صاغ جوزيف ستالين، الذي كان يعرف الكثير عن القتل، جملتين شهيرتين في هذا الصدد. أولاهما: "موت إنسان واحد مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات". ولكنه قال ثانية: "الموت يحل كل المشاكل: من دون إنسان، لا وجود للمشاكل".
كلتا الملاحظتين، حسب تقرير نشره موقع The Daily Beast الأميركي، تصبح ذات صلة على نحو مؤسف بيومنا هذا حين نفكر في قضية الراحل جمال خاشقجي. بدأت القضية بتفكير ولي العهد السعودي ذو النفوذ، في أنَّه قد يحل مشكلة بإخفاء أحد منتقديه، وسرعان ما ظهر للجميع أنَّها جريمة قتل ثم اعتبروها مأساة. ومنذ ذلك الحين، تحولت إلى عرض درامي مشوه من أحداث إجرامية حقيقية يجتذب إليه المشاهدين أسبوعاً تلو الآخر. ولكن، مثل ستالين، قد يتمكن الأمير، الذي يُزعم أنَّه المدبِّر لما حدث، من إيجاد طريقة لقلب المأساة لصالحه.
يتساءل كثيرٌ من الخبراء عن كيفية حدوث هذا. كيف أدى التعذيب الوحشي لأحد كُتَّاب صحيفة Washington Post الأميركية وقتله إلى فتح سيل من الانتقادات على النظام في الرياض في حين لم يفعل ذلك تاريخهم الطويل الموثَّق المليء بانتهاكات لحقوق الإنسان داخل السعودية، أو جرائم الحرب خارجها؟ ماذا عن اليمن؟ ولماذا لا تتصدر هذه الكارثة الإنسانية عناوين الصحف وبرامج شبكة CNN الأميركية على مدار اليوم؟ وكيف أنَّ الأميركيين الذين قضوا الأسبوعين الماضيين يتعلمون كيف ينطقون اسم جمال خاشقجي بطريقة صحيحة، لم يتعلموا قط نُطق اسم رائف بدوي الكاتب السعودي الذي هزل في السجون بتهمة "الردة"، حسب تقرير موقع The Daily Beast البريطاني.
لطالما استحوذ المصير المروع للفرد على مخلية العامة
يقول البعض إنَّها مسألة متعلقة بنزعة الأنا المستشرقة. فرغم كل شيء كان خاشقجي "واحداً منَّا" مقيماً في أميركا، ومعلقاً خبيراً ذا دهاء غربي، دائماً ما يكون بالكاد على بعد مكالمة هاتفية عن أي مراسل معني بشؤون الشرق الأوسط يلاحقه انتهاء موعد تسليم تقريره، أو ناقد يبحث عن نوع من السياق حول مؤمرات القصر الأخيرة في البلاط الملكي الذي خدم فيه خاشقجي ذات مرة بإخلاص.
دع جانباً حقيقة أنَّ تعذيب أحد رجال السلطة الرابعة (الصحافة)، وتقطيع جثته وإعدامه بهذه الطريقة فرصة مثالية ليتسابق زملاؤه في الدفاع عنه كشيء بسيط من المجاملة المهنية. لكن لطالما استحوذ المصير المروع للفرد على مخلية العامة بطرق يعجز المصير المروع ذاته، لكن للجموع عن مضاهاتها.
يسهل أكثر على المرء أن يرى نفسه ضحية وحيدة حسب تقرير The Daily Beast، ومن أن يرى نفسه واحداً ضمن حشد من الضحايا. الشهادة لا تحب الشراكة. يمكنك الإحساس بالموت أكثر إذا كان الحادث متعلقاً بشخصية بعينها. كما فهم ستالين الأمر جيداً، فحتى في ظل الاستبداد فإنَّ تنفيذ الانتهاكات بفداحة، والتستر عليها بطريقة سخيفة يعلقان في الذاكرة أكثر بكثير من المذابح الصناعية أو التطهير الأعظم.
لكن حينها بالنسبة لطاغية، حتى خطأ مهيِّج قد يثبت أنَّ له فائدة؛ ولهذا السبب فإنَّ ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يؤمن كثيرون بأنَّه العقل المدبر وراء قتل خاشقجي، قد يكون يبحث عن المزيد من كباش الفداء ليضحي بهم في مذبحة أخطائه. ويمكنه أيضاً وهو ينظف الفوضى التي خلَّفها أتباعه أن يتخلص من المزيد من أعدائه.
عام 1934 قُتل سيرغي كيروف البلشفي صاحب الحضور المميز والخطب الساحرة، الذي كان مؤيداً لستالين، ولكنه كان قيادياً في الحزب الشيوعي ويسعى لتقنين سلطة الأمين العام. قُتل برصاصة في مكتبه بمعهد سمولني في مدينة لينينغراد. كان المنفّذ ليونيد نيكولايف مجرماً صغيراً معروفاً لدى المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية أو جهاز أمن الدولة السوفييتي، الذي أصبح في نهاية المطاف جهاز الاستخبارات السوفييتي (KGB). كان في الواقع معروفاً للغاية لدرجة أنَّ رئيس المفوضية، فانيا زابوروزيتس، في لينينغراد أعطاه البندقية وأرشده إلى هدفه.
استنتج معظم المؤرخين المعاصرين أنَّ اغتيال كيروف كان بأمر مباشر من ستالين، ليس فقط لإزالة غريم كبير محتمل، ولكن لتحرير موجة من التعسف والاضطهاد ضد خصوم آخرين حقيقيين أو مُتخيَّلين ممن يمكن التضحية بهم باعتبارهم المحركين الأساسيين لهذه الجريمة العليا.
ستالين فرض بالاغتيال قبضته على الشعب السوفييتي
في اليوم نفسه الذي قُتل فيه كيروف، أصدر ستالين 3 مراسيم أولها يلزم هيئات التحقيق بالإسراع في إجراءات القضية المتعلقة بالمشتبه بهم في واقعة القتل، ثانيها لا يجب تأخير عقوبات الإعدام؛ لأنَّه لا يوجد قرارات عفو ستصدر، يجب قتل كل المدانين (يقال إنَّهم كانوا كل المتهمين) فور صدور الحكم.
وبدأت الأجهزة الأمنية في موسكو حملة جنونية ضد "التروتسكيين" (أتباع التيار الشيوعي) وغيرهم من المعارضين لديكتاتورية ستالين المتوغلة. وبعدها، وكما هو الحال في كل المؤامرات الإجرامية، تخلصوا من المتآمرين الحقيقيين، ومن بينهم مفوض المفوضية الشعبية والمسؤول عن عملية الاغتيال غينريخ ياغودا.
كتب المؤرخ الراحل روبرت كونكويست عن قتل كيروف، قائلاً: "يحق لهذا الاغتيال كل الحق أن يطلق عليه اسم جريمة القرن. على مدار السنوات الأربع التالية، قُتل المئات من مواطني الاتحاد السوفييتي، ومن بينهم أبرز القادة السياسيين للثورة؛ لمسؤوليتهم المباشرة عن الاغتيال، ولاقى الملايين حرفياً حتفهم؛ لتواطؤهم في جزء أو آخر من المؤامرة واسعة النطاق التي كانت وراء الاغتيال، حسبما زُعم. كان مقتل كيروف في الحقيقة بمثابة حجر الأساس في صرح كامل من الإرهاب والمعاناة، أحكم به ستالين قبضته على الشعب السوفييتي". تبدأ يفغينيا غينسبورغ كتابها "Journey into the Whirlwind" أو "الزوبعة"، الذي يضم مذكراتها عن إرهاب ستالين الذي نجت منه، بهذه الجملة الجاذبة للانتباه: "بدأ عام 1937 واقعياً وفعلياً في نهاية عام 1934، لنكون أكثر تحديداً في أول ديسمبر/كانون الأول" تاريخ اغتيال كيروف.
فكرة أن كيروف كان شيوعياً مؤمناً بفكر حزبه وفي الوقت نفسه موجود داخل المطبخ السياسي للنظام ولم يكن عدواً معلناً للاتحاد السوفييتي- كانت ذات أهمية أيضاً؛ لأنَّ تدميره كان يصور مدى القسوة التي نمت التجربة الروسية عليها.
وهذا سبب آخر لكون محاولات اليمين الداعم لترمب بتصوير خاشقجي في صورة الإسلامي المخرّب أو الجهادي، لا تجدي نفعاً. فلقد كان مقرباً من النظام.
وخاشقجي، الذي عمل في السابق مستشاراً لرئيس الاستخبارات العامة السعودية وكان أحد الموالين للديوان الملكي الذين تحولوا لناقدين له، كان لا يزال يمثل صورة رمزية للمؤسسة السعودية العالقة في صراع مذهبي حول "الإصلاحات" الداخلية بالمملكة وإعادة التوجه الإقليمي تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان.
إذا جردت الادعاءات السعودية المضحكة حول ظروف مقتله، المتعلقة بأنَّه خاض شجاراً بالأيدي مع 15 عميلاً سرياً مدرباً، ومن بينهم خبير في الطب الشرعي مجهز بمنشار عظام، ستجد لديك رسالة مخيفة من محمد بن سلمان، ولكنها لم تمض على النحو المطلوب فنتج عنها: ضجة دولية لم يتوقعها ولا يستطيع فهم أبعادها. ومقاطعات من شخصيات رفيعة المستوى لمؤتمرٍ اقتصادي في الرياض خطط له منذ زمن. والآن، أصبحت غالبية وسائل الإعلام الدولية تألف أفعاله. وترنحت أسعار النفط، إلى جانب احتمالية فرض عقوبات أميركية وأوروبية. ولا تزال تركيا تواصل تسريبها المنتظم للمزيد من الأدلة التي تثبت أنَّ هذه الجريمة كانت متعمدة، لدرجة إقرار النائب العام السعودي الآن بأنَّها كانت متعمدة.
تشير كل تلك الأمور بأصابع الاتهام إلى محمد بن سلمان ودائرته الداخلية، خاصة ذراعه اليمنى سعود القحطاني، الذي يُقال إنَّه مَن أشرف عن بُعد، على مراسم النهاية المؤلمة لخاشقجي، والآن هو في موقف سيئ، ليتشابه مصيره إلى حد بعيد مع مصير ياغودا. كان هناك بالفعل عمليات إقالة وتطهير. قال محمد بن سلمان يوم الأربعاء 24 أكتوبر/تشرين الأول 2018: "سوف نثبت للعالم أنَّ الحكومتين (السعودية والتركية) تتعاونان لمعاقبة أي مجرم وأي جانٍ، وفي النهاية ستسود العدالة". وأفسح إنكار مسؤولية التخطيط لهذه المؤامرة والتعهدات بالقبض على القتلة "الحقيقيين" ومعاقبتهم، المجال للإذلال القهري لأقارب خاشقجي.
يرجح كل هذا أنَّ ما يبدو كأنَّه أزمة عميقة تتعلق بدولة ديكتاتورية متصلبة قد يثبت في الواقع أنَّه أفضل فرصة لمحمد بن سلمان لتوحيد الصفوف. من يجرأ على أن يكون ناقداً أو صريحاً بعد الآن؟ الولاء يعني التقبل دون التشكيك في كذبة واضحة وساذجة، وبهذا يصبح المرء جزءاً من الجريمة.
إذا كنا تعلمنا شيئاً من القرن الماضي فسيكون أنَّ تعزيز السلطة يبدأ بأفعال النفاق الكبيرة.