أولوية السياسة على الاقتصاد
بعد صدور مراسيم تشكيل الحكومة الحالية بادرت الأخيرة بالدخول إلى غرفة الإنعاش عبر بوابة صندوق النقد الدولي بشكل متسرّع ودون الاستناد إلى أية معادلة اقتصادية بأرقام متناقضة ودون أدنى تصوّر منطقي يعالج مشكلة دفع الديون المتراكمة. حيث كان من المفترض أن تلحظ قبل حوارها مع صندوق النقد الدولي سبل زيادة مداخيل الدولة دون تدمير الوضع الاجتماعي الهشّ، لكن هذا الأمر غاب عن مستشاري هذه الحكومة لرغبتهم في الحصول على مسكّن مؤقت (بنادول)، متجاهلين أن الاقتصاد اللبناني في حالة انكماش ويعاني من تضخم يكبر ككرة الثلج يوماً بعد يوم، ولا فائدة ترتجى من تبني سياسة لحسّ المبرد. علماً بأن هذا الخيار لا يتناسب بمطلق الأحوال مع خيار التوجه شرقاً لأنه من المستحيل طرق باب طهران وباب صندوق النقد الدولي في نفس الوقت بل إما هذا أو ذاك.
وفي خطتها الإصلاحية خطت هذه الحكومة خطى أسلافها، حيث اعتمدت المحصاصة في الوظائف وحافظت على الهدر في الكهرباء وبقي التهريب دون جمارك. وفي خطتها الاقتصادية يبدو أنها تسير نحو الشرق حيث المحاذير شتى:
أولها: أنه لا يمكن في زمن المجاعة أن تكون الأولوية للسياسة على الاقتصاد مهما كانت القضية التي تملي هذا التوجه عادلة لأنه من سيحتفل بالنصر بعد انكفاء الكباش الأمريكي الإيراني إذا ما حصل لن يكون على قيد الحياة في لبنان، حيث إن المجاعة ستختطف روحه قبل أن يزفّ خبر النصر هذا.
وثانيها: أنه لا يمكن أن يكون الشعار في زمن المجاعة (إما الممانعة وإما الموت) كما كان شعار فيديل كاسترو (إما الاشتراكية وإما الموت) لأنه من المعلوم أن لبنان بحاجة إلى العملة الصعبة لتسيير اقتصاده ومعيشة سكانه بشكل سليم، ومن المعلوم أن مصدر تلك الأموال كان يأتينا من القروض والمعونات الخارجية والاستثمارات الأجنبية في مجال المضاربة نتيجة جنة الفوائد التي قدمها المصرف المركزي لسنوات طوال، إضافة إلى تحويلات المغتربين والعاملين في الخارج والسياحة وتصدير بعض الفواكه والخضار وبعض السلع الصناعية. إن تعداد هذه الموارد للعملة الصعبة ليس الهدف منه إلا التذكير بأن هذه الإيرادات قد نضبت بمعظمها لأسباب مختلفة، ومنها أن حزباً لبنانياً تأسس كمقاومة، تخلى عن مهمة تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة من قبل إسرائيل وانتقل إلى التدخل العسكري في دول الجوار كوظيفة إقليمية لصالح مشروع ليس للبنان والعرب فيه لا ناقة ولا جمل.
وثالثها: لا يمكن في زمن المجاعة الاكتفاء بتأمين ظروف بقاء الحاضنة الشعبية لأي حزب أو فئة أو مذهب ورمي باقي المواطنين لأقدارهم الخاصة، لذلك لا يمكن المراهنة على دول تمزقها حروب داخلية وحصار خارجي مزمن مهما كانت تلك الدولة حريصة على بلدنا، لأن حجم مشاكلها يفوق قدرتها على إنقاذ شعوبها، فكيف نثق بقدرتها على إعادة لبنان إلى حياته الطبيعية. حتى أن المراهنة على الصين ستكون مخيبة للآمال ومضيعة للوقت لأن الصين لا تقدم الهدايا بل تستنزف الدول التي تدخلها، والمثال على ذلك الدول الإفريقية التي تعاملت مع الصين بدأت تترحم ليس على الاستعمار الفرنسي أو الإنجليزي بل حتى على الغزو الإسباني البرتغالي مؤسس عهد العبودية الحديثة أمام ما تتعرض له من جشع صيني لا يرحم.
أولوية الاقتصاد على السياسة
بعد أن استعرضنا خيار أولوية السياسة على الاقتصاد الذي ينتهجه الحكم في لبنان لا بد من إلقاء الضوء على خيار أولوية الاقتصاد على السياسة كخيار بديل، وقبل ذلك لا بد من استعراض نموذجين كمثال، النموذج اليوناني والنموذج الأيسلندي.
النموذج الأول اعتمد على وصفات البنك الدولي خلال معالجة أزمته، والثاني رفض معايير البنك الدولي، وفي كلتا الحالتين تجاوزت اليونان وأيسلندا أزمتيهما بشكل مقبول لكن بأثمان مختلفة، والشطر الأساسي في الأزمة كان العجز عن تسديد الديون الخارجية، وهذه حالة لبنان اليوم فكيف حصل ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن صندوق النقد الدولي يرتكز على نظرية هايك -فريدمان في شروط منحه قروضاً للدول المتعثرة، وهذه النظرية تعتبر أن الحكومة هي المشكلة ويجب التخلص منها عبر تقليص دورها في الاقتصاد حتى إلغائه لصالح القطاع الخاص والمبادرة الفردية، كذلك تعتبر هذه النظرية أن لا شيء اسمه المجتمع بل هناك أفراد مرمين في السوق، لذلك تدعو هذه المدرسة إلى سياسات التكيف الهيكلي وتحرير السوق والخصخصة وتقليل الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية، وبذلك ينحسر دور الدولة إلى حد أدنى، وهذا هو على عكس مدرسة كينز التي تعطي الدولة مسؤولية التدخل في الاقتصاد لحمايته من خطر الركود.
عندما عالجت اليونان نفسها طبقت وصفة هايك – فريدمان المقترحة من قبل صندوق النقد الدولي، فعاش اليونانيون حقبة طويلة من التقشف المؤلم ما أدى إلى هجرة الأدمغة وتفشي المشاكل الاجتماعية المختلفة بينما على العكس تماماً عالجت أيسلندا نفسها بعدم تبني وصفة صندوق النقد الدولي بل لجأت إلى تأميم المصارف وإدارة الاقتصاد مباشرة فخرجت من أزمتها بأقل الخسائر، حتى قيل إن ما حصل هو معجزة.
تختلف أزمة لبنان عن أزمتي اليونان وأيسلندا في معظم الأسباب لكن ما يجمع ما بين البلدان الثلاثة هو اعتمادهم بشكل أساسي على قطاع الخدمات كمورد للعملات الصعبة، لكن هذا التشابه تتبعه فروقات في موقع هذه الدول الجيوسياسي، فاليونان مثلاً عضو في الاتحاد الأوروبي أي أنها تقع تحت رعاية نظام إقليمي متين، وأيسلندا تقع في نظام إقليمي مستقر حيث لا صراعات هوية فيه ولا بحث عن كرامة مفقودة. بينما لبنان على العكس تماماً إذ يقع على خطوط زلازل سياسية وحروب أهلية وعلى حدوده دولة عدوة تتربص به، لذلك لا يمكن استنساخ أي تجربة بعينها بل يجب البحث عن صيغة خاصة به للخروج من أزمته لا تكون الأولوية فيها للسياسة على الاقتصاد، ولا الأولوية فيها للاقتصاد على السياسة، بل طريق وسط يتطلب إجماعاً وطنياً يراعي هواجس الجميع وليس طموحاتهم، حيث إن السياسة هي فن الممكن بالتعريف أي يصح التيمم في حال فقدان الماء.
الطريق الوسط
قبل بلوغ الانقسام العمودي بين الأطراف السياسية الفاعلة حده الأقصى، لا بد من إيجاد أرضية مشتركة توقي لبنان من الانهيار المريع، لذلك من واجب المصارف التجارية ومصرف لبنان والحكومة الحالية نيابة عن الحكومات السابقة المجاهرة بمسؤوليتهم عن الانهيار المالي والنقدي الحاصل، خصوصاً أنه من واجب هذه الحكومة أولاً أن تعلن مسؤوليتها عن الماضي لأن الحكم استمرارية ولا يمكنها التنصل برمي المسؤولية على أسلافها لأنها بذلك تقضي على مفهوم حيادية الدولة وتفقد شرعيتها في أن تلعب دور الخصم والحكم، هذا الدور الذي لا غنى عنه كخطوة أولى لا بد منها.
وحسناً فعلت هذه الحكومة يوم توقفت عن دفع أقساط ديون الدولة الخارجية المستحقة ودعت إلى جدولتها من جديد، لكن هذه الخطوة ليست كافية بحد ذاتها بل يجب أن يتبعها تأميم البنوك التجارية التي خالفت أبسط قواعد الأمانة بحجز أموال المودعين بعد أن وظفتها دون تقدير المخاطر الناجمة عن ذلك، وهذا في دولة القانون عمل جنائي بامتياز أي عملية سطو واختلاس منظم، وهذا بحد ذاته سبب كافٍ لتأميمها إضافة إلى عدم القيام بدورها الطبيعي المنوط بها وفقاً للقانون، حيث كانت تمارس دور المرابي لسنوات طوال، وهذا السلوك لم يكن ناتجاً عن مبادرة فردية بل بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان والدولة ممثلة بأمراء الطوائف من خلال الحكومات السابقة، فلو أن لبنان بالفعل كان دولة قانون لكان الحل لمشاكله هو الاحتكام إلى القضاء وبالتالي ستمتلئ السجون بالوزراء والنواب والرؤساء ومالكي المصارف، خصوصاً مهندس السياسات المالية حاكم مصرف لبنان، لكن ذلك كان سيؤدي حتماً إلى فراغ في السلطة والدولة، وهذا ما لا يسمح به الأمراء.
والهدف من تأميم المصارف التجارية يجب ألا يفهم على أنه عبارة عن عمل انتقامي أو بهدف التخلي عن النظام الاقتصادي الحر، بل الهدف منه إعادة رسملة المصارف عن طريق الدولة وليس من جيوب المواطنين عبر رفع القيمة المضافة وأسعار المحروقات وغيرها من التدابير الموجعة، وليس من حسابات المودعين بالتأكيد، فمن خلق هذه الكارثة يجب أن يتحمل ثمن الخروج منها، وهذا ما فعلته أيسلندا وخرجت من أزمتها بما يشبه المعجزة، لكن وللأسف الشديد هناك من يربط ما بين تأميم المصارف وتهجير المسيحيين من لبنان دون وجه حق أو منطق سليم، وهناك من يربط بين تأميم المصارف والاشتراكية لكن التأميم هو خيار رأسمالي لجأت إليه دول عدة وعلى رأسها الولايات المتحدة مثلاً، ومن تجربة أيسلندا وحدها يمكن التحقق من أن التأميم الذى حصل فيها حفظت خلاله حقوق الجميع بمن فيهم أصحاب البنوك المؤممة، وعادت هذه البنوك إلى عهدة القطاع الخاص بعد سنوات قليلة، ما يؤكد أن هذا التأميم هو تدبير تقني بحت لا لبس فيه وهدفه الحقيقي هو عودة المصارف إلى دورها الطبيعي في خدمة الإنتاج وليس كمنصة للمضاربات وجني الربا الفاحش.
شرط أن يتم هذا التأميم والخصخصة اللاحقة عبر الدولة يؤازرها في ذلك جهة موثوقة ومحايدة كي لا يسطو أمراء الطوائف وحاشيتهم المسماة حواضن شعبية على الأخضر واليابس. ومن الخطوات المؤلمة أيضاً أنه لا بد من تحرير سعر صرف الليرة، حيث إن تمسّك البنك المركزي بتثبيت سعر صرفها دهراً من الزمن أدى إلى المبالغة في القدرة الشرائية لها لذلك لا بد من التصحيح، لكن توقيت هذا التصحيح يجب أن يراعي الوضع المعيشي للناس بتأمين شروط بقائهم على قيد الحياة، لكن من يقوم بتحريك السوق السوداء هدفه تحرير سعر الصرف بشكل يهمّش دور الدولة في عملية التصحيح، ومن يرجع سبب انهيار الليرة أمام الدولار إلى تهريب الدولارات إلى سوريا هو نفسه مَن جمّد واختلس حسابات المودعين السوريين في المصارف اللبنانية التي تربو على 40 مليار دولار بأقل تقدير. هذه الأكاذيب لم تكن لتنطلي على أحد لو أن اللبنانيين على قلب واحد، لكن القلوب شتى في ظل مذاهب وطوائف متنافرة.
وخلال عملية تصحيح المعادلة في سعر الصرف لا بد من اعتماد ميزان التجارة الخارجية كمؤشر لمقاربة أولية، حيث يعكس هذا الميزان موقع أي دولة في تقسيم العمل الدولي، وفرضية التسعير هذه تقوم على صفرية هذا الميزان، حيث يفترض أن تتعادل قيمة الصادرات مع قيمة الاستيراد، أي في حالة لبنان مثلاً في عام 2019 بلغت قيمة الصادرات 3.9 مليار دولار بينما بلغ حجم الاستيراد 19.2 مليار دولار وبقسمة حجم الاستيراد على حجم التصدير يتبين لنا أن القدرة الشرائية لليرة اللبنانية مبالغ فيها بما يقدر بـ5 أضعاف قيمتها الحقيقية نتيجة سياسة مصرف لبنان الخاطئة. وسعر الصرف الناتج عن هذه المعادلة البالغ 7500 ليرة مقابل الدولار هو الحد الأعلى لتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، وبترشيد الاستيراد تنخفض قيمة سعر الصرف إلى أرقام أدنى أي أن ما يحدث من فوضى في السوق هو تلاعب ناتج عن جشع وليس عن معطيات اقتصادية. ومهما بلغ سعر الصرف خلال التصحيح وبالتلازم معه على الدولة تصحيح رواتب وأجور العاملين في القطاعين العام والخاص بما يبعد شبح الجوع عنهم أو حياة التقشف الأبدي.
ومن التدابير الملحة أيضاً إصدار بطاقة تموينية لسلة مواد غذائية تؤمن حياة لائقة لكل الللبنانين على أن تتولى الحكومة تأمينها مباشرة أو عبر تكليف القطاع الخاص بذلك شرط مراقبته بشكل جدي وذلك بدلاً من إعطاء بعض التجار دولارات للاستيراد وحرمان آخرين منها، وبشكل ملح أيضاً لا بد من تأسيس نظام الرعاية الاجتماعية لحماية العاطلين عن العمل، وذلك بدلاً من توزيع إعاشات مالية كأن الدولة صندوق صدقات حيث بات واضحاً أن أغلب هذه المساعدات لا تصل إلى مستحقيها بل هي مجرد رشاوى لها أبعادها السياسية.
أما سياسياً فعلى الجميع التزام سياسة النأي بالنفس والعودة إلى الانخراط مجدداً في الصراع العربي الإسرائيلي بدلاً من التمسك بدور إقليمي خارج حدودنا الوطنية، وعلى الأطراف الأخرى ألا تراهن على الضغوط الأمريكية على لبنان، ظناً منهم أن هذا سيحسن مواقعهم في السلطة.
وبغض النظر عما ستؤول إليه هذه الأزمة، لم يعد ممكناً للبنان أن يرقص على حبل التكاذب في الداخل وحبل التذاكي على الخارج لأن هذين الحبلين قد انقطعا وإلى الأبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.