كانت الرواية الجديدة التي قدَّمتها المملكة العربية السعودية الخميس 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 حول موت جمال خاشقجي صادمةً في فجاجتها، حسب تقرير صحيفة The Washington Post.
فبعدما اعترفت السعودية سابقاً بأنَّ الصحافيّ كان ضحية عملية قتلٍ بنية مسبقة، عادت السلطات في الرياض إلى رواية سابقة فقدت مصداقيتها تقول فيها إنَّ خاشقجي قُتِل خطأً داخل القنصلية السعودية في إسطنبول على يد فريق أُرسِل لإعادته إلى السعودية.
وأثناء إعلان أحد أفراد النيابة العامة بالرياض توجيه الاتهام لـ11 متهاماً والمطالبة بإعدام 5 منهم، لم يتغاضَ فقط عن ولي العهد محمد بن سلمان -المتهم الرئيسي في عملية القتل- بل وكذلك عن اثنين من كبار معاوني هذا الأخير، اللذين قال عنهما عضو النيابة هذا إنَّهما أمَرا أو أوصيا بعملية الاعتقال لكن لم يوافقا على قتل خاشقجي.
يضيف تقرير صحيفة The Washington Post أن النظام السعودي، بطرحه هذه الرواية غير المعقولة، يتحدى صراحةً كل مَن طالبوه بالكشف الكامل عن التفاصيل وتحمُّل المسؤولية، بما في ذلك أعضاء بارزين في الكونغرس. لكن يبدو أنََّ إدارة ترامب مستعدة للقبول بمماطلة النظام. فأمس الخميس، أعلنت الإدارة عقوبات بحق 17 شخصاً قال السعوديون إنَّهم متورطون في القضية، دون المساس بولي العهد أو كبار المسؤولين في الاستخبارات بالرياض.
ويعني قبول الرواية السعودية تجاهل عدد من الحقائق المثبتة. إذ يشير تسجيلٌ صوتي للحظات خاشقجي الأخيرة، أطلع المسؤولون الأتراك عليه مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) جينا هاسبل، إلى أنَّه تعرَّض للهجوم والخنق مباشرةً بعد دخول القنصلية. بينما تزعم الرواية السعودية أنَّه لم يمت إلا بعد شجار ومشادة دفعت رئيس "فريق التفاوض" لاتخاذ القرار بقتله عن طريق حقنه ببعض العقاقير.
تقول الرواية السعودية إنَّ الأمر بالعملية صدر من نائب رئيس الاستخبارات العامة آنذاك أحمد العسيري، وأوصى بها سعود القحطاني، أحد الدُعاة والمُروِّجين للبلاط الملكي. وكلاهما من المقربين لدى محمد بن سلمان.
"أبلغ رئيسك" أنَّ المهمة أُنجِزَت
حسب رواية السعودية، كلا المساعدين لم يتورطا في قرار قتل خاشقجي تعرَّضا للتضليل بعد ادعاء فريقهما أنَّ الصحافي غادر القنصلية حياً. لكنَّ هذا لا يفسر جزءاً من التسجيلات الصوتية التي تحدثت عنها صحيفة The New York Times الأميركية، يُخبِر فيه المساعد المقرب لولي العهد ماهر المطرب أحد المسؤولين هاتفياً بأن "أبلغ رئيسك" أنَّ المهمة أُنجِزَت. وحسب تقرير The Washington Post، فإنَّ مسؤولي الاستخبارات الأميركية يعتقدون أنَّ هذا "الرئيس" هو "بشكل شبه مؤكد الأمير محمد".
كثرت التناقضات والأشياء غير المعقولة الأخرى. فمن المعروف أنَّ الفريق كان يضم خبيراً في الطب الشرعي متخصصاً في التشريح، قال الأتراك إنَّه جاء بمنشار عظام لتقطيع أوصال جثة خاشقجي. لكنَّ السعوديين يريدون من العالم تصديق أنَّ هذا المختص استُعين به فقط لإزالة أي أدلة على حدوث عملية اختطاف، وتصديق أنَّ المسؤولين في الرياض لا يعرفون شيئاً عن هذا المختص.
لا يؤكد نَسج كل هذه الأكاذيب المكشوفة حسب تقرير الصحيفة إلا على الحاجة إلى إجراء تحقيقٍ دولي مستقل بصورةٍ حقيقية تقوده الأمم المتحدة مثلما طالب وزير الخارجية التركي هذا الأسبوع. لكن بدلاً من ذلك، تشارك إدارة ترامب في التستُّر السعودي على الجريمة، فالعقوبات الجديدة حتى لا تشمل عسيري، المسؤول الذي تقول الرياض إنَّه أصدر الأمر بمهمة خاشقجي.
ودعت الصحيفة الكونغرس ألا يسمح لهذه المهزلة بالاستمرار. ويجب أن يُعلِّق كل الصفقات العسكرية والتعاون مع السعودية إلى حين اكتمال تحقيقٍ دولي موثوق في قتل خاشقجي. إنَّ رواية التستُّر السعودية الجديدة ما هي إلا مثالٌ آخر على السلوك المتغطرس والمتهور لمحمد بن سلمان. ولابد من تحديد ومعاقبة قتلة جمال خاشقجي الحقيقيين.