اعتبرت مجلة The National Interest الأميركية أن سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، في الشرق الأوسط ستدفع كل الفصائل الشيعية إلى التكاتف والتقرب أكثر نحو إيران؛ بسبب الدعم اللامحدود الذي تقدمه الإدارة الأميركية إلى السُّنة بالمنطقة والمتمثل في السعودية والإمارات.
وقال كل من بايام محسني، مدير برنامج إيران في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بكلية كينيدي للشؤون الحكومية في جامعة هارفارد، ومساعده عمار نخجفاني، في تقرير بالمجلة الأميركية، إن حالة العزلة التي يحاول أن يفرضها ترمب على إيران ستؤدي إلى زيادة التكاتف مع الفصائل الشيعية العربية غيرها؛ بسبب حالة القلق من الدعم المقدَّم لأعدائهم من المذهب السُّني.
ترمب لإيران: إما تغيير النظام وإما التخلي عن البرنامج النووي!
وبحسب الكاتبين، فقد قرَّر الرئيس الأميركي أنَّ النهج الأفضل تجاه إيران هو التحدث بصوتٍ عال والإمساك بعصا غليظة، على أمل أن يؤدي الضغط الصارم على إيران إما إلى تغيير النظام وإما إلى تخلي البلاد عن سياساتها الخارجية المثيرة للجدل.
وبحسب المجلة الأميركية، فإن هذا التهديد والوعيد -على الأرجح- سيُضعف القوة الأميركية في المنطقة، ويضع السياسة الأميركية على مسار صراعٍ آخر خطير بالشرق الأوسط. وبالقدر نفسه من الأهمية، تُنذِر التوترات المتزايدة مع إيران أيضاً بالسوء فيما يتعلَّق بتخفيف التوتر الطائفي بالعالم الإسلامي. وهذا لأنَّ الشيعة ينظرون إلى السياسات الأميركية باعتبارها تفتقر إلى التوازن بين الأطراف الفاعلة السُنّيّة والشيعية الإقليمية.
تُلقي الولايات المتحدة تحت حكم ترمب بثقلها كاملاً خلف المعسكر الداعم للمواجهة بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وتراجعت الولايات المتحدة عن سياسات الرئيس باراك أوباما، المتمثلة في اتخاذ نهجٍ متوازن تجاه إيران والمجموعات الشيعية العابرة للحدود الوطنية.
وتضمَّن هذا التحول الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما لم يؤدِّ إلا إلى تعميق الخلاف الطائفي بالمنطقة. وفي حين أنَّ استراتيجية ترمب هي سياسة تقليدية من سياسات تيار المحافظين الجدد ميَّالة إلى المواجهة كما يبدو، وهي مواجهة مدفوعة بالأيديولوجيا بدلاً من السياسية الواقعية- فإنَّها اكتسبت أيضاً طابعاً حزبياً وطائفياً في ظل خطابٍ وسياسات يبدو معها كما لو أنَّ الولايات المتحدة تنحاز إلى أطرافٍ بالصراعات الطائفية في العالم الإسلامي، بحسب المجلة الأميركية.
حركة شيعية إقليمية أكثر تماسكاً تحت حماية إيران
وسيتسبب التركيز الضيق للإدارة بالضبط في ما تهدف إدارة ترمب إلى تجنُّبه: حركة شيعية إقليمية أكثر تماسكاً تحت حماية إيران، وشيعة مغبونون داعمون للتصدي للنفوذ الأميركي في المنطقة، كما يقول الباحثان.
وبعبارةٍ أخرى، فإن المسار الأميركي الحالي يُضيِّق نقاشات السياسة داخل كلٍ من التنظيمات الشيعية الفردية، وكذلك عبر التحالفات الشيعية العابرة للحدود، بإغلاقه الباب أمام إيجاد بدائل سياسية موالية للولايات المتحدة. وتُسبِّب سياسات ترمب توطيداً لنظرةٍ أمنية مشتركة مناوئة للولايات المتحدة تُوحِّد المجموعات المختلفة الموجودة في أنحاء العالم الشيعي.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2017، جادل البيت الأبيض بأنَّ السياسة الأميركية كانت خاطئة؛ لأنَّها "منحت الأولوية باستمرار للتهديد المباشر للتنظيمات السُنِّيَّة المتطرفة على حساب التهديد الأطول أجلاً، المتمثل في التشدُّد المدعوم إيرانياً". هذا التصريح عرَّض بالقوى الشيعية العربية المتنوعة والأصيلة وخلط بينها وبين إيران، وخلط بشكلٍ غير مباشر بينها وبين مجموعاتٍ مثل تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بحسب المجلة الأميركية.
بالإضافة إلى ذلك، دعا وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، إلى "عودة الميليشيات الإيرانية الموجودة في العراق… إلى ديارها"، مُتسبِّباً في رد فعلٍ فاتر من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، خصوصاً أنَّ الخطاب جاء مطابقاً للغة الطائفية التي تساوي بين العرب الشيعة كافة والهُوية العِرقية الإيرانية. وهذه السياسات مجتمعةً تخلق تصوُّراً بأنَّ الولايات المتحدة انحازت ضد الشيعة في الصراعات الدائرة بالمنطقة.
ما الحل لإيجاد سلام إقليمي؟
وبحسب المجلة الأميركية، أدركت الإدارات السابقة أنَّ الطريق إلى سلامٍ إقليمي يتطلَّب نهجاً غير طائفي. لكنَّ مَزْجَ ترمب سياسة تغيير النظام في إيران مع نظرةٍ إقليمية تُردِّد الخطاب الطائفي- يُهدِّد بقلب هذا الإدراك الهش. كانت إدارة بوش حريصة على وصف الإسلام بأنَّه "دين سلام"، وعملت مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، رغم تعاطفه مع إيران.
وانتهجت إدارة أوباما أيضاً حياداً براغماتياً مع حلفائها الإقليميين، وهو ما اتضح في محاولتها إذابة الجليد في العلاقات الأميركية-الإيرانية، وإصرارها على أن "تتعلم" السعودية وإيران "أن تتشاركا الخليج".
وحين تُركِّز الولايات المتحدة الآن على إيران باعتبارها "الفاعل الوحيد السيئ" في المنطقة -ولا شك في أنَّ هناك مخاوف وخلافات حقيقية بهذا الشأن- فإنَّ أميركا تمنح تفويضاً مطلقاً لبلدانٍ مثل السعودية، في حين تنسى تدخُّل السعودية باليمن، ولبنان، وقمعها الاحتجاجات في البحرين، إلى الدعم المزعوم للمجموعات المسلحة بالعراق وسوريا، بحسب المجلة الأميركية.
وهذا سيضر بالمصالح الأميركية الاستراتيجية طويلة الأمد عن طريق الإخفاق في التقارب مع إيران وغيرها من الحركات التي يقودها الشيعة، من خلال مباعث الاهتمام العملية المشتركة في الشرق الأوسط، وبدلاً من ذلك سيحفزهم للعمل كأطرافٍ مُخرِّبة للمصالح الأميركية بالمنطقة.
شيعة ولكن مختلفون عن إيران!
وفي حين قد يكون للكثير من الحركات الشيعية اختلافات في الرأي مع إيران، فمن المستبعد أن تقف أي مجموعة شيعية شعبية إلى جانب الولايات المتحدة ما دامت إدارة ترمب تدعم السعودية دون نقدٍ أو تمييز، وما دام التهديد بصراعٍ عسكري مع إيران يلوح في الأفق.
وسيُلقي الشيعة القلقون من احتمالية تزايد التمييز الطائفي والعدوانية الأميركية بثقلهم خلف إيران والحركات السياسية الشيعية الإقليمية. وهذا يُرسِّخ أكثرَ موقع إيران باعتبارها مركز العالم الشيعي، وكذلك شراكتها الطويلة مع مختلف الحركات الشيعية العابرة للحدود في أنحاء الشرق الأوسط، مثل حزب الله اللبناني، والكثير من ميليشيات قوات الحشد الشعبي العراقي، وجماعة أنصار الله الحوثيين باليمن، وجميعها منخرطٌ في نقاط ساخنة إقليمية حساسة، بحسب المجلة الأميركية.
مثل هذه المشاعر تنطبق أيضاً على المؤسسات الدينية الشيعية المعروفة باستقلاليتها في العراق (المرجعية) بقيادة آية الله علي السيستاني، الذي يُمثِّل رفضه -وفق بعض التقارير– مبادرات ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إشارةً واضحة على الهُوة العميقة الموجودة بين الجانبين. ويُعَد الاستعداد للعمل مع السيستاني ورجال الدين العراقيين المعتدلين الراغبين في اتخاذ العراق مساراً وسطاً مستقلاً- شرطاً مُسبقاً ضرورياً لإيجاد علاقاتٍ ثنائية بنّاءة. فعلى سبيل المثال، استخدم السيستاني في الماضي على نحوٍ فعالٍ "حق النقض" ضد السياسة الأميركية، في مراحل حاسمة.
القصة ليست في أنهم شيعة فقط، ولكنْ مظلمون أيضاً
ومن منظورٍ تاريخي وهيكلي، لا تقوم الكثير من الحركات الشيعية المتحالفة مع إيران، مثل حزب الله وفصائل الحشد الشعبي العراقي، بذلك بصورةٍ تامة على أساس الارتباط الطائفي مع طهران؛ بل تنظر إلى إيران كشريكٍ في مظالمها ضد هيكلٍ أمني إقليمي أقصى الشيعة طويلاً.
وهذه المجموعات هي نتاج الحرب وعدم الاستقرار، وحصلت على الدعم من إيران لتنظيم وتأكيد نفسها على نحوٍ فعال محلياً. وما دامت الحرب وسياسة حافة الهاوية مستمرةً في الأفق، فمن المستبعد أن يَفصِل شيعة المنطقة أنفسهم عن إيران بدرجةٍ كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك، معظم شيعة المنطقة لديهم علاقاتٌ تاريخية طويلة وارتباطٌ مع إيران باعتبارها موقعاً للحج، والتعلُّم، والقيم الثقافية-الدينية المشتركة، بحسب المجلة الأميركية.
وعلاوةً على ذلك، لا تعني الاختلافات في الرأي أنَّ كل الشيعة سيَقبلون النهج السعودي تجاه إيران. فعلى سبيل المثال، في العراق، كان يُنظَر إلى رجل الدين مقتدى الصدر، على نطاقٍ واسع، باعتباره قريباً من السعوديين والإمارات، لكنَّه مع ذلك أعلن تحالفاً مع "ائتلاف الفتح" المنبثق عن الحشد الشعبي المتحالف مع إيران. وفي لبنان، قام حزب الله وحلفاؤه بأقوى أداءٍ انتخابي، وهم متداخلون رسمياً مع الدولة اللبنانية.
ما الحل إذاً؟
ويقدم الباحثان في المجلة الأميركية الحل، قائلَين: إن كانت الولايات المتحدة راغبةً في التعاون مع الأطراف السياسية الرائدة ودولتي العراق ولبنان، فعليها أن تأخذ بالاعتبار مخاوف الشيعة الرئيسية والشروع في نهجٍ متوازن مع القوى الإقليمية.
وبخلاف ذلك، ستبدو أميركا متحيِّزةً باتجاه التيارات الوهابية أو السلفية المرتبطة بالممالك الخليجية، التي كانت أول من أشاد بسياسات الإدارة تجاه إيران. وهذا سيضر بالتعاون المحتمل مع القوى الشيعية المعتدلة مثل السيستاني. وعلاوةً على ذلك، سيزيد الانحياز الأميركي لصالح السُنّة التوترات مع القوى الإقليمية مثل تركيا وقطر، اللتين تحركتا مؤخراً أقرب إلى إيران، في محاولةٍ لتحقيق التوازن ضد السعودية. ويتضمَّن مثالٌ آخرُ الكويت وسلطنة عُمان، اللتين تتبنَّيان موقفاً متوازناً لأسبابٍ شبيهة. وستكون الولايات المتحدة حكيمةً بمراقبة ومحاكاة هذا التوازن الدقيق.