطلق تشابهنا يعد انتحاراً. نحن متماثلون إذ إننا نشأنا في نفس الحدود الجغرافية، ولنا خصائص بيولوجية مشتركة مع البشر أجمعين، لكن يتباين المنهج الأخلاقي جغرافياً من مدينة لمدينة، واقتصادياً من طبقة اجتماعية لأخرى، ولكل فرد منهجه الأخلاقي الذي اكتسبه عبر خبراته والمواقف التي تعرض لها في الحياة. وعندما يعيش مجموعة من البشر في مكان واحد، اسمه مصر، فمن الطبيعي أن الخبرات تتشابه والمعايير الأخلاقية كذلك، لكنها لا تتطابق.
هناك من أَسَرَّ في أبنائه مبادئ كحب الخير، الصدق، الأمانة، الإيمان بالحرية وخلافه. وعلى النقيض هناك المهمل وهنالك من لجأ للعنف. كما يوجد الأب أو الأخ غير الآدمي الذي انتهك جسد وحرمات عائلته وأقربائه.
في ظل رخاوة وغياب القوانين التي تجرم العنف الأسري، تتمسك الدولة بالنظر للبيت المصري باعتباره بنياناً واحداً متماسكاً، يُقبل فيه الأبناء اجتماعياً بشروط مشتركة تجمع الأب بابنه والدولة بالمجتمع ككل.
هناك قالب ثابت لا يسمح بتجاوزه، يلزم التعايش فيه القبول بهويات محددة سلفاً قبل أن تولد، ولا يحق لك الاعتراض وصنع شكل مناسب لك. اكتفِ بالدور الذي فرض أن تؤديه ولا ترتجل.
دولة الحفرة
عرض الفيلم الإسباني "The Platform" قصة غريبة تدور في سجن داخل برج شاهق عمودي، مقسم لطوابق في كل منها فردان فقط، لهما وجبة واحدة في اليوم تستمر دقيقتين. في الطوابق العليا تأكل بقدر ما تشاء، وتدريجياً تقل حظوظ الأدنى في ملء بطنه حتى إنه قد لا يجد الفتات.
الطعام بمثابة الامتياز الممنوح للطبقة الأعلى، تلك الامتيازات التي تبقى حكراً على أشخاص منحتهم الدولة الحق الذي حرمته على الشق الأعظم من المجتمع. يعرض الفيلم تساؤلات عديدة، لماذا تضطهد الطبقات الأدنى بعضها بعضاً؟ من الملام؟ أهو المجتمع الذي وجدوا أنفسهم فيه، أم الحكومة التي وضعتهم في خضم هذا الصراع من الأساس.
بالعودة لفتيات التيك توك، فإن القاسم المشترك بينهن هو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر فيديوهات راقصة، وهو أمر ليس بالغريب على ملايين النساء في العالم وفي مصر أيضاً. بالنسبة لمصر فهي لا تجرم الرقص في الملاهي الليلية أو الأفلام. وبالنسبة للمجتمع المصري، وعلى سبيل المثال، فإننا لا نجد تعاطي الأغلبية مع فيديوهات الراقصة الشهيرة جوهرة يتشابه من قريب أو بعيد مع التعاطي مع الحالات المتهمة بإفساد المجتمع.
المحتوى الراقص الخاص بالفتيات يقدم على أنغام شعبية بملابس يراها البعض غير لائقة، لكن مثل ذلك السلوك ليس غريباً على المجتمع، لكن الغريب كان مصدره. حيث جاء من شريحة اجتماعية مفروض عليها الطاعة وملاءمة الشروط المجتمعية للظهور بما يناسب أعمارهم. إذ إنهم لا يملكون الحق في أجسادهن بالكامل، بل يتشاركنه مع الأسرة. وفي حالة فتيات التيك توك، لم تتخذ أسرهن إجراءات مكبلة ومانعة لذلك السلوك، ليمنح المجتمع نفسه الحق في هذا الإجراء عبر مباركة يد السلطة باعتبارها الأب المحافظ المسؤول. ومن ثم يبدو تغول الحكومة الدائم في حياة المواطن ضمن إطار العلاقة بين السيد والعبد. وتوابع تأييد مثل تلك الإجراءات الاستبدادية -لأنها تأتي على هوى الغالبية المحافظة- يضمن بالضرورة استمرارها حتى تمس الأغلبية المؤيدة.
اختزال القضية بنظرة فردية للحالات، يغض الطرف عن ممارسات وأغراض السلطة الحقيقة، ويغيب عنا إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، الدولة والمواطن، تلك العلاقة السوية الغائبة منذ أمد.
إن صممت الدولة وضع أعرافاً نسير وفقاً لها، فيجدر بها وضع تعريف واضح لها، يبتعد عن التنكيل ووصف البعض بالفجور لأنهم خرجوا عما يريد البعض أن يكون مألوفاً، وإعادة تعريف الأسرة ككيان داعم وليس أساساً للمجتمع، لأن الوطن قائم على الأفراد وكيفية التفاعل بينهم. ومن غير المقبول تكديس الجميع في سلة واحدة. كما يجب أن تطبق تلك الأحكام على الجميع، وألا ترتبط بالطبقات الاجتماعية الفقيرة، بينما تغض الدولة نظرها عن مظاهر الانحلال الصادرة من الطبقات العليا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.