تعهدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإيقاف دعم إيران للمليشيات القوية في الشرق الأوسط. لكن تمرداً محدوداً في البحرين يُمثَّل تحدياً مختلفاً للولايات المتحدة.
تقول السلطات الأميركية إنَّ التمرد في البحرين، وهي مركز رئيسي للعمليات البحرية الأميركية، قد تزايد على مدار العام الماضي بوجود مجموعة من الجماعات المدعومة من إيران تشنّ هجمات ضد قوات الأمن بأسلحة "مُهربة".
فما الذي يميز البحرين عن باقي مناطق تواجد إيران؟
بخلاف لبنان والعراق وسوريا، حيث توجد قوات كبيرة مدعومة من إيران مُجهزة بأسلحة ثقيلة وتمارس نفوذاً سياسياً متزايداً، فإنَّ "المتمردين" -بحسب وصف صحيفة Washington Post– في البحرين -حيث غالبية السكان من الشيعة- مجهزين بأسلحةٍ خفيفةٍ ويعملون في خلايا منعزلة بينما يخططون لهجمات صغيرة.
يصف المسؤولون الأميركيون الدولة، بقيادتها العربية السنّية، والوجود المكثف للشرطة بها وحجمها الصغير، بأنَّها "بيئة قاسية" على الناشطين الذين تربطهم علاقة ما بإيران، إذ يتمتعون بحرية أكبر في بلدان أخرى.
لكن المسؤولين يقولون إنَّ تقديم دعمٍ مستقلٍ وانتهازي للمسلحين البحرينيين، يُتيح لإيران الشيعية فرصة منخفضة التكلفة لتحقيق أهدافها في وقتٍ توجِّه فيه جهدها العسكري الرئيسي إلى مكانٍ آخر.
الأسلوب الذي تتبعه طهران يتميز بمرونة هائلة في دعم أنصارها
وقال مايكل نايتس، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "ما تظهره البحرين هو أنَّ إيران تستخدم صيغاً مختلفةً لدعم أنصارها في كل بيئة من بيئات العمليات، تعني الأساليب المتكيفة لإيران في كل منطقة أنَّ الولايات المتحدة تحتاج إلى الاستجابة بمرونة للتحدي الذي تُمثَّله طهران".
وقد وضع البيت الأبيض مسألة كبح إيران، التي تزايد وجودها العسكري الخارجي ليبلغ أعلى معدلاته في المنطقة، في مركز استراتيجيته في الشرق الأوسط.
وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب ألقاه في الخريف الماضي معلناً عن إستراتيجيته: "لقد أظهر التاريخ أنَّه كلما طال تجاهلنا للتهديد، أصبح التهديد أكثر خطورةً".
لذلك تستشعر واشنطن مدى فداحة الخطر
والآن بعد أنَّ انسحب ترمب، الذي تركز إستراتيجيته تجاه إيران بشكل رئيسي على الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مع إيران، من هذا الاتفاق فقد توجه إدارته اهتمامها إلى التعامل مع شبكة وكلاء طهران.
وفي لبنان، استطاعت قوات جماعة حزب الله، وهى أكبر قوة بين وكلاء إيران، أن تتفوق على الجيش اللبناني بصفتها القوة القتالية الأكثر فعالية في البلاد، ويمتلك حزب الله ترسانة ضخمة من الصواريخ وجيش متفرغ يتألف من 6 آلاف جندي على الأقل.
وفي سوريا المجاورة، ساهم نشر إيران لأفرادٍ من الحرس الثوري الإيراني وشحناتها من الأسلحة في تحول نتيجة الحرب الأهلية لصالح رئيس النظام السوري بشار الأسد. أما في العراق، فقد كسبت الميليشيات المدعومة من إيران نفوذاً سياسياً أكبر منذ مشاركتها الفعالة في صد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وفي اليمن، تسبَّب الهجوم الذي شنته السعودية وغيرها من الدول العربية السنية في زيادة الانخراط الإيراني في دعم المتمردين الحوثيين الذين يدينون بالولاء لإيران. ويقول مسؤولون أميركيون إنَّ عدداً صغيراً من مستشاري إيران وحزب الله يساعدون قوات الحوثي في استخدام أسلحةٍ متطورةٍ إيرانية الصنع مثل صاروخ "قيام" ضد السعودية، لكن إيران تنفي تلك المزاعم.
انتفاضة شعبية.. تم قمعها.. فتحولت إلى تمرد
يمكن العثور على أصول التمرُّد الكامن في البحرين على نحوٍ كبير في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في عام 2011 كجزء من الربيع العربي.
كانت استجابة الحكومة القاسية على المحتجين، والعديد منهم من الأغلبية الشيعية الذين يطالبون بحقوق سياسية وفرص اقتصادية أكبر، هي بداية حملة ممتدة ضد المعارضين. قال زعماء البحرين إنَّهم قلقون من أن تستغل إيران روابطها الثقافية والدينية مع الشيعة في البحرين من أجل الإطاحة بالنظام الملكي السني، وتحججوا بسلسلة من الأنشطة المعارضة – التي تتنوع ما بين منشورات على تويتر وحرق إطارات السيارات أثناء الاحتجاجات – كأدلة على وجود متواطئين مع ايران داخل البحرين.
وقال توماس كراجيسكي السفير الأميركي السابق لدى البحرين، والذي شغل المنصب في الفترة بين عامي 2011 و2014، إن المسؤولين الأميركيين اكتشفوا في البداية دوراً إيرانياً في الاحتجاجات عندما بدأ استهداف قوات الأمن في هجمات منفصلة شملت قنابل محلية الصنع ثم أسلحة تعتقد السلطات أنها هُرّبت إلى البحرين عن طريق البحر، بحسب الصحيفة الأميركية.
وفي السنوات التالية، تحركت السلطات البحرينية لعرقلة الخلايا المشتبه فيها وأوقفت المشاركين بها وصادرت الأسلحة. ويقول مسؤولون أميركيون وبحرينيون إنَّ مضبوطات أكثر حداثة شملت كميات كبيرة من مادة C-4 شديدة الانفجار وأسلحةً متطورةً تشبه أسلحة الميليشيات المدعومة من إيران التي اُستُخدمت ضد الجنود الأميركيين في العراق بعد 2003.
وذكر اللواء طارق الحسن، رئيس الأمن العام في البحرين، أنَّ مجموعات مثل سرايا الأشتر وسرايا المختار كانت مسؤولة عن 22 حالة قتل وأكثر من 3500 إصابة بين صفوف رجال الشرطة منذ عام 2011. وعدد القتلى ذلك منخفض بالنسبة لوجود تمرد في البلد، لكنه يُمثَّل مشكلةً كبيرةً في بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليون نسمة فقط.
نفت الحكومة الإيرانية تورطها في الشؤون الداخلية للبحرين، ومُتهمة الحكومة البحرينية بممارسة "لعبة اللوم المتبادل".
يقول مسؤولون أميركيون وبحرينيون إنَّ عناصر الجيش الإيراني لم يُشاهدوا علانية في البحرين كما هو الحال في سوريا والعراق، وهو انعكاسٌ لكيفية تكيُّف النهج الإيراني في مملكة تنتشر فيها الشرطة بكثافة. وقال مسؤولون أميركيون وبحرينيون فضلاً عن مسلحين محتجزين لدى الحكومة البحرينية وجِهَّت لهم اتهامات إنَّه بدلاً من ذلك يُدرَّب المسلحون خارج البلد في إيران والعراق، غالباً على مدى عدة أيام في كل مرة.
معتقلون يتحدثون.. لكنهم ممن اختارتهم الحكومة
في ردٍ على طلب قُدّم للسلطات البحرينية، سُمح لمراسل صحيفة Washington Postبمقابلة عشرات السجناء المشتبه في قيامهم بنشاط مسلح. جُهّز السجناء، الذين اختارتهم الحكومة، لمقابلات Washington Post في اثنين من مرافق الدولة هذا الربيع.
أُجريَّت المقابلات دون وجود موظفين حكوميين أو محامين. وأُدين بعض المعتقلين والبعض الآخر لم يُدن.
ذكر أحد المعتقلين، الذي طلب أن يُشار له باسمه الأوسط، إبراهيم، قصةً "تؤكد" على رواية نهج إيران الانتهازي تجاه البحرين.
وقال إبراهيم، الذي استشهد بالمعاملة التي يتعرض لها الشيعة البحرينيين كسبب لحمل السلاح ضد النظام الملكي السنّي، إن صديقاً جنده عام 2011 وسافر إلى إيران لمدة أربعة أيام للتدريب.
عندما عاد إلى البحرين، أُمِّر بالانتظار. ومرت ست سنوات.
عندما أعادت حكومة البحرين عقوبة الإعدام في عام 2017 بعد توقف دام سبع سنوات، قال إبراهيم إنَّ شخصاً في إيران حثه على القتال. وقد خطط لقضاء عطلة عائلية في إيران، حيث أمضى بعض أيامه في مرفق تدريب صغير يتعلم كيفية تجميع المتفجرات واستخدام الكلاشنكوف والآر بي جي وأسلحة أخرى.
بعد عودته إلى البحرين، جهّز شقة فارغة لصنع قنابل صغيرة- باستخدام مادة C-4، وجهاز تفجير عن بعد، وبطاريات، وأسلاك، وأموال- كان قد أخذها من مكانٍ سري بعدما تواصل مع مُجنِّده في إيران.
وبعد عدة أسابيع من استئجار الشقة، نفّذ إبراهيم أول هجوم ضمن سلسلة من الهجمات على دوريات الشرطة كان يديرها دائماً شخص في إيران، على حد قوله. لقى أحد ضباط الشرطة البحرينية على الأقل حتفه نتيجة لتلك الهجمات.
قال إبراهيم: "لقد فعلت ذلك لأن أهلنا كانوا يُقتلون أيضاً".
روى معتقلون آخرون قصصاً مشابهة: التجنيد عن طريق الاتصالات من خارج البحرين، ثم التدريب في إيران أو العراق، وغالباً أثناء رحلات التي تزامنت مع موسم الحج الذي يجتذب الشيعة من جميع أنحاء المنطقة. وقال مُعتقل إَّنه تلقى تدريباً على يد ميليشيا كتائب حزب الله العراقية في مدينة كربلاء المقدسة في عام 2016.
وقال معظم المعتقلين إنَّ الرجال الذين دربوهم لم يعرّفوا أنفسهم بالكامل. لم يكن من الواضح ما إذا كانوا مرتبطين بالحكومة الإيرانية أو الحرس الثوري الإيراني.
طبعاً، لم تتمكن صحيفة Washington Post من التحقق من ملفات المعتقلين أو الوصول إلى سجناء آخرين قد يكون لديهم تجارب مختلفة.
قال معظم المعتقلين إنَّهم نفذوا مهام غير قتالية، مثل توصيل المعدات أو الأسلحة أو النقود أو الرسائل. أما من اعترفوا بتخطيطهم لهجمات فقد وصفوها بأنَّها كانت تتضمن قنابل صغيرة مُرتَجلَّة أو بسيطة أو أسلحة صغيرة، وهو ما يتفق مع التهم التي وجهتها لهم السلطات البحرينية.
وقال نايتس إن كل ذلك يُشير إلى لُعبَّة إيران الطويلة في البحرين، وهي محاولة لزرع حلفاء موثوقين يمكن تفعيلهم في حالة حدوث انتفاضة أخرى.
وأضاف: "إنَّهم يحاولون تطوير علاقة مع هذا الشخص، لا يحاولون تحويله إلى جايسون بورن".
في الواقع علاقة إيران بالمسلحين البحرينيين فضفاضة
يصف المسؤولون الأميركيون العلاقة بين المسلحين البحرينيين وإيران بأنَّها "علاقة قيادة وتحكم فضفاضة". وقال مسؤول أميركي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة تقييم الاستخبارات: "التحكم وحده هو ما يحدث حالياً".
لكن مسؤولين أميركيين يقولون إنَّ التوجيه الإيراني ربما ساعد في ضمان عدم استهداف أي هجمات مباشرةً المصالح الأميركية في البحرين، التي تُعَّد موطناً للأسطول الخامس الأميركي وآلاف الجنود الأميركيين، وهو مؤشر محتمل على رغبة إيران في تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.
بل يبدو أن إيران هي من كبحت جماحهم
وقال كراجيسكي: "كان هناك شعور بأنَّ الإيرانيين كبحوا جماح هذه الجماعات، قائلين: لن نعبر هذا الخط".
في حين أن المسؤولين الأميركيين لا يزالون قلقين من تهديد التمرد في البحرين، فإنَّهم يقولون إنَّ محاولات الحكومة الشديدة لقمع المعارضة السياسية قد أثارت الاستياء.
قمع.. اعتقالات جماعية.. ترحيل.. تجريد من الجنسية.. ولا قانون
أفادت مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان بأنَّ حالة حقوق الإنسان قد تدهورت بصورةٍ حادةٍ في العام الماضي حيث اتخذت البحرين خطوات، بما في ذلك إعادة محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية، تتناقض مع توصيات لجنة مستقلة شُكّلَت بعد عام 2011.
وقالت حنان صلاح، من منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، إنَّ الحكومة البحرينية بدأت حملة قمع غير مسبوقة ضد المعارضين، وشنّت حملات اعتقال جماعي، ورحّلت بعض النشطاء، وجردت آخرين من جنسيتهم، وغالباً ما تستخدم تهديد الإرهاب كذريعة لإسكات المعارضين والنقاد ومن بينهم العديد من الشيعة.
وقالت حنان: "الحكومة الحالية لا تحترم القانون بشكل واضح للغاية، وليس هناك مجال للمعارضة في هذا البلد".
واتهمت السلطات أيضاً بإساءة معاملة السجناء والفشل في تقديم الإجراءات اللازمة. وقال عدٌد من المحتجزين الذين قابلتهم صحيفة Washington Post أنَّهم تعرضوا للتعذيب والاعتداء الجنسي أثناء احتجاز الحكومة لهم. وقد أرسلت الصحيفة هذه الحوادث إلى جهة حكومية تحقق في الأمر الآن.