هل قادة الاحتلال الإسرائيلي أغبياء؟ بالطبع لا.
فهم يوظفون كل الأساليب العقلية والمنطقية والواقعية في اتخاذ القرارات.
إلا أن ترجيح الطمع وسياسة القهر، والتطرف هو الذي جعل قراراتهم غبية في بعض الأحيان.
هل هم مجرمون؟ بالطبع نعم.
لأن أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء والأطفال وتشريد الأسر الآمنة، وقمع كل من يطالب بحقه الطبيعي في الحياة.
السؤال المهم هو: لماذا يتجرأ قادة الاحتلال على ضم الضفة الغربية، أو أجزاء كبيرة منها؟
من المهم في البداية التأكيد على ما ذهبنا إليه في مقال سابق، بأن هذه الخطوة غبية بامتياز، وسوف نعيد تفسير سبب حكمنا عليها بأنها غبية.
ولكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى الأسباب التي جعلت سياسات الاحتلال تمثل "جائحة"، حيث إنها تسير بشكل متسارع، وتحرق الأخضر واليابس، وتتحدى مشاعر العرب والمسلمين، بل وكل الدول الحرة في العالم. إن هذه السياسة أصبحت بالفعل تمثل مرضاً يمكن وصفه بـ"الهوس" و"الشره"، وهو وصف يمكن أن يُطلق على الإنسان الذي يزداد جوعاً كلما التهم الطعام، ويزداد عطشاً كلما شرب الماء. وهذا هو حال الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يقف عند حد أبداً.
ولو أدرك العرب، وأقصد بالطبع القادة العرب بشكل خاص، هذا الأمر، فسيدركون أن الاحتلال سوف يلتهم أراضيهم بعد أن يفرُغ من التهام الأرض الفلسطينية. ولذلك، فإن صمود الفلسطينيين ووقفوهم في وجه "جائحة الاحتلال" هو خط الدفاع الأول عن العالم العربي.
إن السياسة الإسرائيلية تقوم على ابتلاع كامل الأرض الفلسطينية لأسباب دينية وأسباب سياسية، وكذلك مسوغات أمنية. إلا أن الذي يمنعها من تنفيذ ذلك اليوم هي أسباب ديموغرافية وأسباب أخرى قد نتطرق إليها في مقال لاحق. كما أن الجميع يعلم أن للإسرائيليين أطماعاً في الأرض العربية (من النيل إلى الفرات) كما أشرنا، وقد اكتفى الاحتلال بالهيمنة السياسية والعسكرية في المنطقة، والتغلغل في بعض الدول من خلال مشاريع اقتصادية، وبأدوات غربية في بعض الأحيان.
إن أول سبب، وأهم سبب، للقيام بسياسة الضم المشار إليها هو ضعف العرب، واقتصار المواقف بالتصريحات والتنديد في حال رفض القرارات. والأسوأ من ذلك، كما أشارت صحف عبرية، هو موافقة بعض القادة العرب على سياسات الاحتلال، وهو الموقف الذي يمثّل انقلاباً في المواقف العربية، وارتماءً في أحضان الاحتلال وربيبته الولايات المتحدة. بل هو انسلاخ كامل عن القيم العربي الإسلامية التي تؤكد العدل والحق والسلام، وذلك الدفاع عن الأمة وكرامتها.
أما السبب الثاني فهو وجود ترامب وعصابته في سدة الحكم. وقلت عصابته لأن هذه الفئة تحمل أفكاراً غريبة، ليست متطرفة فحسب، بل تتصرف برعونة، وبشكل فجّ ووقح. فلو تأملنا في سياسات ترامب وتصريحاته، ووعده بإعطاء الاحتلال كل شيء، مقابل رمي بعض الفتات للفلسطينيين، وتجاهل كامل للعرب، بل وعدم احترام دول العالم أجمع، بما فيها حلفاء الولايات المتحدة وداعمو الاحتلال الإسرائيلي في المعسكر الغربي.
إن وجود ترامب وجماعته على رأس الحكم في الولايات المتحدة مثّل فرصة لا تُعوّض للاحتلال لكي يتبجح ويُقدم على خطوات متهوّرة تتعلق بمفاصل القضية الفلسطينية. فترامب (والولايات المتحدة بشكل عام) تمنح الاحتلال حصانة غير مسبوقة، بحيث لا يحقّ لأحد في العالم أن يسائلها أو يتهمها بانتهاك كل المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية.
ومن الأسباب التي زادت من جشع الاحتلال وطمعه في تنفيذ سياسات كانت تمثل حُلماً بالنسبة له تمكنه من التسلل إلى بعض الشرائح في العالم العربي، ومنها شرائح سياسيين ومثقفين وفنانين وغيرهم. حتى أن بعضهم ممن يمتلك الوقاحة للتعبير عن موقفه، وبغطاء من حكام بلاده، عبّر عن دعمه للاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. الاحتلال انخدع بهذا الكلام، وظنّ أن الأمة كلها، أو غالبيتها، تحمل نفس الأفكار.
وربما من الأسباب المهمة أيضاً، كما ذكرنا في مقال سابق، الواقع الفلسطيني المتردي، سواء الانقسام، والذي نقصد به عدم وجود رؤية موحدة لمواجهة الاحتلال وسياساته (فضلاً عن الانقسام السياسي بين فتح وحماس)، أو ميوعة المواقف الفلسطينية، وعدم اتخاذ خطوات جريئة وقاطعة في مواجهة سياسات الاحتلال. وقد عبّر عن ذلك العديد من الكتاب الإسرائيليين الذين قالوا إن القيادة الفلسطينية تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر. وقالوا أيضاً إن هناك شخصيات فلسطينية أكدت لهم أن السلطة لن توقف التنسيق الأمني، وإنها لن تسمح بموجة احتجاجات تجاه سياسة الضم. وهذا يعني أن الاحتلال يمكن أن ينفّذ سياساته دون مخاطر في الضفة الغربية. وسواء كان الصحفيون الإسرائيليون صادقين أم لا، فإن التجربة أثبتت ذلك. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مواقف القيادة تنعكس إلى حد كبير على موقف الشارع. فالشارع لا يتحرك وحده إلا في حالات نادرة. والشارع يتطلع دائماً إلى قيادة قوية حازمة تتخذ قرارات جريئة وتتصدى لسياسات الاحتلال التي باتت تهدد الوجود الفلسطيني والمشروع الوطني المتمثل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وإنهاء الاحتلال على الأراضي الفلسطينية.
كل ما ذكرناه هو مظاهر خادعة للاحتلال؛ لأن الاحتلال لا يدرك أن الأمة لن تُسقط حقها في الأرض الفلسطينية، وأن الواقع الوهمي قد يتغير في أي لحظة. الاحتلال لا يُدرك أن مسح الذاكرة أمرٌ مستحيل، وأن القوة لا تدوم، وأن ضعف الشعب الفلسطينية والأمة العربية ما هي إلا غيمة صيف عابرة، لا تلبث أن تزول. وأذكر أني سمعت الرئيس الراحل أبوعمار قال مرة: "إسرائيل ليست الولايات المتحدة، والشعب الفلسطيني ليس الهنود الحمر".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.