من تحت أنقاض منازلهم وتربة حدائقهم ومتنزهاتهم العامة، يصعد موتى مدينة الرَّقة السورية ليرووا قصصهم. بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية، عُثِر على بعض الجثث مقيَّدة الأيدي، وبرؤوسهم إصابة طلقٍ ناريٍّ واحد.
وآخرون لم توجد لهم جمجمة حتى الآن! في حين عُثِر على جثث إحدى العائلات مدفونةً بلا معالم، ليموت بعضهم بجوار بعض من الجوع والعطش في قبوهم أسفل المبنى الذي سقط من فوقهم، مانعاً الشمس من الوصول إليهم للأبد. وفي عملية إنقاذ بيوتٍ منهارةٍ أخرى، وجد العاملون 42 جثةً.
تقول الفرق السورية المنوط بها استخراج واستعادة الجثث بعد مضيِّ عامٍ من تحرير المدينة، إن بعض الجثث تنتمي إلى مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أما الأخرى فهي جثث أَسراهُم. ولكن الأغلبية العظمى من البقايا التي يجري التنقيب عنها حالياً من بين أنقاض الرقَّة، هي لمدَنيِّين قتلتهم غارات التحالف الجوية ونيران مدافعه.
لقد أصبحت الرَّقة مركز القيادة الفعلي لـ "داعش" في ربيع 2013، حيث كانت "الشبكة الإرهابية" تخطِّط لعملياتها العسكرية في أنحاء سوريا، وتجمع العديد من تسجيلات قطع الرؤوس الخاصة بها وتذيعها.
معظم الموتى مدنيون قُتلوا على يد غارات التحالف
قال رياض العمري، (27 عاماً)، وهو مهندسٌ سوريٌّ كان مسؤولاً عن السجلَّات والبيانات التي جمعها فريق الاستجابة الأولى في الرَّقة، الموكلة إليه استعادة جثث المدينة: "في بعض الحالات قد يصعب الوقوف على طريقة الوفاة بالتحديد". واستدرك: "لكن، لنكن واضحين بشأن هذا، معظم الموتى مدنيون قُتِلوا من جراء الغارات الجوية للتحالف".
وتؤكِّد هذه النتائج المزاعمَ الصادرة من منظمة العفو الدولية و"إيروورز"، المنظمة البريطانية الراصدة لأثر العمليات العسكرية في المجتمعات المحلية، والتي تتلخَّص في أن آلاف المدنيِّين السوريِّين قد أُصيبوا وقُتِلوا إبان حملة التحالف في الرَّقة.
وهي الحملة التي روَّجت لها القوات المسلَّحة على أنها عمليةٌ محدَّدة الأهداف لتحرير مدينةٍ، وقد دامت 4 أشهرٍ قبل الإعلان أخيراً عن تحرير الرَّقة من قبضة داعش يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي (2017). وتقع المدينة حالياً تحت سيطرة وحدات قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.
أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً، في يونيو/حزيران 2018، تحت عنوان "حرب الإبادة: أثر ماحق للمدنيين"، وجادل التقرير بأن أرقام الوفيات من المدنيين التي أعلنها رسمياً التحالف الأميركي كانت أقل من الواقع على نحوٍ مقزِّزٍ. فقبل ذلك التقرير، كان التحالف قد أعلن وفاة 23 مدنياً سوريّاً في أثناء حملته بالرقة، التي دمَّرت 80% من المدينة تقريباً.
وقد زعمت وزارة الدفاع البريطانية، بإصرارٍ مدهشٍ، عدم امتلاكها أية أدلة على الإطلاق على الخسائر البشرية من المدنيين إثر الغارات الجوية البريطانية الـ275 على الرقة، ولا الغارات الجوية التي زادت على الـ750 في الموصل. وكان ردُّ غافن ويليامسون، وزير الدفاع البريطاني، على المزاعم المفصَّلة الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية بوصفها بـ "المشينة".
"يزعمون أن قنابلهم لا تقتل إلا الأشرار"
وصرَّح كريس وودز، مدير منظمة إيروورز، لصحيفة The Times البريطانية، قائلاً: "على الأقل، يعترف الأميركيون بالتسبُّب في خسائر بشريةٍ من المدنيين. أما بريطانيا، مثلها مثل روسيا وفرنسا وأستراليا وبلجيكا والهولدنيين، يزعمون أن قنابلهم لا تقتل إلا الأشرار، وهو أمرٌ سخيفٌ ناجمٌ عن خطأ منهجيٍّ في إجراءات المحاسبة لدى هذه الدول".
وكانت عملية فرق انتشال الجثث السورية، التي ازدادت عدداً على مدار الخريف والشتاء بعد مضاعفة أعضائها 3 أضعافٍ، تقترح أن منظمة العفو الدولية و"إيروورز' مصيبتان في تقديرهما الخسائر البشرية من المدنيين.
ووفقاً لبيانات فريق الاستجابة الأولى التي شاركوها مع الصحيفة البريطانية، بمقرِّهم في الرقة، والتي كانت محدَّثةً بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول 2018، استعادت الفرق 3280 جثة منذ بدء العمل في يناير/كانون الثاني من العام الجاري (2018). وكان من بينها جثث 604 أطفال تحت سنِّ الـ16، و538 امرأة مدنية بالغة، و1251 رجلاً مدنياً، و792 مقاتلاً. وفي 95 حالة لم يكن ممكناً التعرُّف على عمر الجثة ولا جنسها.
وقد أسفرت العملية عن آلافٍ من الجرحى المدنيين، حيث أطلقت القوات الأميركية ما يزيد على 30 ألف قنبلة مدفع نحو المدينة، بالإضافة إلى غاراتٍ جويةٍ من طائرات أميركية وبريطانية وأسترالية وفرنسية. وكانت الرقة هي أكثر المدن تعرُّضاً لقذف مدافع الوحدات الأميركية عن أية مدينةٍ أخرى هاجمتها القوات الأميركية في أية مرحلةٍ زمنيةٍ منذ حرب فيتنام، وقد وجدت دراسةٌ لاحقةٌ من الأمم المتحدة، أن المعركة أدَّت إلى الإضرار بـ80% من المدينة أو تدميرها.
وبالمقارنة، كانت قدرات أسلحة المقاتلين المحليين ضئيلةً، إذ لم تستخدم قوات سوريا الديمقراطية تحت قيادة الأكراد ما هو أثقل من قذائف الهاون فئة الـ120 ملم في الرقة. وتُظهِر إحصاءات التحالف أنه عكس الموصل، حيث استخدم تنظيم داعش ما يزيد على 750 سيارة مُفخَّخة انتحارية، فقد كانت قدرات داعش التدميرية أدنى بكثيرٍ في الرقة، حيث استُخدِم ما يقل عن 12 سيارة مفخخة انتحارية. بيت القصيد هو أن تدمير الرقة جاء بصورةٍ غالبة بسبب التحالف.
"داعش" تسببت في قتل المدنيين أيضاً
ونوَّهت منظمة إيروورز إلى نشأة تيارٍ خطيرٍ في أسباب الخسائر المدنية بالرقة أدَّى إلى مساواة أعدادها في المدينة للخسائر المدنية جراء القصف الروسي لضاحية الغوطة الشرقية في ربيع العام الجاري، وحملة 2016 الروسية بحلب.
إذ قال وودز: "ربما كانت النية مختلفةً، ولكن من خلال نمذجة التأثيرات استطعنا الجزم بعدم وجود فارقٍ كبيرٍ من ناحية الخسائر المدنية بين التحالف في الرقة وروسيا بالغوطة الشرقية وحلب". وتابع قائلاً: "في النهاية، لا يبدو أن هناك فارقاً واسعاً في الأضرار الناجمة عن الأسلحة الغبية والأسلحة الذكية حين تُمطِر بالقنابل منطقةً ذات تركيزٍ مرتفعٍ من المدنيين. كثافة القنابل والتركيز هما ما يؤدِّيان إلى الخسائر البشرية".
وفي أثناء تنقُّلهم عبر شوارع الرقَّة المدمَّرة الأسبوع الماضي، أعرب معظم السوريين الذين تحدثوا إلى الصحيفة البريطانية، عن "تقزُّزهم" من داعش، الذي تعمَّد استعمال المدنيين كدروعٍ بشريةٍ، وعن ارتياحهم من سقوط الشبكة الإرهابية.
مهما كان حجم الدمار، فالرفض التابع له للاعتراف بحجم الخسائر المدنية، بالإضافة إلى التقاعس عن المساعدة في إعادة بناء المدينة المدمَّرة، كانا نقطتي تنازعٍ عميقٍ بين السكان المحليين، أسفرتا عن فقدان الثقة بالتحالف، وأنتجتا خطاباً غاضباً سيشكِّل تربةً خصبةً للتطرُّف في المستقبل.
عائلات بأكملها قضت تحت ضربات التحالف الدولي
حنان مخلف، (27 عاماً)، فقدت أخوَيها وأختَيها ونَسيبتَيها وأبناءهما الخمسة الصغار في غارةٍ جويةٍ من التحالف على منزل أسرتها بحيِّ الجميلي في الرقة بشهر أغسطس/آب من العام الماضي (2017). وقد قُتِل والدها في غارةٍ جويةٍ روسيةٍ قبل ذلك بسنةٍ. ومضت 10 أشهرٍ قبل انتشال جثثهم من أنقاض المباني المنهارة.
حين سمعت بزعم منظمة العفو الدولية أن تنفيذ حملة التحالف على الرقة ربما قد انتهك قوانين الحرب، صدرت منها ضحكةٌ قصيرةٌ مريرةٌ.
وقالت لي: "هذه التحقيقات لن تُعيد عائلتي المقتولة"، قبل أن ننتقل معاً إلى الحفرة التي كانت تحتوي أفراد عائلتها في الأرض. كانوا يعيشون في عمارةٍ سكنيةٍ من 7 طوابق. وذات ليلةٍ جاءت جماعةٌ من داعش لتحتمي داخل الشقق. ثم بعدئذٍ دمَّرت غارةٌ جويةٌ مهولةٌ المبنى بأكمله، وقتلت جميع مَن بالداخل، سواء كانوا مدنيين سوريين أو أعضاء من داعش.
قالت حنان: "ألوم الطرفين -داعش والتحالف- على ما حدث. لم يُرِد أهل الرقة قط أن يكونوا جزءاً من هذه الحرب، ولكن آل بنا المطاف في منتصفها. كان داعش قاسياً نحو الجميع واستعملنا كدروعٍ بشريةٍ، ولكن التحالف قد استعمل غاراتٍ جويةً ضدنا كما لو كنا حيوانات، لا بشراً. لو قُتِل شخصٌ واحدٌ فقط في الغرب بهذه الطريقة لتحدَّث عنه الجميع. ولكن الآلاف منا لقوا مصرعهم هنا على هذا النحو: مقذوفين بالقنابل كما لو كنَّا حيوانات!".
الأموال ليست موجودةً
لربَّما تفهَّم الـ150 ألف مدني العائدين حتى الآن إلى الرقة بعد تدميرها، حجم العنف الذي مورِس ضد المدينة لو كانت دول التحالف قد بذلت المزيد لمساعدتهم في ترميم المدينة، التي دُمِّرَت بفعل معركةٍ تضمَّنت آلافاً من مقاتلي داعش الأجانب من أوروبا ودولٍ مجاورةٍ.
ولكن في مارس/آذار من العام الجاري (2018)، قرَّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب -الذي تعهَّد بـ "القصف الكامل" لـ "داعش" في حملته الانتخابية- تجميد 200 مليون دولار من التمويلات المخصَّصة للمساعدة في جهود إعادة البناء شمال شرقي سوريا. وقد استُخدِمَت التمويلات الموجودة في تفريغ الشوارع من الحطام وتوفير مرافق ضروريةٍ كالماء، ولكن لم تبدأ بعدُ إعادة بناء المدينة.
إبراهيم حسن، (58 عاماً)، هو مدير قسم إعادة البناء التابع للمجلس المدني بالرقة والواجهة الأساسية بين أهل الرقة وتمويلات إعادة البناء من التحالف. وقد صرَّح قائلاً: "لقد بذل التحالف مجهوداً كبيراً لإجلاء داعش من الرَّقة. كان ذلك هو الجزء العسكري من المعادلة. ولكن في جزء إعادة البناء من المرحلة حتى الآن، نكاد نكون لم نحقِّق أي شيءٍ. الأموال ليست موجودةً. لقد دفعت الرقة ثمناً بشعاً مقابل تدمير داعش. هل من المؤكَّد أن المجتمع الدولي يريد مساعدتنا بعدئذٍ؟ لا يتعلَّق الأمر بالحجارة وحسب، بل بالناس".
كان حسن يتحدث من على كرسيِّه المتحرك، بعد أن نجا من محاولة اغتيالٍ وقعت في شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري (2018)، حين أطلق عليه المعتدي النار سبع مراتٍ في منزله باستخدام مسدَّسٍ كاتمٍ للصوت. وبعد أن أصابه الهجوم بالشلل، أخبره فريقٌ جرّاحي أميركيٌّ بأن التحالف سيرتِّب لسفره إلى الخارج، لأجل الجراحة المختصَّة اللازمة لاستئصال رصاصةٍ باقيةٍ في نهاية عموده الفقري.
ومنذ أسبوعين، اعتذر له المسؤولون الأميركيون وأخبروه بأنهم ليسوا، بعد كل هذا، قادرين على مساعدته في علاجه.
وقد قال لي: "عندما تعرَّضت لإطلاق النار جزئياً، لأنني كنت أعمل مع الأميركيين، وجزئياً بسبب محاولتي إعادة بناء المدينة مع التحالف، كنت آمل أن يقدِّم لي الأميركيون مزيداً من المساعدة في جراحتي. ألوم نفسي على خيبة أملي. لقد صدَّقت وعودهم".
في أثناء ذلك، تستمر الجهود التعسة لاستعادة الجثث. حتى الآن، يقدِّر المسؤولون عن استخراج الجثث أنهم قد وصلوا إلى 60% فقط من المقابر الجماعية والمباني المنهارة على قائمتهم، والتي نمى إلى علمهم وجود جثث مدنيين مدفونةٍ بها. ورغم الطلبات المتكررة من وفود التحالف بتوفير معملٍ لتحليلات الحمض النووي لأجل المساعدة في التعرف على هويات الموتى، لم يصل أي معملٍ حتى الآن، لذلك يجري تدوين أجناس معظم الجثث، وأعمارهم التقريبية، وأسباب وفاتهم المرجَّحة، إلى جانب رقمٍ تسلسليٍّ يُدخَل في بنك البيانات لكي يمكن استعادتها مجدداً ذات يومٍ إذا عُرِفَت أسماؤهم.
وقال ياسر خميس، (36 عاماً)، رجل المطافئ السابق الذي يقود فرق الاستجابة الأولى: "بعد أن ندوِّن كل تلك المعلومات، نعيد دفنهم من جديدٍ. ولكن هذه المرة يوضعون في مقبرة شهداء المدينة. وما لم يجرِ التعرُّف عليهم ورغبت عائلاتهم في دفنهم بمكانٍ آخر، فإن جميع من نستخرجهم يعودون إلى الأرض هناك: سواء أكانوا مقاتلي دعش، أم مدنيين، أم رجالاً، أم نساءً، أم أطفالاً".