الليلة الفاصلة بين 3 و4 يونيو/حزيران، لم تكن ليلة عادية في تونس، نعم لم تكن ليلة انقلاب موحشة انتهت بتلاوة البيان رقم واحد عبر التلفزيون الرسمي ولم يجتح فيها مشير مغامر ببزّة عسكرية، تخضّبت "بيّادته" بالدماء مبنى البرلمان على ظهر دبابة.. لكنّها كانت ليلة "سكاكين طويلة" في مجلس النواب التونسي، تجنّدت فيها فلول "الحرس القديم" مع القوميين واتّحدت في محاولة لضرب رمزية رئيس البرلمان راشد الغنوشي وفي مرحلة ثانية، سحب الثقة منه تحت سقف الدستور الذي أرغمتهم الثورة التونسية، على الاعتراف به كرهاً.
الجلسة استمرت 27 ساعة متواصلة..
جلسة حوار حول الدبلوماسية البرلمانية على خلفية لائحة تقّدم بها الحزب الدستوري الحرّ (فلول النظام القديم) وهو حزب يميني شعبوي متطرّف يتبنّى خطاب إقصاء الإسلاميين تحصّل على 17 مقعداً في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، (من إجمالي 217)، على خلفية تهنئة رئيس البرلمان راشد الغنوشي لفائز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، بعد تحرير قاعدة الوطية الجوّية على تخوم العاصمة طرابلس، في مكالمة هاتفية أثارت الجدل واعتبرها خصوم الغنوشي تدخّلاً في الصلاحيات الدبلوماسية لرئاسة الجمهورية، وانحيازاً واضحاً لمحور إقليمي دون آخر في ليبيا.
الجلسة انطلقت بصياغة الدستوري الحر للائحة تدين التدخل التركي في ليبيا، حيث كانت بصمة أبو ظبي جليّة في محتوى اللائحة المنحازة لمحور الثورات المضادة بعد هزائمهم الميدانية في ليبيا، قبل أن تعاد صياغة اللائحة بشكل مخاتل؛ نزولاً عند طلب بعض النوّاب والكتل البرلمانية في إطار المطالبة بإدانة التدخل الأجنبي دون استثناء أو حصر.
اللائحة المذكورة لم تكن سوى حصان طروادة لتشكيل تحالف برلماني جديد يضمّ كل مكوّنات أحزاب المنظومة القديمة وحركة الشعب القومية (حركة ناصرية تعادي حركة النهضة الإسلامية لأسباب إيديولوجية وتاريخية) في إطار أغلبية برلمانية تعيد دفّة القيادة إلى المنظومة، بعد نتائج الانتخابات التي رجّحت نسبياً كفّة الأحزاب الثورية.
الجلسة الصاخبة بثّتها الأذرع الإعلامية الإماراتية مباشرة، وتم تسويقها على أنها جلسة مساءلة لزعيم "الإخوان" في تونس والتي كانت عصارة أسابيع طويلة من الشحن الإعلامي الإماراتي ضد رئيس حركة النهضة والتنسيق مع خصومه في تونس لتشكيل مشهد سياسي جديد يمتلك فيه وكلاء أبوظبي أوراق اللعبة السياسية ثم عزل الإسلاميين برلمانياً وحكوميّاً وهو الحلم الذي يراود أبناء زايد في تونس، التي تحوّلت تجربتها الديمقراطية الناشئة إلى كابوس يقض مضاجعهم وينغّص عليهم نشوة انتصاراتهم في مصر والشرق الليبي.
ثنائية "الحرس القديم والتيار القومي" هل تتفاعل كيمياء الانقلاب الجديدة في تونس؟
بعد 10 سنوات من الثورة في تونس، تأكّدت أبوظبي من استحالة "عسكرة" تونس وفق السيناريو الكلاسيكي الذي يقوم على دعم جنرال عسكري متعطش لشبق السلطة، على غرار ما حصل في مصر صيف 2013 باعتلاء المشير السيسي لسدّة الحكم في المحروسة بعد انقلاب دموي انتهى بإجهاض الثورة واجتثاث الإسلاميين..
حاولت الإمارات سنة 2013 استنساخ السيناريو المصري في تونس ببهارات محلّية، تمثّلت في محاولة استمالة زعيم حزب نداء تونس (ليبرالي) الباجي قايد السبسي، غير أن الكلمة الفصل كانت لصوت الحكمة بلقاء تاريخي جمع الراحل السبسي بشيخ حركة النهضة في لقاء البريستول الشهير بباريس بتنازل الإسلاميين عن السلطة طواعية، في إطار خارطة سياسية، والذهاب نحو انتخابات برلمانية ورئاسية على أساس دستور ثوري حافظ على الانتقال الديمقراطي في تونس ومهّد لانتقال سلس للسلطة، واقتسام السلطة بين العلمانيين والإسلاميين..
رمزية إجهاض الثورة التونسية، كانت محرّكاً دفع أبوظبي إلى لعب كل أوراقها في تونس بتغيير التكتيك نحو دعم تيّارات سياسية تشارك في العملية الديمقراطية وتنخرط في المشهد السياسي بغاية الاستئصال الناعم للإسلاميين.
جلسة 3 يونيو/حزيران البرلمانية، التي تحدثّنا عنها في بداية التقرير، كانت تتويجاً لهذه الاستراتيجية، حيث تمكّنت رئيسة الدستوري الحر عبير موسى، من تجميع كل مكونات أحزاب "الحرس القديم" (الدستوري الحر، كتلة الإصلاح، تحيا تونس، قلب تونس) التي وصلت منهكة ومتشرذمة لانتخابات 2019، بعد حرب زعامات انتهت بانفراط عقد حركة نداء تونس الحركة الأم.
موسى لم تنجح فقط في تجميع الإخوة الأعداء من أبناء المنظومة، بل نجحت كذلك في استمالة حركة الشعب القومية (15 نائباً في البرلمان) تحت لواء عزل الإسلاميين.
التسريبات التي ترد من دوائر السلطة في تونس تشير إلى أن الجبهة البرلمانية الجديدة (متكونة من قرابة 100 نائب) وهندستها قاعة العمليات في أبوظبي تسعى إلى تمرير لائحة لوم تقضي بسحب الثقة من رئيس البرلمان (سحب الثقة يحتاج إلى أغلبية 109 نواب) راشد الغنوشي ثم إسقاط الحكومة في مرحلة ثانية.
الصورة أصبحت واضحة في تونس.. فرز حقيقي وفق معيار الثورة أفرز توازن رعب بين منظومة الثورة المضادة ومنظمة الثورة ولا شك أن هذا الصيف سيكون ساخناً وحاسماً للثورة وللمسار الديمقراطي برمّته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.