بالرغم من وصف صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية رجل الدين العراقي، مقتدى الصدر، بـ"صانع الملوك" في بلاده، إلا أنها قالت، في تقرير لها، إن الرجل يواجه تحدياً كبيراً، يتمثل في تلبية آمال قاعدته الشعبية في مدينة "الصدر"، التي سمِّيت بهذا الاسم تيمناً بوالده.
فقد حقق التحالف الذي يقوده الصدر نتائج كبيرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ما يؤهله للعب دور كبير في رسم معالم الحياة السياسية في البلاد خلال السنوات القليلة القادمة.
وبحسب الصحيفة، فقد ساهمت مدينة الصدر الفقيرة الكائنة ببغداد، في تحقيق نصرٍ غير متوقع في الانتخابات العراقية لرجل الدين، والآن، يواجه تحالفه مهمة شاقة، تتمثل في تنفيذ وعود التغيير النبيلة لفقراء المدينة.
نموذج للفقر وضعف التنمية
تُعَد مدينة الصدر، التي تضم أكثر من ثلاثة ملايين يُشكِّلون نحو ثلث سكان بغداد، مثالاً صارخاً على العلل الاقتصادية التي أصابت البلاد، وفق التقرير، فأكوام القمامة متكدسة على جوانب الطرقات، وعشرات الأطفال يتجولون بالبضائع لجني بعض المال، وانقطاع المياه والكهرباء يُعد أمراً روتينياً في المساكن المتداعية.
فاز ستة من حلفاء الصدر بمدينة الصدر بمقاعد في انتخابات 12 مايو/أيار، التي لم يشارك فيها أكثر من نصف العراقيين، ما عكس لوماً واسعاً للطبقة السياسية التقليدية على إهمال مناطق مثل مدينة الصدر، في حين تنشغل بإثراء نفسها.
بالنسبة لمدينة الصدر، تُعَد تلك لحظةً نادرة من القوة السياسية وتغيُّراً ملحوظاً عن فترة ما بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، عندما كانت المنطقة الفقيرة ساحةً للقتال.
في ذلك الوقت، واجهت القوات الأميركية مقاومةً شرسة في مدينة الصدر من قبل قوات جيش المهدي، التي أسسها "مقتدى"، وفكرت واشنطن بالفعل في إلقاء القبض على الرجل، الذي كان يُنظَر إلى خطاباته النارية على أنَّها تُحرِّض على العنف.
أما الآن، يُعَد الصدر صانع ملوك سياسي، إذ شكَّل تحالفاً مع الشيوعيين وفاز بـ54 مقعداً في البرلمان، المكون من 329 مقعداً، أكثر من أي كتلةٍ أخرى.
لكن هذا التحالف يقل كثيراً عن الأغلبية، وتصطدم الوعود التي قدمها الصدر لمواجهة المشكلات الاقتصادية وإجراء إصلاحٍ شامل للنظام السياسي بعوائق أثناء محاولته تشكيل حكومة، وهي عمليةٌ قد تستغرق شهوراً، بحسب "وول ستريت جورنال".
وترى الصحيفة الأميركية أن الصدر لا يسعى أن يصبح شخصياً رئيساً للوزراء، مُفضِّلاً النأي بعيداً عن المعترك السياسي باعتباره رجل دين.
ويتعين على تحالفه، المعروف باسم "سائرون"، أن يدخل في شراكاتٍ مع الأحزاب السياسية التي لا ترغب في التخلي عن امتيازاتها.
وينقل التقرير عن محللين أنَّ المحادثات حول تشكيل الحكومة قد تسفر عن رئيس وزراءٍ ضعيف، لا يمكنه إجراء تغييرات شاملة أو حتى معالجة المشكلات الاقتصادية للبلاد.
ويرغب الكثير من العراقيين في تلك الأشكال من التغيير التي ينادي بها الصدر، لكنَّهم متشككون، إذ يُشكِّل الصدر، بحسبهم، جزءاً من المؤسسة السياسية التي انتقدها بشدة، وقد أُطيح بالمحافظ السابق لبغداد، الذي كان ينتمي للكتلة السياسية للصدر، بسبب اتهامه بالفساد.
تنقل الصحيفة عن "جاسم الحلفي"، وهو أحد سكان مدينة الصدر وعضو بارز في الحزب الشيوعي العراقي، المشارك في المفاوضات بشأن إنشاء حكومة، إنَّ أكبر اختبارٍ يواجه الصدر وحلفاءه هو التحكم في توقعات أتباعهم.
ويقول الحلفي: "كيف يمكننا أن نقنع مؤيدينا أنَّ الإصلاح لن يتم على الفور؟"
العائلة والمدينة
يرتبط "مقتدى" وعائلته ارتباطاً وثيقاً بمدينة الصدر، إذ تزين شوارعها المتداعية صورٌ للصدر بلحيته الرمادية في ثوبه الأسود وعمامته المميزان له، وكذلك صورٌ لوالده محمد صادق الصدر، الذي اغتيل عام 1999 إثر معارضته لصدام حسين.
أُنشِئت المنطقة الكائنة شرقي بغداد عام 1959 على يد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، الذي أطاح بالنظام الملكي في البلاد. وسُمِّيت مدينة الثورة، لكن سرعان ما اشتهرت بالفقر المستشري.
أعاد صدام حسين تسميتها باسمه عندما تولى السلطة، إلا أنَّ نظامه أهمل المنطقة ذات الغالبية الشيعة، والتي أصبحت معقلاً لمعارضة ديكتاتوريته.
يقول "كريم مطشر"، الذي يعمل لدى السلطات المحلية في مدينة الصدر: "اتخذت (المدينة) على الدوام موقفاً معارضاً ضد الدولة بسبب معاناتها من الفقر والحرمان".
اليوم، تعكس مدينة الصدر محاولات الزعيم الشيعي إعادة تشكيل نفسه، وهو بالرغم من استمراره في انتقاد الولايات المتحدة، فإنه أشار إلى استعداده دعم رئيس الوزراء الحالي، المدعوم أميركياً، حيدر العبادي.
تعرض اللوحات الإعلانية في مدينة الصدر تغريدات للسيد "مقتدى" توضح رفضه للطائفية، ومطالبته بتعيين مسؤولين ووزراء تكنوقراط، وهو ما من شأنه إنهاء تقليد تقسيم المناصب بين المجموعات الكردية والسُنّيّة والشيعية في البلاد، واستغلالها في المحسوبية والرشاوى.
ملأ أتباع الصدر الفجوة التي خلّفتها الدولة في المدينة من خلال "مكتب الشهيد"، الذي يعمل كنوعٍ من حكومة الظل، ويعنى بتقديم المساعدة للأكثر احتياجاً، وتسوية النزاعات، ومساعدة المواطنين على التعامل مع الوكالات الحكومية من خلال الاتصالات الشخصية.
وقد تولى أتباعه صدارة المشهد في الاحتجاجات على الفساد في العراق عام 2016، والتي انتهت باقتحام المتظاهرين لبرلمان البلاد، وهو تعبيرٌ عن الغضب السياسي الذي تردد صداه في الانتخابات الأخيرة.
تشكيك عام
منذ انتصاره في الانتخابات الأخيرة، يلتقي الصدر شخصياتٍ من مختلف ألوان الطيف السياسي العراقي، لكنه لم يقل إلا القليل بخلاف تغريداته المبهمة.
وقال في مؤتمرٍ صحفي بعد الانتخابات: "سنشرع إن شاء الله في مرحلةٍ جديدة لبناء العراق وحكومةٍ أبوية ديمقراطية من التكنوقراط"، إلا أنه لم يستجب لطلبات إجراء مقابلة، وهو ما وضع العديد من علامات الاستفهام إزاء وجود برنامج ورؤية واضحة المعالم لديه أو لدى تحالفه السياسي أو تياره الديني.
وتواجه قادة البلاد تحدياتٍ هائلة، بما في ذلك إعادة إعمار المناطق المدمرة بفعل الحرب ضد داعش ومنع عودة التنظيم من جديد، ويقول البنك الدولي إنَّ العراق يحتاج لأكثر من 80 مليار دولار لإصلاح الأضرار، لكنَّه يعاني لجذب الاستثمار الأجنبي.
ومن غير المرجح أن تتبع حكومة يدعمها الصدر توصيات صندوق البنك الدولي لكبح الإنفاق العام وسد عجز الموازنة، وقد عمل حلفاء الصدر السياسيين على منع محاولة من العبادي لرفع الدعم عن الكهرباء، الذي يكلف الدولة نحو 10 مليارات دولار سنوياً.
ويقول أتباع الصدر إنَّهم لا يزالون يركزون على مساعدة فقراء البلاد، الذين يشكلون نحو 30% من عدد سكان البلاد، البالغ أكثر من 37 مليوناً، بحسب مكتب العبادي.
وقال علاء الربيعي، أحد المرشحين الستة من مدينة الصدر، الذين فازوا بمقاعد في البرلمان المقبل ضمن تحالف سائرون: "سنخوض معركةً لاستعادة حقوق هؤلاء الناس"، وسيترتب على الناخبين الانتظار للتحقق من وجود أمل فعلاً، أو الانتقال إلى مرحلة إحباط أكبر.