بالرغم من الحرب والدمار والخوف وقلة الموارد، تشهد محافظة إدلب، شمال غربي سوريا نشاطاً كبيراً للمبادرات النسوية، أعاد رسم ملامح المنطقة التي تستعد لمواجهة عنيفة بين المعارضة والنظام.
ويلقي تقرير نشرته صحيفة الغارديان "The Guardian" البريطانية، السبت 26 مايو/أيار 2018، الضوء على المبادرات المدنية في إدلب، والتي يقول إن كثيراً منها تديرها نسوة، دفعتهن الحرب، دون سابق توقع أو إعداد، إلى صفوف القيادة.
ويرجع ذلك جزئياً إلى غياب الآباء والأزواج والأبناء، الذين باتوا إما قتلى أو مفقودين أو مشغولين في ساحة القتال، وإلى تفكك الأعراف والمحظورات التي اعتاد المجتمع فرضها، والتي تقرر ما يُسمح للنساء بفعله وما يُعد محظوراً عليهن.
وتعكس الصورة الكلية للصراع في سوريا أن أكثر المتضررين منه كن النساء والفتيات، سواءً بسبب ممارسات النظام، أو أفكار متشددين إسلاميين يتحكمون في بعض المناطق.
وبالرغم من ذلك المشهد، تشير الصحيفة البريطانية إلى تقرير جديد يحمل عنوان Idlib Lives – The Untold Story of Heroes، أعدته مجموعة "من أجل سوريا" الحقوقية، والمنظمة المناهضة للحرب Peace Direct، الذي يرسم صورة مذهلة لمدى المرونة المبدعة والأفكار الخلاقة التي تنافح بها إدلب لتنتشل نفسها من الشدة المضنية التي ألمت بها؛ لا سيما بعد أن ذكرت الأمم المتحدة أنَّ المساعدات العالمية قد هوت إلى مستويات حرجة.
أبطال مجهولون
يقول التقرير إن "المجتمع المدني في إدلب يواصل العمل بنجاعة وإصرار يثيران الدهشة في مواجهة هجمات من جميع الجهات. وفي المناطق التي باتت مشهورة في أرجاء العالم بما وقع فيها من مجازر، ثمة قصص لم تُعرف بعد عن مئات المجموعات التي تقدم الخدمات التي يحتاجها المدنيون ليظلوا على قيد الحياة".
ويضيف أنَّ مبادرات المساعدة الذاتية تلك تُحدد شكل سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، تماماً كما ستحدده التسوية السياسية المفروضة من الخارج.
ويوضح التقرير: "يُمثَّل المجتمع المدني في إدلب أفضل فرصة لإرساء مؤسسات ديمقراطية حرة.. وتقف إدلب عند مفترق طرق ولكن إذا استثمر الساسة والمانحون الدوليون، والمنظمات غير الحكومية العالمية وصناع السياسات على مستوى العالم في المجتمع المدني، فسنرى أفكاراً وحلولاً تتجلى" لإنهاء أزمة المحافظة.
مريم ونورا ومُزنة وغيرهن الكثيرات!
تعمل "مريم شيرويت" مديرةً ومعلمةً في معهدٍ يُقدم دروس تقوية للأطفال، بعد ساعات المدرسة، كما شاركت في تأسيس المنظمة السورية للمرأة وتدير مكتب المرأة في منظمة "Zoom In" المعنية بالعمل المدني.
تقول مريم: "ننظم الكثير من الأنشطة مع الطلاب. ذات مرة طهونا معاً ووزعنا الطعام على الأسر الفقيرة. حين أرى الأطفال يأتون إلى المركز تحت القصف، لأنهم يريدون قضاء الوقت معي ومع أصدقائهم أطرد من رأسي تماماً فكرة الاستسلام والتوقف عن أداء عملي".
تجد مريم، إلى جانب ذلك النشاط، الوقت أيضاً لمساعدة نساء أخريات في العثور على عمل، وتأسيس شركات ومؤسسات خاصة بهن.
وتتابع: "العديد من النساء يمتلكن مهارات الحياكة، ونحاول منذ فترة تنظيم ورشة عمل في الحياكة تتشارك فيها النساء الأفكار الإبداعية. إحدى النساء النازحات من دمشق تبلي بلاءً حسناً في إعادة تدوير الملابس. في البدء، كان المجتمع ينظر باستغراب واستهجان إلى أداء المرأة لعدة أدوار وذهابها حيث شاءت. الآن بات المجتمع يعتبرني قدوة للفتيات".
وتضيف مريم: "ما مررنا به زادنا قوة. لو لبث الناس في بيوتهم للتحسُّر (على حالهم) لتوقفت الحياة منذ وقت طويل. لكن الحياة لن تتوقف، وعلينا مواصلة السعي والعمل. أؤمن بأهمية العمل حتى آخر لحظة ممكنة".
أما "نورا حلبي" (اسم مستعار) فهي منسقة مشاريع تعمل مع مراكز النساء التابعة لمنظمة الخوذ البيضاء (المعروفة أيضاً بالدفاع المدني السوري).
تقول نورا إن المراكز تقدم الإسعافات الأولية وعمليات التوليد، وهي متخصصة في علاج إصابات النساء، فيما تنظم متطوعات لدى المراكز حملات توعية لتأهيل السكان على مواجهة الغارات الجوية والهجمات الكيماوية ويقدمن دورات تدريبية في الإسعافات الأولية الأساسية والتمريض.
وتشير الناشطة السورية أن بعض تلك المراكز يتخذ من الكهوف مقرات لها؛ وبعضها يحتمي في مناطق محصنة.
وتضيف: "لم تكن فكرة انضمام المتطوعات إلى الخوذ البيضاء محل قبول لدى المجتمع في بادئ الأمر. ولكن لأننا قادرون على تقديم خدمات مصيرية لا يمكن للمتطوعين الرجال تقديمها في مجتمعاتنا المحافظة، مثل العناية بالنساء المصابات ودخول المنازل والمدارس، بدأ الناس يدركون الأثر الإيجابي لعملنا. بل إنَّ الناس باتوا يريدون أن تنضم فتياتهم إلينا".
وحول التحديات التي تواجههن تقول: "السلامة هي أكبر التحديات التي تواجهنا. فليست جميع المراكز محصنة، وبعضها حتى لا يوجد به قبو، لذا فهي أكثر عُرضة لخطر الغارات الجوية. فمراكزنا تعد أهدافاً (لغارات النظام)".
"مُزنة" هي المدير العام لمركز "النساء الآن" في معرة النعمان، درست الهندسة الطبية الحيوية في جامعة حلب، قبل أن تتفتح مركزاً للتعليم الحر للنساء عام 2014.
تقول مُزنة: "لدينا مركزان في إدلب، مركز لتمكين المرأة والآخر مقهى إنترنت للنساء، ولدينا دار حضانة وجليسات أطفال مُدربَات".
وتشير أنها تركز على تدريب النساء على مهارات القيادة، من خلال برامج تدريبية، تتضمن حزمة من المهارات التي تعد النساء لتولي مناصب صنع القرار.
وتضيف أن تلك المبادرة ساعدت العديد من النساء في الحصول على عمل لدى مجالس محلية وجمعيات أهلية؛ "وبمجرد أن تحضر النساء الدورات التدريبية، يكتسبن المعرفة ويكوِّنّ صداقات؛ وهذا وحده يمثل دعماً وتمكيناً لهن".
تؤكد مزنة صعوبة حياة من فقدن أزواجهن، ورغبتها في المساهمة بتحقيق استقلالهن، وتضيف: "حين يشعر المجتمع هنا بالأثر الإيجابي لعمل النساء سيكف عن مجابهته. أعرف العديد من النساء من برنامج القيادة اللاتي يعملن الآن فيما يجلس أزواجهن بالمنزل مع الأطفال. الحياة لا تتوقف، سواءً أثناء القصف أو في غيابه. لدينا الرغبة في العيش والنجاح والاستقلال".
وتدير سيدة أخرى مدرسة ابتدائية للفتيات يدرس فيها 100 من أطفال المدينة والنازحين إليها. وبعد أن أُخرجت قسراً من داريا، في ضواحي دمشق، ومن مدرستها هناك، فتحت مدرسة في قرية "أطمه" على الحدود مع تركيا.
تقول مديرة المدرسة: "ليس لدينا خيارٌ آخر بالنسبة للأطفال الذين أجبروا على النزوح معنا من داريا. لم تقبلهم أي مدرسة هنا. وتلقينا وعوداً بافتتاح مدرسة في المخيم، ولكن هذا لم يحدث".
وتضيف: "نقدم للأطفال الكتب والدفاتر. يحب طلابي الرسم؛ وأعد لهم مشاريع فنية ويدوية حول الموضوعات التي يتناولونها في فصول أخرى. وحين تعلموا الهرم الغذائي في العلوم، رسمناه معاً في حصة الرسم. لا توجد متاجر لبيع الكتب هنا لنشتري منها القصص، لذا علينا التعامل وفق ما هو متاحٌ على شبكة الإنترنت".
وتشير السيدة إلى صعوبة إيجاد معلمين متمكنين، ما دفعها إلى تنظيم ورش عمل لتدريب معلمين وتمكينهم من المساهمة في المدرسة.
من جانب آخر، أسس بعض الرجال مبادرات تركز على رفع مهارات النساء وإتاحة فرص عمل لهن، أحدهم "رائد فارس" مؤسس ورئيس حملة إعلامية معروفة باتحاد المكاتب الثورية.
معظم موظفي الاتحاد من النساء اللاتي يدرن ستة مراكز للفتيات، و12 مركزاً للأطفال فضلاً عن المحطة الإذاعية الأكثر شعبيةً في إدلب.
يقول رائد: "ندرب منذ عامين 28 امرأة في الإذاعة، بينهن محررات ومذيعات. العام الماضي منعت هيئة تحرير الشام ظهور الموسيقى والنساء في الإذاعة. وجاءتنا فكرة تغيير أصواتهن رقمياً بحيث تخرج كأصوات الرجال".
يعبر الرجل عن شعوره بالفخر لعمله مع الشابّات، ويضيف: "حين فتحت مركز النساء في بادئ الأمر لم يلقَ قبولاً لدى المجتمع. والآن بات لدينا عشرات المراكز وأصبح من الطبيعي أن تعمل النساء. يريد الناس لبناتهم أن يعملن في مراكزنا. وتواجهنا مئة مشكلة يومياً، ونعمل في ظل ظروفٍ لا يواصل العمل في ظلها إلا مجنون. ولكن هذا يسعدني؛ وكلما زادت التحديات، زاد إصراري".