انتقدت مجلة The Foreign Policy الأميركية الطريقة التي تعاملت بها السعودية مع قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وأيضاً الرواية التي وُصفت بالهزلية والتي قالتها المملكة عن مقتل الرجل.
وقال الكاتب الأميركي الشهير ستيفن والت، الأكاديمي بجامعة هارفارد، في مقال بالمجلة الأميركية، إن الحكومات تفعل أحياناً أشياء سيئة. وأحياناً تفعل أشياء سيئةً للغاية. وعندما تنكشف هذه الأشياء، فإنَّها تحاول دائماً تقليل الآثار السلبية من خلال غيمةٍ كثيفةٍ من الإنكار والأعذار والتبريرات وتلفيق القصص وسبل السفسطة الأخرى.
وأضاف والت: "كتبتُ عن هذه الظاهرة من قبلُ في مقالي المعنون بـ (الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه: دليل إرشادي)، وفي مقالي الآخر المعنون بـ (كيف تبرر أي سياسة، بغض النظر عن مدى السوء الذي قد تبدو عليه؟). يتناول المقال الأول 21 خطوة يمكنها أن تجعل أي إجراءٍ سيئٍ يبدو مقبولاً، فيما يُلخص المقال الثاني القائمة إلى 10 خطوات وحسب".
وتابع: "تشير الأحداث الأخيرة إلى أنَّ الوقت الحالي ملائمٌ لزيارة القائمة مرةً أخرى. وعلى وجه التحديد، إلى أي مدى تتناسب الاستجابة السعودية (وبدرجةٍ أقل، استجابة إدارة ترمب) لمقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي مع المخطط الذي وضعتُه من قبلُ في هذين المقالين؟ أشك في أن يكون أي شخصٍ من كلتا الحكومتين قد قرأ أياً من المقالين؛ إذ إنَّ أغلب الساسة (ولا سيما شخص كاذب بالسليقة مثل الرئيس دونالد ترمب) لا يحتاجون إلى دروسٍ مِنِّي حول كيفية تمويه السلوك السيئ. ومع ذلك، من اللافت للنظر مدى تطابق سلوكهم مع الأساليب التي وصفتها قبل أعوام.
ولكي نجعل هذا بسيطاً، دعونا نلتزم بنسخة الخطوات العشر.
1- "لم يحدث على الإطلاق":
عند مواجهة اتهامات بالقيام بشيءٍ سيئ، فإنَّ أول غريزة تكون إنكار حدوثه من الأساس. بيل كلينتون "لم يمارس الجنس مع تلك المرأة"، ونظام بشار الأسد في سوريا يقول إنَّه لم يستخدم الأسلحة الكيماوية، والحكومة السعودية أنكرت في البداية حدوث أي شيءٍ سيئ لخاشقجي. وقال السعوديون إنَّه وصل إلى القنصلية السعودية في إسطنبول وخرج من الباب الخلفي، وليس لديهم علمٌ بمكان وجوده. لَم تخدع هذه القصة العبثية أي شخصٍ، وانهارت أركانها على الفور تقريباً، لكنَّ الإنكار يشكِّل غالباً أول غريزةٍ عندما يُضبَط الشخص متلبساً بجرمٍ سيئ للغاية.
2- "ألقِ باللائمة على شخصٍ آخر":
بمجرد أن تُجبَر على الاعتراف بحدوث شيء سيئ، سيكون رد الفعل التالي هو إلقاء اللوم على شخصٍ آخر. ظهر هذا التكتيك جلياً عندما عرض ترمب الفكرة التي لا أساس لها والتي تشير إلى احتمالية أن يكون "قتلة مارقون" هم من اغتالوا خاشقجي، ما يعني أنَّها لم تكن عمليةً رسمية. قد يكون ترمب مصيباً من الناحية التقنية، فيما عدا أنَّ "القتلة المارقين" كانوا في الواقع عملاء سعوديين يتصرفون نيابةً عن قائدٍ متزايد في مروقه.
والرواية السعودية حالياً تعتمد على قصةٍ مشابهة: ففي محاولةٍ لإبعاد ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، عن التورط في هذه العملية، سوف يجد السعوديون أشخاصاً غير محظوظين في جهاز الاستخبارات الخاص بهم لتلفيق التهم لهم وإلقاء اللوم على كاهلهم في العملية كلها. ومن المؤكد أنَّهم سيحصلون على بعض المساعدة من ترمب، الذي يبدو حريصاً على إفلات ولي العهد بغض النظر عن كمِّ الأدلة التي تشير إليه.
3- "حسناً، لقد ارتكبنا شيئاً سيئاً. لكنَّنا لم نرتكبه عن عمد":
يأتي هذا العذر المألوف كعنصرٍ رئيسي ضمن المزاعم بأنَّ موت خاشقجي حدث خلال "شجارٍ بالأيدي" غير متوقع، أو التأكيد اللاحق، أنَّه بدأ في الصراخ (يا للغرابة، كيف له أن يفعل شيئاً كهذا؟!) ومات بسبب خنقه بطريقةٍ غير مقصودة. هل ترون ما الذي يدور هنا؟ أجل، علينا الاعتراف بأنَّ الرجل قد مات، لكن لم يقصد أي شخص أن يقتله. فما كان ينبغي له وحسب أن يدخل في شجارٍ مع 15 من رجال الأمن المحترفين المتدربين الحمقى، أو ما كان ينبغي له أن يبدأ في الصياحِ عندما سألناه قليلاً من الأسئلة المهذبة. إنَّه شيءٌ مؤسفٌ، ربما يكون كذلك، لكنَّه ليس خطأنا حقاً، ويجب ألا يكون أي شخصٍ مسؤولاً. ورجاءً توقفوا عن إزعاجنا بالأسئلة المزعجة المتعلقة بالأطباء الشرعيين، ومناشير العظام، ومكان وجود الجثة.
4- "لم يكن لدينا خيارٌ آخر":
تعترف الحكومات أحياناً بأنَّها فعلت شيئاً مؤسفاً، لكنَّها بعد ذلك ستصر على أنَّه لم يكن لديها أي بديل. ولكي نكون منصفين، هذا العذر على وجه الخصوص لم يُستخدم صراحةً في أعقاب مقتل خاشقجي، بمعنى أنَّه لم يكن هناك أي شخص يحاول أن يقول إنَّ الصحافي المغدور شكَّل مثل هذا النوع من التهديد الخطير على الحكومة السعودية، ما يسمح بتبرير اغتياله. لكنَّه فُهِم ضمنياً من الجدال الذي يشير إلى أنَّ العملاء المتورطين قتلوه صدفةً (انظروا إلى الخطوة 3). في هذه النسخة، كان هؤلاء العملاء هناك لاستجوابه (وربما اختطافه)، ولم يكن لديهم "أي خيار" إلا استخدام القوة عندما قاوم. لا يحاول هذا العذر تبرير الفعل نفسه، لكنَّه يسعى لجعل النتيجة النهائية أقل بشاعة.
5- "كان هذا من أجل المصلحة العامة":
تحاول الحكومات عادةً تبرير سوء السلوك، من خلال الاعتراف بأنَّ الأمر مروع، وأنَّه قابل للنقاش من الناحية الأخلاقية، لكنَّه في نهاية المطاف من أجل المصلحة العامة. بعبارةٍ أخرى، الغاية تبرر الوسيلة. تعتبر العبارة السابقة مبرراً معتاداً يُستخدم عندما تشن دولةٌ قويةٌ حرباً على دولةٍ أضعف: بغض النظر عن التكلفة البشرية لإطاحة صدام حسين أو معمر القذافي أو أي شخصٍ آخر، فإنَّها مبررةٌ بزعم أنَّ هذا الإجراء سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى عالمٍ أفضل.
ومرة أخرى هنا، لم أشاهد أي شخص يستخدم هذا التبرير علناً، لكنَّ ترمب وبعض الآخرين استخدموا نسخةً أكثر اعتدالاً منه. عندما يتحدث ترمب عن مليارات الأسلحة الأميركية التي تعهدت السعودية بشرائها، أو عندما يدافع كاتب العمود في صحيفة The New York Times توماس فريدمان عن تقييمه الوردي لمحمد بن سلمان، باعتباره شعلة التقدم في العالم العربي- فإنَّه في الحقيقة يقول: "انظروا، أعترف بأنَّ اغتيال خاشقجي لم يكن شيئاً لطيفاً، لكن أبقُوا أعينكم على الصورة الكبيرة وانظروا إلى الفوائد التي سيجلبها دعم بن سلمان".
وليس من المستغرب أن يأتي أحقر اختلافٍ عن هذا التكتيك من المحافظين الجدد المتشددين المؤيدين لإسرائيل، الذين يتوقون إلى الإبقاء على التحالف الضمني بين محمد بن سلمان وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فكيف يفعلون هذا؟ من خلال تشويه سمعة خاشقجي باعتباره إسلامياً أصولياً متطرفاً كان في تعاونٍ وثيقٍ مع "القاعدة" وقريباً من أسامة بن لادن.
ومن ثم، فإنَّ الآثار المترتبة على ذلك بكل تأكيد، أنَّه استحق القتل، أو على الأقل، يجب ألا تقلقنا وفاته كثيراً. وليست هذه القصة إلا محض خيال؛ إذ إنَّ دعم خاشقجي لأسامة بن لادن وصحبته له تعود إلى الثمانينيات، وتحديداً لفترة الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتي، عندما دعمت كلٌ من السعودية والولايات المتحدة المجاهدين هناك أيضاً. وعندما بدأت "القاعدة" حملتها القاتلة في الشرق الأوسط والغرب، أدانها خاشقجي.
6- "الجميع يفعلون ذلك؛ بل إنَّ خصومنا يفعلونه أكثر مما نفعله":
لم أشاهد أي شخصٍ يستخدم هذا العذر على وجه التحديد، حتى الآن على الأقل، لكنِّي أراهن بأنَّه ينتظر دوره في جعبة الحاوي. بمجرد تحديد هوية كبش الفداء ويتواصل العمل كما هو معتاد، فتوقعوا أن تسمعوا مزيداً من استنكار قيام إيران بـ"زعزعة استقرار" المنطقة وارتكابها آثاماً أخرى، وهو ما سيجري تصويره على أنَّه أكثر بشاعة من أي شيءٍ قد تكون السعودية فعلته. والدرس المستفاد هو أنَّه يجب علينا أن نواصل دعمها، وأن نواصل التهديد بشن حربٍ ضد إيران.
7- تأكيد ضبط النفس: "كان من الممكن أن نفعل شيئاً أسوأ بكثير"
عندما تُحاصَر الحكومات ولا تستطيع إنكار ارتكابها شيئاً خاطئاً، فإنَّها أحياناً تصر على أنَّها تُظهر درجةً كبيرةً من ضبط النفس، وأنَّ علينا أن نكون ممتنين؛ لأنها لا تستخدم كل القوة التي لديها. لستُ متيقناً تماماً كيف يمكن أن يعمل هذا التكتيك في السياق الحالي، وهو ما قد يكون السبب في عدم استخدامه حتى الآن.
لكنَّ المرء يتساءل عما إذا كان الغرض من العملية أكثر من مجرد إسكات صوتٍ معين لديه علاقات جيدة. يشير أحد تأويلات هذا الفصل من الحدث إلى أنَّ العملية كان لها هدفان: إسكات معارض مؤثر، وبَعْثُ رسالةٍ مخيفةٍ إلى أي شخصٍ قد يميل إلى انتقاد ولي العهد وحُكْمِهِ الضال غير الكفء. في هذه النسخة من الأحداث (وهو ما لا يُمكنني إثباته)، أيما امرئٍ صرح بملاحقة خاشقجي، عرف أنَّ العملية لن تبقى سراً، وكان سعيداً تماماً بأن تنكشف مسؤوليته عنها؛ والسبب على وجه التحديد أَّنها ستبعث برسالة إلى الآخرين. وفي هذا الصدد، فإنَّ هذا الفعل كان الجزء الأبغض في الحملة الأكبر التي تشنها السعودية ضد على أي معارضة، وإن كانت معارضةً غير عنيفة. ورغم أنَّ مقتل خاشقجي يتضاءل بالمقارنة مع الكارثة الإنسانية الدائرة باليمن، فإنَّه من المقلق التفكير في أنَّ محمد بن سلمان وشركاءه اعتبروا خاشقجي مصدر خطورة بما يكفي للسماح بإصدار أمر باتخاذ أي إجراءٍ ضده من الأساس.
8- تأكيد وجود مكانة خاصة ("ما فعلناه لم يكن خطأً حقاً؛ لأننا مختلفون"):
حتى الآن، لم تحاول السعودية ادعاء أنَّ أفعالها كانت مبررة، لأنَّها "بلدٌ لا غنى عنه"، وأنَّها بلد "خادم الحرمين الشريفين"، أو مصدر الوهابية. القيام بهذا يتطلب بالتأكيد الاعتراف بشيءٍ أكثر من أنَّها كانت عمليةً مارقةً لم تمضِ على النحو الصحيح. لكنَّ هذا العذر، مثلما ذُكر في السطور السابقة، يبدو ضمنياً أيضاً في المزاعم التي تشير إلى أنَّ الأميركيين يجب أن يتجاهلوا الحادثة؛ بسبب العلاقة الخاصة القائمة بين واشنطن والرياض، والصداقة الوثيقة المفترضة بين محمد بن سلمان وغاريد كوشنر صهر الرئيس؛ فضلاً عن المنافع الاقتصادية التي تقدمها، وما إلى ذلك.
9- استخدام ورقة الاعتراف بالذنب والاعتذار:
يمكن أن يقطع اعتذار صادق شوطاً طويلاً من أجل تهدئة الانتقادات، حسبما أثبت عددٌ كبير من المشاهير والساسة. وبإمكان القادة المتورطين في أنشطةٍ مخادعة استخدام نسخة مختلفة قليلاً من هذه الخطوة، من خلال الزعم بأنَّهم يشعرون بالسوء حقاً لقيامهم بهذه الأشياء البشعة، وأن يوضحوا أنَّهم يهتمون بالعواقب، وأنَّهم لا يشعرون بالبهجة تجاه معاناة الآخرين. هكذا زاد البيت الأبيض في حقبة باراك أوباما من عمليات القتل المستهدف والغارات ضد الإرهابيين المشتبه فيهم (مع معرفته الكاملة بأنَّ بعض الأبرياء سوف يموتون نتيجةً لهذا)، لكنَّه صوّر الرئيس نفسه متألماً من هذه القرارات (وربما كان كذلك بالفعل). ومع ذلك، ستكون النتيجة أنَّ ارتكاب الإثم ليس فادحاً للغاية؛ لأنَّك تشعر بالسوء تجاهه بالطبع.
وكما هو متوقع، عبَّرت الحكومة السعودية عن "أسفها العميق" لما حدث، وتعهدت بالتحقيق في الأمر كله. أتمنى أن تكون رواياتها المستقبلية للحادث أكثر موثوقية من النسخ التي قدمتها حتى الآن، وأن يحاسَب كل شخصٍ يثبت أنَّه كان مسؤولاً. لكنِّي لن أراهن على ذلك. هل رأيت أي شخصٍ في الحكومة الأميركية خضع للمحاسبة للسماح باستخدام التعذيب بالماء أو استخدامه بنفسه ضد محتجزين؟
10- دفاع رامسفيلد ("هذه الأمور تحدث"):
عندما يفشل كل ما سبق، يمكن أن يجرب المرء دائماً حجة الدفاع الكلاسيكية للسياسي دونالد رامسفيلد، التي تقول إنَّ "هذه الأمور تحدث". في واقع الأمر، ادعاء أنَّ "هذه الأمور تحدث" ليس إلا محاولة تمويه لإنكار أنَّ أي شخصٍ يمكن في أي وقت أن يكون مسؤولاً عن أي شيء في هذا العالم المجنون خاصتنا. "الحرية فوضوية"، والحياة معقدة، وصياغة السياسات أمر غير مؤكَّد العواقب، والمرؤوسون يخطئون أحياناً، والأفعال التي تُنفَّذ من أجل أفضل النوايا ينتج عنها أحياناً عواقب مريعة. فمن الذي كان يمكنه أن يعرف أنَّ المسكين خاشقجي كان سيقاوم محاولتنا استجوابه، أو تعذيبه، أو اختطافه، أو أي شيء كنا ننوي أن نفعله معه؟
لذا، فإنَّ السعودية تتبع المعادلة القديمة التي يستخدمها المذنبون من أجل لتسهيل الأمر على النقاد ليهدأوا ويتجاوزوا الأمر. وليس من المستغرب أنّها تحظى بيد عونٍ من البيت الأبيض، الذي ثبتت لا مبالاته بالحقيقة. ليس ثمة شيءٌ فريدٌ حقاً حول مثل هذا السلوك، وعلى الرغم من هذا، إذا كان لدينا أي شيءٍ في هذا المقال لنُوضِّحه، فسيكون تأكيد أنَّ وجود رغبةٍ حقيقيةٍ في الاعتراف بارتكاب الخطأ ومحاسبة المسؤولين ليس القاعدة في أغلب الأنظمة السياسية؛ بل إنَّه استثناءٌ إلى حد كبير.
لكن، إذا كان هذا النوع من السلوك منتشراً جداً، فلماذا علينا أن نكترث؟ إذا كانت أي حكومة قادرةً على القتل والإفلات من العقاب، حتى لو وقع ذلك في بلدٍ أجنبي؛ فإنَّ هؤلاء الأشخاص الذين يواجهون استياءها بسبب قول الحقيقة يصبحون معرَّضين للخطر. وعندما يصبح قول الحقيقة شيئاً خطيراً، تتكاثر الأكاذيب، وهؤلاء الذين لديهم السلطة يستطيعون استخدامها للإفلات من العقوبة. فتمسي النتيجة النهائية كارثيةً في المعتاد.