الواقع أن ما استفزني للكتابة هو مغالاة بعض الوجوه في السيطرة على النقاشات الدائرة في وسائل الإعلام، ولاسيما التلفزيون، فزبائن التلفزيون الذين بنوا سيرة ذاتية ومسيرة مهنية من فقاعات الكذب والتدليس والمداهنة، لا يرون أي مانع ولا يشعرون بأي إحراج في ممارسة التضليل من أجل مغالطة الشعب وإرضاء الحاكم، يملكون ثروة فاحشة من الولاء والتملق، يحرصون باستمرار على إنفاقها على النظام الحاكم ورموزه، وهذا النوع من المثقفين -بين قوسين- تحدث عنهم بإسهاب باسكال بونيفاس في كتابه الموسوم بـ"المثقفون المغالطون: الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب".
وإن كان الكاتب الفرنسي يتحدث في الكتاب بشكل خاص عن المثقفين في فرنسا، إلا أن الكثير من أفكاره تنطبق دلالاتها على شريحة واسعة من المثقفين في الجزائر، يصنفهم بونيفاس في خانات متعددة، فمنهم المغالطون الذين لا يتحرون الدقة في المعلومات التي يقدمونها في وسائل الإعلام فيطرحون بأسلوب وقح أفكاراً تبتعد كل البعد عن الحقيقة ولا تعكس بتاتاً ما هو موجود في الواقع، ثم يستندون إلى حجج خبيثة هم أنفسهم لا يصدقونها، من أجل التبرير والإقناع، أو بالمعنى الأدق خداع المشاهدين والمستمعين والقراء ببضاعتهم المغشوشة.
وأسوأ من هؤلاء نجد المرتزقة، وهم لا يؤمنون بأي قضية إذا لم تكن تصب في صالحهم، فتجدهم يتبنون قضايا معينة ليس لأنهم مقتنعون بشرعيتها، بل فقط لكونها تسير في اتجاه التيار القوي والمهيمن، واللافت في هذا الصنف أنه لا يقلق ولا ينزعج من منطقه الفجّ هذا لسببين، الأول لأن خطه التفكيري مؤسس على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، والثاني لأنه في الغالب لن ينقاد للعقاب طالما أفكاره ومناهجه الدنيئة تصب في صالح التيار القوي، كما أنها –الأفكار- لا تحتاج إلى جهد؛ لأنها تبتعد عن الدقة والحقيقة.
وفي الواقع، المثير للسخرية هو أن أغلب هؤلاء المثقفين من تلامذة وزير الدعاية النازية الألماني جوزيف غوبلز ينجحون إلى حد بعيد بأسلوبهم المبني على نهج "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، في مخادعة فئة مغلوب على أمرها من الجمهور، وتحقيق مآربهم ببلوغ درجات عليا في سلم المسؤولية، ليس لامتلاكهم شهادات عليا أو مستوى ثقافياً رفيعاً بل فقط لأنهم يجتهدون للجلوس في المقاعد الأولى للبلاتوهات التلفزيونية بلباس رسمي ورابطة عنق لجذب نظر المسؤول وممارسة الزيف على المواطن المشاهد، وعلى النقيض من هؤلاء يُقصى المثقفون الذين يملكون جزءاً كبيراً من الحقيقة ويفكرون بحكمة وروية، أولئك الذين يتحرون النزاهة الثقافية والالتزام الفكري، بل تلفق لهم في بعض الأحيان التهم الجاهزة ويرمون بأقسى الصفات التي قد تصل إلى حد الخيانة والعمالة لجهات أجنبية.
والمشكلة أنه على إثر هذا الاحتلال للبلاتوهات التلفزيونية والاحتكار لمعظم المساحات المتاحة في وسائل الإعلام من قِبل الصنف المحسوب على النخبة والمحترف في صناعة الكذب والزيف، دُفعت شريحة واسعة من المواطنين الجزائريين نحو القطيعة مع وسائل الإعلام، لأن حقيقة هذا الصنف من مثقفي السلطة صارت تتكشف في عصر الوسائط الجديدة والمواطن الرقمي، فأصبح بسهولة يتم الرجوع إلى التصريحات القديمة وعقد المقارنة والتأكد من عدم ثبات المواقف والتصريحات، وبالتالي يدحض المواطن بسهولة تلك الصورة التي رسمها هؤلاء "المغالطون" عن الجمهور بأنه سهل الخداع وغير قادر على إدراك الصواب من الخطأ.. فبإمكانك أن تكذب مرة على الجميع، لكن ليس كل الوقت على الجميع!
والطامة هي أن وسائل الإعلام لا تتعامل مع هؤلاء كمثقفين أو كخبراء، فالقائمون على هذه الوسائل ينتقون هذه الطغمة التي تملك القابلية لتطبيق أجندة وتمرير رسائل الولاء للأطراف الفاعلة في السلطة تحت عباءة "المثقفين والخبراء"، فمفهوم المثقف عند القائمين على التلفزيون مختلف تماماً عن مفهومه في الواقع، وهو تحوير صارخ لدور المثقف ولدور وسائل الإعلام كذلك التي تحولت بفعل هذا الصنف إلى فضاءات لتعويم النقاشات البنّاءة وتزييف الحقائق، والهدف واحد هو اغتصاب الحشود، وفق تعبير العالم الفرنسي بيار بورديو، من أجل تمرير رسائل محددة تخدم جهات معينة.
وسائل الإعلام وجدت حسب خبراء الكذب لخدمة الفرد وليس الجماعة، تخاطب المشاعر وليس العقل، منبراً للبريستيج ومطية للوصول إلى السلطة، لا يدرك حملة الزيف هؤلاء أن رابطة اللاموقف التي يضعونها على صدورهم ويغيرون لونها كما يغيرون مواقفهم لا تغطي أبداً غابة التخبط والفظاعة التي يغرق فيها البلد، ولا تسهم بشكل أو بآخر في بلع المواطن كل الأفكار الملفقة والمشوهة التي يطرحونها، ولن تسقط هذه الممارسات الدنيئة التي يقترفونها بالتقادم، بل يقفون اليوم أو غداً أمام مسؤولية تاريخية وإجرامية في حق البلد.
والحقيقة في الأخير يجب ألا نحمل هؤلاء المغالطين وخبراء الكذب فقط المسؤولية في بناء الواقع الذي آل إليه البلد، وإنما يشترك في الجرم أيضاً أولئك المحسوبون على المثقفين من الذين فضلوا الصمت وفسحوا المجال للأغبياء لتغذية المجتمع بنقاشات فيها الكثير من التدليس والمغالطات والكذب، رغم أن الفضاء الافتراضي متاح أمام الجميع للتعبير عن الرأي وكشف الحقائق وكشف المدلسين حمّالي الزيف.. في جيدهم رابطة عنق!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.