كشفت صحيفة The New York Times الأميركية كيف لعبت شركات استشارة أميركية دوراً بالغ الأهمية في حملة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتعزيز سلطته.
وأوضحت الصحيفة في تقرير نشرته الأحد 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أن هذه المؤسسات انخرطت في مهام "غير تقليدية" إلى جانب محمد بن سلمان، مثل تقديم تدريبات للبحرية في الحرب السعودية في اليمن، والمساعدة في حملة مستشار ولي العهد السعودي سعود القحطاني، القمعية، ضد المعارضين.
شركات استشارة أميركية لتدريب "المحاربين الإلكترونيين"
في الوقت الذي كان فيه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يستميل المصرفيين في بنك Goldman Sachs ومديري شركات وادي السيليكون التنفيذيين، أثناء جولته في أميركا هذا الربيع، كانت مجموعة من أكثر مساعديه إخلاصاً تتولى أمر الأعمال التجارية في واشنطن.
وفي حفلٍ متواضع على بعد مجمعين سكنيين من البيت الأبيض، وقَّع المسؤولون السعوديون اتفاقاً مع شركة Booz Allen Hamilton، وهي شركة استشارية أميركية، للمساعدة في تدريب الأعداد المتزايدة من المحاربين الإلكترونيين داخل السعودية.
وقال حينها سعود القحطاني، المستشار البارز لولي العهد الذي كان يشرف على الصفقة، في تصريحٍ للصحافة الرسمية في السعودية إنَّ الاتفاقية "ستفتح آفاقاً رحبة" من خلال تحسين مهارات خبراء الأمن الإلكتروني في المملكة. ولم يأتِ على ذكر حملته المستمرة لإسكات المنتقدين داخل المملكة وعبر الإنترنت.
وفُصل القحطاني من وظيفته، الشهر الماضي، بعد أن ربط مسؤولون سعوديون بينه وبين قتل الصحافي جمال خاشقجي، قائلين إنَّه ساهم في خلق بيئة عدوانية ساعدت في الإفضاء إلى القتل.
لكن قتل خاشقجي لم يمنعها من مواصلة "دعمها" لمحمد بن سلمان
في حين أنَّ وفاة خاشقجي دفعت المستثمرين من جميع أنحاء العالم إلى الابتعاد عن الحكومة السعودية، فإنَّ شركة Booz Allen ومنافستيها McKinsey & Company وBoston Consulting Group ظلت على مقربةٍ، بعد اضطلاعها بأدوارٍ بالغةٍ الأهمية في حملة الأمير محمد بن سلمان لتعزيز السلطة.
وبالإضافة إلى العمل الاستشاري التقليدي مثل تقديم المشورة الاقتصادية والمساعدة في تلميع صورة الأمير محمد بن سلمان ، فقد انخرطت بقدرٍ أكبر في مهام غير تقليدية. إذ تُقدم Booz Allen تدريباتٍ للبحرية السعودية، بينما تفرض حصاراً في حربها في اليمن، وهي الكارثة التي عرَّضت الملايين لخطر المجاعة. وأصدرت شركة McKinsey تقريراً ربما يكون قد ساعد في حملة القحطاني القمعية ضد المعارضين. وتقدم شركة BCG الاستشارات لمؤسسة الأمير محمد.
وهذا العمل مربح، إذ بلغت أرباح الشركات الثلاث مجتمعةً مئات الملايين من الدولارات من المشاريع في السعودية. ونما عمل شركة McKinsey في السعودية من مشروعين سعوديين عام 2010 إلى ما يقرب من 50 مشروعاً في العام التالي، واستمر نموها في التسارع، ووصل إلى ما يقرب من 600 مشروع في الفترة من عام 2011 إلى عام 2016.
وتوسيع نفوذها في المملكة
وأظهرت مجموعة من الوثائق الداخلية الخاصة بشركة McKinsey، اطلعت عليها صحيفة The New York Times انتشار مستشاري McKinsey في جميع أنحاء المملكة في السنوات الأخيرة، لتقديم المشورة للهيئات الحكومية مثل وزارة التخطيط، التي أطلق عليها بعض السعوديين "وزارة McKinsey"، إلى جانب الديوان الملكي، وزمرة من الشركات التي تعمل في صناعاتٍ مثل العمل المصرفي والإعلام والاتصالات والعقارات والطاقة.
وفي العام الماضي، اشترت شركة McKinsey شركة استشارية سعودية تعمل في مجال السياسة، مضيفةً موظفي تلك الشركة، البالغ عددهم 140 موظفاً إلى أكثر من 300 موظف موجودين في المنطقة بالفعل.
قبل أن تتورط أيضاً في تسريب تفاصيل دقيقة عن المعارضين السعوديين
وأثار تقريرها الذي خصّ بالذكر منتقدي المملكة البارزين على الإنترنت انتقاداتٍ واسعة، عندما كشفت عنه صحيفة The New York Times الشهر الماضي. إذ تضمن وصفاً دقيقاً للمعارضين، بمن فيهم خالد العلقمي، وهو كاتب ينتقد السياسات السعودية، وعمر عبدالعزيز، وهو سعودي يعيش الآن في كندا، إلى جانب صورٍ لهما.
وكتب المؤلف، الذي تقول McKinsey إنَّه باحث مقيم في السعودية، في نقاطٍ منفصلة: "هناك العديد من التغريدات السلبية التي كتبها عمر حول مواضيع مثل التقشف والمراسيم الملكية". وكتب العلقمي "تغريداتٍ متعددة سلبية حول التقشف".
على الرغم من أنَّ McKinsey قالت إنَّ التقرير قد أُعد لعملٍ داخلي، أُلقي القبض على العلقمي بعد صدوره، وقال عبدالعزيز إنَّ اثنين من أشقائه اعتُقلا. وأُغلق حسابٌ ثالث تحت اسمٍ مستعار، وما يزال مصير صاحبه غامضاً.
كانت حملة القمع علامةً مبكرة على الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومة السعودية بقيادة محمد بن سلمان لسحق الانتقادات، التي بلغت ذروتها بقتل خاشقجي.
وقالت McKinsey إنَّها "صُعقت" من احتمال إساءة استخدام معلوماتها. وفي مذكرة لموظفين سابقين، قالت McKinsey إنَّ الباحث نشر التحليل، في يناير/كانون الثاني عام 2017، على نظامٍ داخلي، وإنَّه كان يهدف فقط إلى "عرض الأساليب لقياس حجم استخدام الشبكات الاجتماعية ورد الفعل".
كما أن لولي العهد السعودي علاقات خاصة مع مسؤولي الشركات
وحتى قبل أن يصبح الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، عزَّزت شركتا McKinsey وBCG روابطهما معه. إذ ارتبط الأمير محمد بعلاقةٍ في السنوات الأخيرة مع يورغ هيلدبراندت، كبير المسؤولين التنفيذيين في الشرق الأوسط لشركة BCG، وفقاً لخبيرين عملا في المنطقة. ورفض هيلدبراندت التعليق على لسان المتحدث باسمه.
وبعد أن نُصِّب الأمير محمد وزيراً للدفاع عام 2015، وقّعت شركة BCG عقداً للمساعدة في إصلاح أنظمة المشتريات بالوزارة وتحسين طريقة تعاملها مع الشؤون المالية والموظفين، على حد قول شخصين مطلعين على العقد.
ولم يستجب المسؤولون الصحافيون في السفارة السعودية في واشنطن لرسائل البريد الإلكتروني، التي تطلب الإدلاء بتعليقٍ حول هذا الأمر.
وفي فبراير/شباط عام 2016، اصطحب مستشارون يعملون لدى McKinsey وBCG خمسة مبعوثين من الديوان الملكي السعودي في جولةٍ في مراكز الأبحاث في واشنطن. وأطلعوا خبراء الخليج على أهداف محمد بن سلمان الكبرى في إعادة تشكيل الحياة السعودية، بينما أخذ الاستشاريون الذين يفوقون السعوديين عدداً يكتبون الملاحظات في هدوء.
وساهمت بشكل كبير في خطة محمد بن سلمان "رؤية 2030"
وكانت شركة BCG منهمكةً في وضع الخطة الاقتصادية للبلاد، التي يُطلق عليها رؤية 2030، والتي تهدف إلى تخليص السعودية من اعتمادها الكلي على عائدات النفط. وقد وضع تقريرٌ لشركة McKinsey عام 2015 الخطوط العريضة لتلك الخطة.
وعندما سألته مجلة The Economist البريطانية عام 2016 عن حاجة المملكة لاستثماراتٍ تقدر بـ4 تريليونات دولار لتحويل اقتصادها، أقرَّ الأمير بهذا الرقم على الفور وأجاب قائلاً: "هذا تقرير من McKinsey، وليس من الحكومة السعودية"، مضيفاً أنَّ McKinsey "تشارك معنا في العديد من الدراسات".
وشدَّد مؤتمر مبادرة الاستثمار المستقبلية الذي انعقد الشهر الماضي في الرياض، وهو مؤتمر دعمه الأمير محمد بن سلمان، على أهمية السعودية للشركات الاستشارية. وفي حين أنَّ المديرين التنفيذيين والشركات والصحافيين انسحبوا في خضم غضبٍ عالمي إثر مقتل خاشقجي، فقد استمرت تلك الشركات في العمل.
وقادت شركة McKinsey حلقات نقاش حول الأموال والطاقة، وهو ما أوضحه برنامج فعاليات المؤتمر. بينما ركَّزت مجموعة BCG الاستشارية على أعمالٍ "استخباراتية" غير محددة.
مع العلم أن عملياتها الاستشارية شملت حتى الجانب العسكري
ففي بيانٍ لها، قالت المجموعة الاستشارية إنَّها ركزت في السعودية على عملٍ قد "يقدم إسهاماً إيجابياً في التحول الاقتصادي والمجتمعي" وإنَّ الشركة رفضت العمل الذي يجري ضد هذا المبدأ. وقال متحدثٌ باسم الشركة إنَّها رفضت مشروعاتٍ تتضمن الاستراتيجيات العسكرية والاستخباراتية.
وأمدَّت شركة Booz Allen لأعوامٍ البحرية السعودية بالتدريبات، ضمن جزءٍ من برنامجٍ حكومي أميركي لمساعدة جيوش الحلفاء. عملت الشركة مع البحرية في العمليات والاستخبارات والحرب الإلكترونية، إضافةً إلى اللوجستيات والإدارة المالية، حسبما قالت في 2012.
يعمل عشراتٌ من قدامى محاربي الجيش الأميركي في شركة Booz Allen بالسعودية. ويقدم لواءٌ بحري متقاعد ذو خبرةٍ قتالية الاستشاراتِ إلى كبار الضباط السعوديين حول التخطيط العسكري. فيما يمتلك آخرون خبرةً حول العمليات على متن السفن، التي يمكن استخدامها لتدريب السعوديين حول كيفية تنفيذ الحصار وكيفية تشغيل الأجهزة، على شاكلةِ المعدات الحربية الإلكترونية، القادرة على الكشف عن الرادارات وصواريخ العدو والتعامل معها.
وتُقدِّمُ شركة Booz Allen أيضاً نصائح إلى الجيش السعودي، وفازت بعقدٍ لتقديم المساعدة من خلال اللوجستيات، بما في ذلك صيانة دبابات الأبرامز السعودية.
وهي مصرّة على أن دعمها العسكري للسعودية كان "محدوداً"
وقالت الشركة في بيانٍ لها إنَّها لم تُقدِّم أي دعمٍ للسعودية في حربها في اليمن، وإنَّها تنسق مع الحكومة الأميركية لتضمن أنَّ عملها "يتسق مع السياسة الخارجية الأميركية والتشريعات التجارية". ولم تحدد الشركة ما إذا كانت القوات والبحارة الذين درَّبتهم شاركوا أم لا في الحصار السعودي لليمن.
وقَدَّم جيش الولايات المتحدة مساعدةً محدودةً لكنها مؤثرةٌ إلى الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، بما في ذلك تزويد الطائرات بالوقود، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية، وإرسال فرق القوات الخاصة إلى الحدود اليمنية السعودية لتحديد وتدمير مخابئ الصواريخ البالستية التي يمتلكها المتمردون الحوثيون المدعومون إيرانياً، والتي استخدموها في الهجوم على المدن السعودية.
وتقدم Booz Allen نصائح إلى الحكومة السعودية حول خطة تقديم المساعدات الإنسانية إلى اليمن. لكنَّ المشروع، المعروف بخطة العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن تعتبره كثيرٌ من جماعات المساعدات جهوداً غير مجديةٍ تُضْعِفُ من برنامج الأمم المتحدة نفسه.
وقالت الشركة: "لم تكن لدينا أي سيطرةٍ على كيفية استخدام الخطة أو أي جزءٍ منها". وكانت وكالة IRIN، وهي وكالة تنشر التقارير الإنسانية، أول من نشر تقارير حول دور شركة Booz Allen.
إضافة إلى دعم "الأمن السيبراني" للمملكة
وبعد توقيع عقدٍ، في شهر مارس/آذار الماضي، لدعم الأمن السيبراني للسعودية، بدأت Booz Allen في العمل مباشرةً من أجل حماية أنظمة الوزارات الحكومية، مستشهدةً بـ "الهجمات السيبرانية المدمرة التي تعرَّضت لها الشركات في المملكة". وأدارت أيضاً ما يُعرف بـ "هاكاثون"، وهو نوع من الفعاليات التي نظَّمتها الشركة في الولايات المتحدة لتعليم الناس كيفية اختراق أنظمة الحاسوب من أجل اكتشاف نقاط ضعفها.
وأنكرت Booz Allen أنَّ عملها مع السعوديين تضمَّن القرصنة "أو استخدام الفضاء السيبراني لأغراضٍ عدائية". لكنَّ خبراء في الفضاء السيبراني يقولون إنَّ نفس المناورات الدفاعية المستخدمة في اكتشاف أوجه الضعف أو حماية شبكات الحواسيب يمكن إعادة توجيهها بكل سهولةٍ لاستهداف الحكومات الأخرى أو المعارضين أيضاً.
لكن رغم ذلك فعمل الشركات بالسعودية كان "مثيراً للجدل"
أما على صعيد شركة McKinsey، فإنَّ عملها مع السعودية يبدو مثيراً للجدل حتى داخل الشركة. ففي خضم الربيع العربي، جادل مستشاروها في المنطقة بأنَّ الشركة يجب أن تضع في عين الاعتبار تقليص أعمالها مع السعودية، حسبما قال مستشار سابق في McKinsey كان يعمل في الشرق الأوسط.
غير أنَّ مزيداً من كبار المستشارين، بما في ذلك الشركاء، قالوا إنَّ McKinsey ليست معنيةً بإصدار الأحكام على ثقافة عملائها ومبادئهم. وجادلوا بأنَّ أفضل طريقةٍ لتطوير المملكة كانت عبر تحديث الاقتصاد وجعل الحكومة والشركات تؤدي عملها بطريقةٍ أفضل.
وبدلاً من تقليص حجم الأعمال في السعودية، ضاعفت McKinsey هذه الأعمال.
قال مستشار بالشركة عمل مع أعلى المناصب في الحكومة السعودية إنَّ العديد من المستشارين الأجانب الذين عملوا في السعودية فشلوا في استيعاب الثقافة المحلية، أو كيف يمكن لحكومة استبدادية أن تستغل عملهم. ولطَّف من الأمر بقوله إنَّ زملاءه حرصوا على محاولة عدم التسبب في أي أضرار.
وقال متحدثٌ باسم شركة McKinsey في بيانٍ لها: "نحن فخورون بِسِجِلِّنَا في السعودية"، مستشهداً بالنتائج المتعلقة بتحسين الصحة وخلق الوظائف.
فهم يخافون من قول الحقيقة للسلطات العليا بالسعودية
وقالت كالفيرت جونز، وهي أستاذة في جامعة ماريلاند تدرس دور الاستشاريين في الشرق الأوسط، إنَّ شركات استشارة أميركية الذين يستهدفون مساعدة الحكومات الاستبدادية من الداخل يوافقون في الغالب لرغبتهم في الإبقاء على مهامهم المربحة.
وأضافت: "إنَّهم يقللون من مساوئ الأمر، إذ إنَّ مخاوفهم أنَّهم إذا قالوا الحقيقة إلى السلطة في ضوء هذه الحالة من التعاملات معها، فسوف يُطردون".
تنبع أيضاً طفرة الأعمال التي تشهدها شركات BCG وMcKinsey وBooz Allen من حاجة الأمير محمد بن سلمان إلى الخبرات، بينما يدفع بمقترحاته من أجل تحديث بلاده. لذا فإنَّ اعتماده على المستشارين هائلٌ لدرجة أنَّ بعض الشركات لديها أشخاص حاضرون على الدوام في الديوان الملكي لضمان سرعة الاستجابة إلى الطلبات، حسبما أوضح ثلاثة مستشارين قدموا استشاراتٍ للمملكة.
وأفاد بعض الأشخاص بأنَّهم طُلب منهم تقديم مقترحات في 24 ساعة، أي أسرع بكثير مما يعملون في المعتاد.
وأنَّ ولي العهد سوف يطلب أحياناً من شركاتٍ مختلفةٍ أن تقدم المقترحات إليه، ثم يجعل مستشاري الشركات المختلفة يطرحون المقترحات أمام بعضهم بعضاً، بينما يراقب هو ذلك، حسبما قال المستشارون.
وقال أحدهم: "إنَّها تشبه مسابقات الجمال".
وفي العام الماضي، انزعج كثيرٌ من المستشارين، الذين يقضون خمسة أيام أسبوعياً في الرياض قبل السفر إلى مكانٍ آخر لزيارة عائلاتهم في أيام العطلات، عندما أخرجتهم الحكومة من فندقهم المفضل الريتز كارلتون، لاستخدامه معتقلاً مؤقتاً لهؤلاء المتهمين بالفساد.
لكن لم يمر وقتٌ طويل بعد إطلاق الحكومة سراح المعتقلين حتى عاد المستشارون مرةً أخرى إلى الفندق.