يحكي غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس"، عن رحلة مثيرة لثلاثة فلسطينيين باحثين عن الرزق الحلال، قاصدين أيضاً دولة الكويت، قبل أن تصبح الكويت التي نعرفها الآن. ثلاثة أشخاص اختلفوا في كل التفاصيل، لكنهم اجتمعوا على أنهم من أبناء فلسطين المحتلة، وأن الأرض قد ضاقت بهم، فقرروا جميعاً الهروب نحو الرزق والحرية والكرامة، في بلد عربي يحترم الإنسان عموماً. أبطال الرواية، في العالم المفعم بالتكنولوجيا الحديثة، لم يمنحوا سوى رحلة هروب برية عبر الحدود، في خزان ماء فارغ، حيث ينص الاتفاق بينهم وبين السائق المسؤول عن الرحلة، أنهم سيبقون خارج الخزان طوال الرحلة، لكنه سيكون مأواهم أثناء المرور على نقاط التفتيش. اتفاق منطقي حتى تتم الرحلة على خير، ويتحقق المراد دون خسارة في الأرواح. عند إحدى النقاط تصبح جدران الخزان الملتهبة ملجأهم من الفقر والحبس والموت، درجة الحرارة في الهواء الطلق لا تسمح سوى بالمكوث في المنازل، ودرجة الحرارة داخل الخزان لا تسمح إلا بشيء واحد فقط.
يهبط السائق من السيارة للحديث مع مسؤول نقطة التفتيش، لكنه ينسى تفصيلة صغيرة، وهي أن هناك بالخزان ثلاثة من الحالمين بحياة أفضل، يستمر الحديث والضحك بين السائق ومسؤول نقطة التفتيش، تتعالى القهقهات، بينما سكان الخزان يصارعون الموت، بعدما يفرغ السائق من حواره مع المسؤول، ويعبر إلى بر الأمان، يفتح للهاربين باب الخزان أخيراً. لكنه لا يرى إلا جثث الثلاثة بجانب الباب، لا يندهش السائق إذ يبدو أن الأمر ليس عليه بجديد، فقط يتساءل: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ فيرد عليه المصريون: ولماذا لم تضربه يا وليد؟
صفعة في القاهرة
ينام المصريون بعد يوم عمل شاق، يتخلله الكثير من المشكلات المصرية بامتياز، كباري في كل شبر، بسبب وبدون سبب، مقابر أثرية تهدم من أجل مزيد من الكتل الأسمنتية في ربوع المحروسة. كما يرغب سعادة المقاول العام للبلاد، في تحصيل إيجار شقة لم يدفع بعد، إيصالات استهلاك الكهرباء والماء قبل بموعدها بيومين، بينما الراتب المتدهور لا يفي بكل ذلك. يفكر المواطن في كل ذلك بينما عوادم السيارات تفسد عليه رحلة العودة للمنزل. على كل حال سيعود المواطن، لا سالماً ولا غانماً، ولكن في مصر يكفي أن تكون عائداً وفقط، تستقبلك ابنتك الصغيرة عند الدخول بابتسامة أكبر من المدينة التي تسكن بها، لتنسى كل ما مررت به في يومك. قليل من الأنشطة المنزلية مع الأسرة الصغيرة، ثم تخلد للنوم لساعات قليلة، قبل أن يبدأ يوم جديد في حياتك لا يختلف كثيراً عن الأمس. بين النوم واليقظة تأمل في غدٍ أفضل، تتذكر أنه من الصعب تغيير مجرى حياتك في تلك الساعات المعدودة. تحاول الترجل من برج التفاؤل إلى أرض الواقع، لعل أمنياتك تتحقق، وأنت لا تطلب الكثير. عدم زيادة أعداد المعتقلين، هدف جديد لمو صلاح في بلاد الإنجليز، انخفاض في سعر كيلو الطماطم، أو عزيز يعود لأهله بعد سنوات غياب. أمنيات جميلة وبسيطة تشكر على تمنيها، لكنك في الصباح تستيقظ على خبر مفزع، "كويتي يصفع شاباً مصرياً".
تنطق تفاصيل الحادث ويا ليتها ما نطقت، أن مواطناً كويتياً صفع شاباً مصرياً يعمل بأحد المحال التجارية، بسبب رفض الشاب تلبية طلب للمواطن الكويتي يخالف تعليمات إدارة العمل. تعلمك الأخبار ومقاطع الفيديو بعدة تفاصيل عن المعتدي، كويتي، كبير السن، يرتدي جلباباً ناصع البياض، استحوذ على كل ما يملك من بياض ونقاء، بينما القلب لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية.
شاهد المصريون المقطع المصور بوجل وتخوف، تبدأ الحكاية بمشادة كلامية بين وليد الشاب المصري، وذلك الشخص الذي لا يحسب إلا على نفسه، وبينما يشرح له الشاب تعليمات الإدارة في تلك المواقف، يصفعه على وجهه بلا رحمة، يتسمر المصريون أمام هواتفهم المحمولة، مرددين بعض ما تجود به قواميس الشتائم والسباب في حق هذا المعتدي.
ينظر المصريون لابنهم المصري كما ينظرون للاعبهم المفضل قبل تسديده ضربة جزاء،" يلا يا وليد، قوم اضربه وخذ حقك". في لحظة بين الحوار الافتراضي بين المصريين ووليد، يستغل المعتدي انشغاله ويصفعه مجدداً، الآن يقف أبناء مصر على كراسي المقاهي ويفترشون الطرقات، في انتظار أن يكشف فخر العرب الحقيقي عن نفسه، ويقوم بفعل الأفاعيل بذلك المتجبر، لكن وليد صمت في غرابة، وأطبق الصمت بعد الصفعة الثالثة، وبدا مستسلماً بلا ردة فعل يهدئ بها من ألم المصريين، الذين كان حالهم،" لقد شعرنا بالصفعة على وجوهنا في القاهرة، فلماذا لم ترد يا وليد؟"
لماذا لم أدق جدران الخزان؟
كنت في الخزان، أقصد في الدوام، بينما كنتم أمام التلفاز تتابعون الأخبار، عشت الحدث بنفسي، تتساءلون كيف لم ترد عليه الصاع صاعين، وأنا أقول: عمّ يتساءلون؟
آسف.. لم أستطع أن أدق على جدران الخزان.
بدأت الأمور بمشادة بسيطة، بيني وبين العميل، حاولت أن أشرح له الأمر ببساطة، أنا ملتزم بتنفيذ تعليمات إدارة المتجر، أثناء الحديث صفعني بقوة، فوجئت من فعلته، واحتجت بعض اللحظات حتى أفهم ما حدث، فعاجلني بالصفعة الثانية. هنا فهمت الأمر، لم يرني العميل كإنسان البتة، رآني شيئاً يقوم على خدمته وراحته. مر شريط العمر أمام عيني، رحلتي في جمع تكلفة السفر إلى هنا، أمي التي ودعتني بالدموع، وإخوتي الذين ودعوني بنظرات الأمل في حياة أفضل. رأيتموني أصفع ولا أرد، وأنا رأيت أصدقائي ما زالوا يجلسون على المقاهي في انتظار فرصة عمل أو تذكرة هروب. عرفت بغضبتكم لي وغضبكم مني.
مر شريط العمر أمامي حين وطئت قدمي لأول مرة أرض الكويت، حيث الشعب الشقيق الذي سبقني إليه آلاف المصريين وسيلحق بي آخرون وأحلامي التي راودتني هنا عن حياة مستقرة هادئة. حياة ليست كالقاهرة التي تسرق أحلامنا وتقتل آمالنا بقسوتها. لكن يبدو أن العالم كله سواء، وأنه لا مكان آمن يحترم إنسانيتنا وكرامتنا وتحقق فيه أحلامنا البسيطة جداً؛ الاستقرار والأمان.
إلى كل من غضب وحزن لصمتي، إلى أبي وأمي وإخوتي، إليكم جميعاً: آسف.. لم أستطع أن أدق على جدران الخزان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.