"أرى اليوم أن تركيا تُمارسُ لعبةً خطيرة في ليبيا، تُناقض كل الالتزامات التي أعلنتها في مؤتمر برلين"
الجملة المفتاح التي ردَّدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حديقة قصر الإليزيه، في إطار الندوة الصحفية التي جمعته بالرئيس التونسي قيس سعيد، بمناسبة زيارة العمل والصداقة التي قام بها الأخير إلى باريس بداية الأسبوع.
هذه العبارة تصبُّ في استراتيجية فرنسا في ليبيا، والتي تقوم على محاولة تقوية موقفها، عبر استمالة الدول المجاورة (دون اعتبار مصر التي تمثل حليفاً أساسياً لفرنسا). حاولت باريس في الأسابيع الماضية -بحسب مانشره موقع mondafrique- إقناع الجزائر بخطورة الدور التركي في ليبيا، وضرورة التنسيق المشترك للتصدي لهذه النزعة الإمبريالية، لكن دون تفاعل إيجابي يذكر من قصر المرادية.
بالأسلوب ذاته حاول ماكرون استدراج قيس سعيد وإحراجه، الأمر الذي أكده موقع "مغرب إنتليجنس" الاستخباراتي الفرنسي، الذي أكَّد أن الرئيس الفرنسي تعمَّد مهاجمة تركيا بحضور نظيره التونسي قيس سعيد، في الإليزيه، لاسيما تعبيره عن الغضب حيال الحادث البحري الأخير بين البلدين، على بُعد 200 كيلومتر من الساحل الليبي، عندما اضطرت الفرقاطة الفرنسية كوربيه للتراجع تحت تهديد نظيرتها التركية أوروكريس.
غاية ماكرون كانت انتزاع موقف رسمي تونسي يُدين التدخل التركي في ليبيا.
فكيف تعامَل الرئيس التونسي مع الفخّ "الماكروني"؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال وجب علينا العودة بتقنية الفلاش باك لمعرفة طبيعة علاقة الإدارة الفرنسية بأستاذ القانون الدستوري "المغامر"، الذي فأجأها بالفوز في الانتخابات الرئاسية التونسية الخريف الماضي.
فرنسا وقيس سعيد.. محاولة الاحتواء
الرئيس الغامض… هكذا وصف الإعلام الفرنسي الرئيس التونسي قيس سعيد، الظاهرة السياسية التي اكتسحت الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية، يوم 13 أكتوبر/تشرين 2019، بـ73% من أجمالي أصوات الناخبين.
نتيجة أثارت حفيظة باريس حينها باعتلاء مترشح مغامر في تونس لسدة الحكم، دون تزكية فرنسية، بل إنه قد راوغ رادارات سفارتها ومراكز دراساتها ومعاهد استطلاعات الرأي، مع شبهات "المحافظة الدينية" التي تلاحقه، والتي تمثل حساسية مفرطة لفرنسا.
اعتبرت مجلة لوبوان الفرنسية، في مقال لها الأسبوع الماضي (قبل أيام من زيارة سعيد لفرنسا)، بقلم مراسلها في تونس بنوا دالما، اعتبرت أن الإليزيه وجه الدعوة للرئيس التونسي مباشرة بعد عرض لائحة برلمانية، منتصف شهر يونيو/حزيران، على المجلس النيابي، لمطالبة فرنسا بالاعتذار على حقبة الاستعمار، الأمر الذي تزامن مع خسارة المشير المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من باريس والمقرب من وزير الخارجية جون إيف لودريان، الذي يراهن على ميليشيات الشرق لبسط السيطرة على ليبيا، التي تُمثل سوقاً مستقبلياً للشركات الفرنسية في مرحلة إعادة الإعمار، علاوة على مراهنة فرنسا على العمق الليبي جنوباً، الذي يُمثِّل بوابة إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الساحل.
لوبوان اعتبرت أن زيارة الرئيس التونسي لباريس مهمة جداً لإزالة الغموض الذي يكتنف شخصيته وتوجهاته منذ فوزه في الانتخابات، علاوة على اكتشاف توجهاته الدبلوماسية، وموقفه من فرنسا، ثم محاولة احتوائه باعتبار أن تونس تبقى الأمل الوحيد لباريس في شمال إفريقيا، مع انحسار دورها في ليبيا، وموقف الجزائر المتصلب تجاه الإدارة الفرنسية بقيادة ماكرون، خاصة بعد فوز عبدالمجيد تبون، المعروف بنزعته السيادوية.
ارتباك قيس سعيد، دبلوماسية مفرطة أثارت حفيظة الليبيين
كما أسلفنا القول، فإن ماكرون لم يُمهل قيس سعيد كثيراً في زيارته، حيث باغته في بدايتها بتصريحه المعادي لتركيا، في محاولة لاقتلاع موقف تونسي مُتماهٍ مع الموقف الباريسي، خاصة بمنطق الترغيب، عبر حزمة الوعود الاستثمارية التي تعهّدت بها فرنسا لمساعدة تونس، التي تعيش ظروفاً اقتصادية واجتماعية صعبة.
تفاعُل الرئيس التونسي كان دبلوماسياً، حيث أكد في كلمته على ضرورة أن يكون الحل في ليبيا "ليبيّاً- ليبيّاً"، مُجدِّداً رفض تونس تقسيم الجارة الشرقية، واعتبر سعيد أن السلطة القائمة في ليبيا تقوم على الشرعية الدولية (حكومة الوفاق)، مستدركاً بالإشارة إلى أن هذه الشرعية لا يمكن أن تستمر باعتبارها شرعية مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة تنبع من إرادة الشعب الليبي، مشيراً إلى مبادرته السابقة بتجميع 35 من زعماء القبائل الليبية في قصر قرطاج، ودعوتهم لوضع دستور على شاكلة الدستور الأفغاني.
تصريحات سعيد -مع دبلوماسيتها ومحاولتها ترسيخ مبدأ الحياد التونسي- لم تَرُقْ لقياداتِ حكومة الوفاق في طرابلس، حيث قال رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، خالد المشري، في مؤتمر صحفي، إن القبيلة في ليبيا مظلة اجتماعية، وليست طرفاً سياسياً، ولا يمكن تطبيق التجربة الأفغانية في البلاد.
وقال المشري: "تصريحات رئيس الجمهورية التونسية عن دستور تكتبه القبائل أمر غير مقبول، ولدينا مشروع دستور أعدته لجنة الستين"، مضيفاً: "دستور ليبيا تكتبه هيئات وليست قبائل، وبعض مَن استقبلهم الرئيس التونسي لديهم جرائم تحريض وخطاب كراهية ضد الثورة"، مؤكداً على أن "السلطات القائمة في طرابلس هي نتيجة التوافق بين الأطراف الليبية".
وفي السياق ذاته، أعرب المشري عن استغرابه لتجنب الرئيس التونسي الإشارة إلى انقلاب حفتر على الإعلان الدستوري.
تصريحات قيس سعيد الدبلوماسية أثارت حفيظة عديد الأطراف في تونس، واعتبروها اصطفافاً غير مباشر وراء الموقف الفرنسي، وهي رسالة تلقفها رئيس الجمهورية؛ إذ حاول توضيح موقفه في حوار أجراه مع صحيفة "لوموند"، حيث أكد أنه لا يشارك فكرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الوضع في ليبيا، بضرورة التصدي للدور الخطير الذي تلعبه تركياً، معتبراً أن الأزمة الليبية تخص الشعب الليبي أساساً، مع ضرورة احترام الشرعية الدولية، مشيراً إلى أن موازين القوى تغيّرت بدخول المرتزقة الروس في الحرب، وهو ما أعلن رسمياً عن بداية صراع بين إمبراطوريتين عالميتين؛ روسيا و أمريكا.
واعتبر سعيد في الحوار ذاته أن تونس تؤكّد على رفض تقسيم ليبيا، وتعتبر أن الحل يجب أن يكون ليبيّاً- ليبيّاً، بصياغة دستور يجمع كل الليبين، مؤكداً على أن تونس كانت ومازالت أكبر المتضرِّرين من الأزمة في جارتها الشرقية، على المستويات الأمنية والاقتصادية، وحتى السياسية، بانقسام المواقف بين الأحزاب بين داعم للمعسكر الشرقي وآخر داعم للمعسكر الغربي.
زيارة الرئيس التونسي كانت -حسب أغلب المتابعين- زيارة "أخفّ الأضرار"، حيث حاول الموازنة بين المقاربة التونسية الدبلوماسية التي تقوم على الحياد الإقليمي من جهة، وعدم استعداء اللاعب الفرنسي، الذي مازال فاعلاً في تونس بشكل أو بآخر، مع تغلغله في دوائر صناعة القرارات، عبر جماعات ضغطه ولوبيّاته المالية من جهة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.