في عملية قياس السلوك النفسي وكذلك السياسي تتبع منهجية الملاحظة المباشرة، أو قياس نتائج السلوك، من أجل التعرف على السلوك المستهدف من جوانبه المختلفة، والتعرف على العوامل التي تؤثر فيه، سواء من حيث البيئة المحيطة أو الإمكانات والقدرات الشخصية للشخص المراد قياس سلوكه، وما ينسحب على الأفراد ينسحب بشكل أو بآخر على زعماء الدول والسياسيين.
خلال الأسبوع الماضي، منح البرلمان المصري تفويضاً للجنرال عبدالفتاح السيسي، لقيام الجيش بمهام قتالية في الخارج. الأمر الذي فسّره عديد من المحللين على أنها رسالة موجهة لفتح جبهة للقتال في ليبيا، لاسيما وقد سبق هذا التفويض لقاءات واجتماعات مع من صوّرهم النظام في مصر على أنهم وجهاء ومشايخ قبائل في ليبيا، يدعون السيسي إلى التدخل عسكرياً لوقف زحف الحكومة الشرعية في ليبيا لاستعادة سيادتها على كامل التراب الليبي، واصفين الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً بالإرهاب، والجيش الوطني بالميليشيات. وجاء في البيان الذي أصدره برلمان السيسي بشأن القرار: (وافق المجلس بإجماع آراء النواب الحاضرين على إرسال عناصر من القوات المسلحة المصرية في مهام قتالية خارج حدود الدولة المصرية، للدفاع عن الأمن القومي المصري في الاتجاه الاستراتيجي الغربي، ضد أعمال الميليشيات الإجرامية المسلحة والعناصر الإرهابية الأجنبية).
وإن كان البيان لم يتطرّق إلى الوضع في ليبيا مباشرة، ولعل ذلك ما أرادته المخابرات الحربية -المحرك الحقيقي للبرلمان وصانعته على عينها- لتكون ورقة يمكن اللعب بها في حينها باتجاه إثيوبيا، لكن وكالات أنباء التقت بالنواب الذين ناقشوا القرار، والذين أكدوا أن الحوارات والمناقشات البرلمانية انصبّت كلُّها على الأزمة الليبية، والتدخل التركي فيها، والخط الأحمر (سرت- الجفرة) الذي وضعه السيسي لقوات الحكومة الشرعية وداعميها.
يأتي تصعيد النظام المصري تزامناً مع حشود عسكرية كبيرة أتت من كل أنحاء ليبيا لخوض المعركة المصيرية، كما يراها الثوار، التي على أساسها يمكن الجلوس للحل السياسي، وما قبله فلا حل، في ظل إخلاف الجنرال خليفة حفتر لوعوده والتزاماته الدولية. فبقاء سرت والجفرة تحت سيطرته معناه أن الأزمة باقية، وأن محور الثورة المضادة سيظلّ يعبث بمقدرات ومستقبل ليبيا. وبناءً على المعطيات الدولية الحالية، يمكن تفسير تلك الخطوة المصرية على أنها مدفوعة من الإمارات والسعودية وفرنسا، الذين وعدوا بدعم سياسي دولي لمصر حال تدخلها بشكل حاسم، مستفيدين من حالة الغضب الأوروبي على تركيا، وإن كان الغضب وحده لا يغير موقفاً في السياسة، ولكن الموقف الحقيقي يرسم من خلال ترتيب المصالح وتمرير الفرص، وهو الخطأ الذي ارتكبه ماكرون بالاصطفاف مع روسيا في أزمة ليبيا، ما جعلها في موقف ضعيف في أروقة الناتو.
رحلة البحث عن الرز
معضلة النظام المصري، في الأزمة الليبية وغيرها، أنه يعول على الغير في إيجاد حلول لأزماته، حتى أصبح مثل اللاجئ الذي ينتظر دولة تؤويه وتطعمه وتكسوه وتعلمه، وتحل له مشاكله.
ركون النظام المصري إلى وعد إماراتي بالتدخل في ملف سد النهضة مقابل الدخول إلى ليبيا لا يبدو بالحل الحاسم، أو الذي يرجى منه الكثير في ظل حالة العناد والمراوغة الإثيوبية. وهو الأمر الذي جعل النظام المصري يناور هو الآخر، آخذاً نصف خطوة للأمام نحو ليبيا بالقرار الذي صدر من البرلمان، الذي يقوم بدور أقرب إلى السكرتارية التنفيذية لأجهزة أمن النظام.
أقصى ما يمكن أن يقوم به السيسي هو تسليح القبائل كما ذكر في خطابه أمامهم، وإن فعل، فإنه يضغط على زر البدء لصوملة -أي خلق صومال جديد- الحالة الليبية.
والمتتبع لسلوك النظام المصري مع دول الخليج يعلم جيداً أن دخول السيسي إلى ليبيا قد يكون من المستبعدات، فلقد حاولت كل من السعودية والإمارات إقحام النظام المصري في سوريا لضرب المصالح التركية، وتعاون النظام مع ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، وميليشيات قوات سوريا الديمقراطية (YPG)، وأرسل بعض الضباط إرضاء للكفيل الخليجي، ثم قتل الموضوع لتنخرط الإمارات بنفسها بعد تخاذل الطرف المصري. وفي حربهم على اليمن دخل النظام المصري في التحالف العربي لدعم الشرعية، لكن رفض الدخول والزج بقواته. وفي فترة من الفترات ابتزّ السعودية بفتح حوار مع طهران. وفي حصارهم المفروض على قطر دخل النظام المصري على الخط، ومصر دولة غير خليجية، للاستفادة من الضغط، منتظراً أن ينتج عنه تسليم المعارضين المقيمين في الدوحة، لكنه في النهاية لم يقدّم شيئاً ملموساً إلا مؤتمرين صحفيين، دفع فيهما وزير خارجيته ليلتقط الصورة ويرضي القصور الخليجية.
صوملة الحالة الليبية
وفي ليبيا نستطيع أن نقرأ من خلال تسلسل الأحداث بعد الهزائم التي مني بها حفتر خلال الشهرين الماضيين، والمتمثلة في اقتراح السيسي مبادرة سلام، ثم استجلابه لبعض الوجهاء ومشايخ العشائر بشكل دراماتيكي أقرب إلى الأفلام الهندية للاستنجاد به، ثم عرضه لقواته الخاصة ومدرعاته وطائراته على الحدود مع ليبيا في المنطقة الغربية العسكرية، أنه لا تغيير جوهرياً في طريقة تعامل النظام المصري مع الضغوط الخليجية، أو في طريقة حفاظه على مصالحه؛ إذ إن أقصى ما يمكن أن يقوم به السيسي هو تسليح القبائل كما ذكر في خطابه أمامهم، وإن فعل، فإنه يضغط على زر البدء لصوملة الحالة الليبية، وهو ما لا أظنه مقبولاً دولياً. لكن في النهاية، ومع الضغط الشعبي المكبوت تحت ضغط الاقتصاد، وفشل ملف سد النهضة، لن يقدم السيسي على مواجهة تركيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.