يبكي العراقيون دماً لا دمعاً باستشهاد الخبير الأمني والاستراتيجي الأعظم وسط مطالبات بالقصاص لقاتليه ومحاسبة الميليشيات المسلحة التي تسيطر على الحكومة العراقية منذ عام 2003، وتصاعدت المناشدات التي حمّلت الدولة مسؤولية الانفلات الأمني، وانتقد الشعب سلوكيات الأحزاب الحاكمة التي هدرت دم مشروع الكلمة الحُرة هشام الهاشمي.
سيقتلوننا بالرصاص وسنقاومهم بالفكر
عندما قابلت معلمي الكبير في شارع المتنبي وسط العاصمة بغداد، جلسنا في إحدى المكتبات القديمة وسألتهُ قائلاً: "يا أستاذي كيف نرد على التهديدات التي يرعبوننا بها كلما نطقنا بالحقيقة، كلما تحدثنا بجرأة يكتنفها الخوف؟".
أجابني مبتسماً بكل تواضع: "محمود أنت مثل ابني عيسى، أنصحك بالحذر لكن لا تسكت، فالسكوت لا يصنع التغيير، والتضحية من شيمة الرجال، سنموت ربما، لكن ستبقى كلماتنا خالدة تنير دروب الأحرار لواقع أفضل لبغداد وهذا العراق الجريح".
سألته: "لكن يا أستاذي سيقتلوننا وتنتهي قصتنا"، فأجابني: "نعم سيقتلوننا بالرصاص وسنقاومهم بفكرنا واعتدالنا، وسيبقى صوت الحرية مدوياً، ولن تضيع دماؤنا ما دمنا نتنفس الحرية.. لكن كن حذراً فالغدر جبان وضميره ميت.. تذكر يا محمود أن الشعوب ستترحم علينا إن غادرنا الحياة.. لكن إياك أن تصمت وإياك أن تتوقف عن مناصرة بلادك".
"واليوم ها أنا أودعك يا معلمي بدموع حزينة، وأعاهدك بأن شبابك سيكملون المسير ولن يضيع دمك الغالي أبداً.. يا معلمي لا عزاء لنا اليوم.. ولا نامت أعين الجبناء الذين قتلوا عمي الشهيد خالد عثمان في الموصل عام 2007 لأنه كشف الحقائق وحرر المعتقلين وأنشأ المنظمات الحقوقية للدفاع عن المظلومين، واليوم قتلوك أنت أيها الحُر. وها أنا مجدداً أتذكر التاريخ الأليم".
لحظات الاغتيال
عاد الشهيد إلى بيته في منطقة زيونة وسط العاصمة بغداد ليلاً، فكان بانتظاره القاتل على دراجة نارية، فعندما وصل هشام الهاشمي وركن سيارته، ركض نحوه القاتل الملثم وأطلق الرصاص برشاشه فلم تخرج الرصاصات، فاستبدل السلاح بالمسدس وضرب الشهيد بأربع رصاصات من نافذة سيارته.
يُذكر أن هشام الهاشمي تلقى رسالة تهديد من زعيم كتائب حزب الله العراقي المدعو "أبوراتب العسكري" قبل أيام على اغتياله، ووفقاً للمصادر الأمنية التي أشارت إلى أن ثلاثة مسلحين يقودون دراجات نارية اعترضوا سيارة الهاشمي وأطلقوا النار مباشرةً في منطقة الرأس والصدر، ونُقل بعدها إلى مستشفى ابن النفيس حيث استُشهد هناك.
كتائب حزب الله العراقي متورطة
وثائق وتسريبات ظهرت بعد مقتل الخبير في الجماعات المتشددة، وقد كشفت المصادر أن المسؤول الأمني لميليشيا كتائب حزب الله، أبوعلي العسكري، دأب على تهديد هشام الهاشمي، وقال له حرفياً في آخر رسالة تهديد عبر الهاتف: "سوف أقتلك في منزلك".
وشخصية أبوعلي العسكري غير معروفة حتى الآن، لكن وسائل الإعلام العراقية تتعامل مع حسابه على تويتر على أنه ممثل لميليشيا كتائب حزب الله في العراق.
وبعد تهديد العسكري لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على خلفية اعتقال عناصر من حزب الله، تحدث المحلل هشام الهاشمي على قنوات تلفزيونية، وقال: "إن القدرة العسكرية والقانونية والمالية متوفرة للكاظمي إذا أراد، لكنه لا يمتلك إرادة سياسية كافية لإنهاء تمرد وتحدي الفصائل".
الأمر الخطير هو بعد تسريب خبر عملية الاعتقال، انتشر المئات من عناصر ميليشيا كتائب حزب الله في شوارع بغداد وجابوا بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة الأحياء القريبة من المنطقة الخضراء حيث مقر البرلمان وبيوت المسؤولين.
وذكرت الصحفية اللندنية "الإندبندنت" عبر تقرير قالت فيه: "كتائب حزب الله هي التي اغتالت هشام الهاشمي بعد أن علمت أنه هو مَن سرّب للكاظمي المعلومات حول خلية الكتائب التي كانت تستعد لقصف المنطقة الخضراء بصواريخ الكاتيوشا، ولذلك تم وضعه على قائمة الاستهداف".
دموع عيسى وأمه على فراق الشهيد
كان مشهداً مؤلماً عاشه ابن الشهيد المغدور عيسى الطفل الذي راقب أباه المنخور بالرصاص في رأسه وصدره، حيث أخرج جيران المنطقة هشام الهاشمي من سيارته ووجهُ ملطخٌ بالدماء. فكان عيسى يبكي بحرقة على أبيه ولم ينطق بأي كلمة لأنه لم يدرك حينها أنه اللقاء الأخير.
كان ذلك وسط آهات حزينة من زوجة هشام الهاشمي التي كانت تشاهد جثمان زوجها الذي نُقل على الفور إلى مستشفى ابن النفيس حيث ودّع أحبابه وفارق الحياة، فما كان لزوجة الشهيد إلا أن تقول لا عزاء لنا اليوم فقد رحل الشهيد بضريبة كلمة الحق التي كان ينطقها في وجه القتلة الذين لطالما هددوه لأنه كشف عن الحقائق والقضايا السرية وتحدث عنها بشجاعة.
وقفة تضامنية في ساحة التحرير
تجمع الآلاف من محبي هشام الهاشمي في ساحة التحرير وسط بغداد وأشعلوا الشموع استذكاراً لمواقف الشهيد العظيمة تجاه المظلومين ومطالباته العديدة بإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية في العراق. حيث رفع المحتجون صوراً ولافتات تطالب الحكومة بملاحقة المجرمين الذين أسكتوا صوت الحرية والتغيير، مشددين على إنهاء مسلسل القمع والاغتيالات التي طالت أبرز المناصرين لحقوق الشعب.
ماذا كانت ضريبة قتل الهاشمي؟
كان لدى الخبير الأمني والاستراتيجي هشام الهاشمي ملفات وبحوث استقصائية تكشف عن ملفات الفساد وتهريب النفط وبيع السلاح، بالإضافة لانتقاده المحاصصة الحزبية وتوزيع المناصب والوزارات بشكل غير عادل. بالإضافة لامتلاك الهاشمي معلومات سرية عن القناصين التابعين للحرس الثوري الإيراني وكتائب حزب الله العراقي الذين تورطوا بقتل المتظاهرين في ثورة أكتوبر/تشرين الأول عام 2019.
قتلوا الرجل المناضل غدراً وكانت الميليشيات تدرك تماماً أهمية الهاشمي في عملية الإصلاح والتغيير. لذلك أصروا على أن يكمموا الأفواه ويسكتوا الأصوات المنادية بالحرية والعيش بكرامة. فأحزاب السلطة لم تستطع إغراء الهاشمي بالمناصب التي رفضها بشكل قاطع. وعليه لم يكن لديهم سوى أن يحركوا مرتزقتهم ويدفنوا كلمة الحق برصاصات الإرهاب.
المتنفس الوحيد للحقائق
هشام الهاشمي كان يمثل صمام الأمان للمحكومين بالإعدام في السجون من الشباب الذين طالبوا بحقوقهم لنيل الحرية، كان الشهيد أيقونة وطنية عابرة للطائفية، فلطالما دافع عن المعتقلين والمغيبين، ولطالما كشف ملامح الدولة العميقة التي تعمقت بتدخلاتها في مؤسسات الدولة، وظهر في الشاشات معلناً ثورة فكرية مهنية مستندة إلى المعلومات والوثائق التي تثبت تورّط المسلحين وانتهاكهم لحقوق الشعب العراقي.
اغتيال الهاشمي يمثل رسالة تهديد جريئة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ولرئيس الجمهورية برهم صالح ولرئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وهي بمثابة وعيد إرهابي خطير للشباب المناضلين والمناصرين لقضايا البلاد.
قدمت الميليشيات المسلحة رسالة بدماء رجل بريء، رجل لطالما قادته الحماسة للدفاع عن العراق، فقد انتشر صداه على الشاشات وفي المواقع الإلكترونية ومراكز البحوث والدراسات، متحدثاً ومصوباً وجاداً في التقصي عن الحقائق. رجلٌ قادته بداياته الإسلامية إلى خصومة مريرة مع ماضيه، ورجل راح يحذر العراق وسلطاته من أن "داعش" ما زال مقيماً هناك في الصحراء، وأن انبعاثه مسألة وقت طالما أن المذهبية ما زالت تصنع حاضر العراق، وأن الفساد والمحاصصة خلّفا وراءهما جوعاً سيسهل على التنظيم توظيفه. يُضاف لذلك انتقاده الشديد لممارسات إيران وتدخلاتها بشؤون العراق ونهبها نفط وخيرات العراق، علاوةً على ذلك، كان الهاشمي يمتلك ملفات حساسة بخصوص القادة العسكريين ممن ينتمون للميليشيات المسلحة، والذين يسيطرون البنوك والمشاريع الاستثمارية ويهربون السلاح لإيران. وعليه هدر مرتزقة إيران دمه وقتلوه أمام بيته تحت أنظار أطفاله.
قال كلمتهُ ورحل..
قتلوا الرجل الشغوف ببغداد وبأهلها وبعمارتها ونهرها الكبير، وبالكرخ والرصافة. الرجل الذي أعد العدة ليدهشنا بمدينته التي لطالما طردته منذ أيام صدام حسين المستبد وصولاً إلى بغداد نوري المالكي الظالم وأتباعه الفاسدين، ومروراً ببغداد أبي بكر البغدادي الذي كان يواجه الهاشمي ويهدده بالقتل كلما فضح تحركات تنظيم داعش الإرهابي.
دفع الشهيد هشام الهاشمي ثمناً باهضاً كي نكمل المسير، كي نقود نحن الشباب مسيرة الإصلاح بلا خوف، كتب بلسان حال الشعب العراقي الجريح، هذا الشعب الذي لا ينفك عن مفارقة المصائب عاماً تلو الآخر. كتب كلماته الأخيرة مودعاً أحبابه وشبابه المخلصين قائلاً: "في النهاية.. الظالم يبقى وحيداً، ولا ترافقه إلا لعنة المظلومين، ولن تبكي عليه السماء ولا الأرض".
هشام الأستاذ والمعلم والمشروع الإصلاحي العظيم كان رحلتنا الأخيرة إلى بغداد، وكان معرفتنا الأخيرة بها. وها هي مدننا تستأنف قتلنا، وها نحن أيها الخالد نتحول إلى رسائل في أكفان الشهادة، نتجول بين بغداد والموصل والبصرة والعراق بأكمله.. وداعاً يا معلمي وداعاً موجعاً لا يليق بمواقفك المشرفة تجاه العراق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.