كشف مصدر حكومي لـ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية تستعد لتطبيق خفض سعر الجنيه مرة أخرى، وذلك بعد الإعلان عن صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، والتي كانت بداية لتهيئة الأجواء لمجموعة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقال المصدر نفسه، الذي فضَّل عدم ذكر اسمه حفاظاً على سلامته، إن صفقة رأس الحكمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة هي واحدة من مجموعة من الصفقات الاستثمارية في مناطق جغرافية مختلفة مع دول عربية وخليجية أخرى.
وحسب المصدر نفسه فإن المناطق التي من المرجح أن تدخل فيها الحكومة المصرية باستثمارات جديدة ستكون في جنوب سيناء على ساحل البحر الأحمر، إلى جانب مناطق أخرى على الساحل الشمالي الغربي.
يضيف المصدر لـ"عربي بوست" أن الصفقات المستقبلية من المتوقع الإعلان عنها تباعاً، خلال الفترة المقبلة، موضحاً أن الغرض منها هو إثبات قدرة مصر على جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يحسن وضعية تفاوضها مع صندوق النقد الدولي.
وتسعى مصر للتأكيد على أن هناك أفكاراً اقتصادية ستقدم عليها الدولة، بما يخدم رؤية صندوق النقد الدولي بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادي، كاشفاً عن أن الأيام القادمة ستشهد التفاوض على قيمة تخفيض قيمة الجنيه، في ظل محاولات للإبقاء عليه كما هو لفترة وجيزة لحين التعرف على وضع الاقتصاد المصري.
ورجَّح بنك مورغان ستانلي الأمريكي تحريك سعر الجنيه في مصر ما بين 40 و45 جنيهاً مقابل الدولار، من مستوى 30.92 جنيه لدى البنوك الرسمية، ما سيكون "فرصة جيدة لتسوية تراكم العملات الأجنبية، وتضييق الفجوة بين أسعار السوق الرسمية والموازية".
وتوقعت وحدة الأبحاث في البنك الأمريكي أن تمهد صفقة رأس الحكمة الطريق أمام "التعديل الذي طال انتظاره في سوق العملات"، في إشارة إلى التعويم، والذي اعتبره الخطوة السياسية الرئيسية الأخيرة للحصول على قرض أكبر من صندوق النقد الدولي.
هل تؤجل الحكومة المصرية خفض سعر الجنيه؟
من جهته قال خبير أسواق بوزارة المالية لـ"عربي بوست"، إن الحكومة تحاول التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي بغرض خفض سعر الجنيه مرةً أخرى، ليصل لما بين 40 إلى 45 مقابل الدولار، لكن توقيت التخفيض ليس معروفاً بعد.
وقال المتحدث إن الحكومة المصرية لديها رغبة في تأجيل قرار خفض سعر الجنيه لحين استقرار الأوضاع في الأسواق المصرية بشكل عام، بما يضمن عدم المضاربة على الدولار مجدداً.
وتسعى الحكومة المصرية، حسب المتحدث، إلى جانب توفير العملة الأجنبية المطلوبة من صفقة رأس الحكمة والصفقة الأخرى المتوقع أن تكون في منطقة "رأس جميلة"، على ساحل البحر الأحمر، إلى ما يضمن استقرار سعر الصرف لفترة طويلة.
وأشار المصدر نفسه إلى أن الحكومة المصرية تعمل على توفير احتياجات التجار والمستثمرين والمسافرين إلى الخارج، بما ينعكس مباشرةً على أسعار صرف الجنيه في السوق السوداء.
وتُحاول الحكومة تحقيق تقارب بين سعر الدولار في السوق السوداء وبين سعر الصرف الرسمي المنتظر، قبل اتخاذ خطوة خفض سعر الجنيه، كما أن ذلك يدعم الاستجابة لجميع اشتراطات صندوق النقد فيما يتعلق بالقرض المنتظر، لكي تتم تهيئة الأوضاع الملائمة لعملية الإصلاح.
ويوضح أن القاهرة تسعى للتأكيد على أنها جادة في سداد التزاماتها الخارجية، دون أن يكون لذلك تأثيرات من جهة الضغط على قيمة الجنيه في الداخل، وتسعى لأن يصل إليها ما يقرب من 30 مليار دولار لكي تضمن استقراراً ملموساً في الأسواق بمساعدة إجراءاتها الأخرى القانونية والأمنية.
وتراجع الدولار في السوق الموازية إلى مستويات تتراوح بين 47 جنيهاً وما يزيد عن 50 جنيهاً بقليل، من مستويات فاقت مستوى 70 جنيهاً خلال يناير/كانون الثاني 2024، وذلك بعد ساعات من الإعلان عن صفقة رأس الحكمة، وسط حالة من الترقب وتعاملات أغلبها من الأفراد.
ومن المتوقع أن يدرّ مشروع رأس الحكمة 35 مليار دولار خلال شهرين، منها 24 مليار دولار سيولة مباشرة، و11 مليار دولار ودائع إماراتية سيتم تحويلها بالجنيه المصري في المشروع، ويعد المشروع ضمن مخطط التنمية العمرانية لمصر لعام 2052.
وتعاني مصر شحاً في الموارد الدولارية، دفعها إلى اللجوء إلى صندوق النقد في 2022 لاقتراض 3 مليارات دولار، وفق برنامج مدته 46 شهراً، لكن مراجعات الصندوق (التي تمهد لصرف أقساط القرض) تعثّرت بعدما أحجمت مصر عن تنفيذ تعهدها بالانتقال إلى نظام مرن لسعر الصرف، وأيضاً نتيجة بطء التقدم في بيع أصول حكومية، وفق رويترز.
وقالت مؤسسة غولدمان ساكس إن مشروع رأس الحكمة سيسهم في سد الفجوة التمويلية للبلاد، كما سيسهم في القضاء على السوق السوداء، مشيرة إلى أن مصر ستحصل المبلغ على دفعتين.
وستكون الدفعة الأولى في الأسبوع القادم بقيمة 15 مليار دولار، منها 5 مليارات دولار من ودائع دولة الإمارات العربية المتحدة الموجودة بالفعل داخل البنك المركزي المصري، و10 مليارات دولار ستكون دولارات "جديدة" من الخارج.
وستكون الدفعة الثانية البالغة 20 مليار دولار مستحقة في الشهرين المقبلين، وستشمل 6 مليارات دولار من الودائع الإماراتية المتبقية لدى البنك المركزي المصري، و14 مليار دولار تمويلاً جديداً.
وقالت المؤسسة الدولية إن الصفقة تعني أن تدفقات داخلة من العملات الأجنبية بقيمة 24 مليار دولار في الشهرين المقبلين. وهو حجم استثمار أكبر بكثير مما كنا نتوقعه، والتوقيت أقرب بكثير.
الحكومة المصرية وشروط صندوق النقد
وتنتظر الحكومة المصرية الحصول على قرض بـ10 مليارات الدولار، مع تمويل إضافي متعدد الأطراف، وذلك بعد الموافقة على شروط البنك الدولي، منها المساهمة في إنهاء حرب غزة، والتأكيد على وجود استقرار اقتصادي في البلاد.
وقال نفس المصدر الحكومي لـ"عربي بوست" إن قيمة قرض صندوق النقد وشروطه مرتبطة سياسياً بالدور الذي تقوم به مصر حالياً في المنطقة من جهود حثيثة لتهدئة الحرب الإسرائيلية على غزة.
وأضاف المتحدث أن هناك إدراكاً دولياً لأهمية استقرار الاقتصاد المصري بما يساهم في تحررها من القيود التي تؤثر سلباً على حركتها الدولية، كما أن التقارير الدولية التي تشير إلى أن الدولة استطاعت سد الفجوة التمويلية ما يجعل من الممكن الوصول إلى اتفاق مريح لجميع الأطراف.
وقال مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا في صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور إن رأس الحكمة "تطور اقتصادي جيد"، لكنه غير مرتبط بمباحثات الصندوق مع مصر.
وأضاف المتحدث أن المباحثات مع مصر معتمدة على البرنامج الذي وضعته الحكومة المصرية في 2022، ويرتكز على محاور لها علاقة بتعزيز الاستقرار الاقتصادي وإعادة الحركة للنمو الاقتصادي من خلال دور القطاع الخاص وتعزيز الحماية الاجتماعية.
وأشار مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا في صندوق النقد الدولي إلى أن مرونة سعر صرف العملة في مصر هي أساساً في برنامج إصلاح الاقتصاد المصري لحمايته من الصدمات.
بحسب مصدر أمني مسؤول تحدث إليه "عربي بوست"، فإن الحكومة وضعت خطة مسبقة تمكنها من السيطرة على الأسواق، ويتم التعامل مع أي حالة تؤشر على وجود فوضى في الشارع بخصوص سعر الصرف.
وقال المتحدث إن مصر بدأت بتنفيذ خطتها بشكل تدريجي منذ الشهر الأخير من 2023، حينما تم الاتفاق على تقديم حزم اجتماعية وتحفيزية للمواطنين، إلى جانب إدخال تعديلات سريعة على القوانين التي من شأنها ردع ممارسات التجارة في العملة الصعبة والتلاعب في قيمتها بالسوق السوداء.
يشير المصدر ذاته إلى أنه تم إدراج مشروع قانون لإنشاء مجلس وطني يسمى "المجلس الأعلى لسياسات ضبط الأسواق وحماية المستهلك ومنع الممارسات الاحتكارية"، على أن يتبع المجلس رئيس الجمهورية، وظيفته تحليل وضع السوق وكافة البيانات والممارسات السلبية، واقتراح الإجراءات الرقابية اللازمة للوصول إلى تحقيق توازن في السوق المصري.
ويوضح أنه تم تشديد الرقابة الأمنية لمحاربة احتكار وحجب السلع الاستراتيجية عن التداول بالأسواق، وتحرير محاضر للمسؤولين عن المنشآت التجارية من محلات ومخازن وسلع استراتيجية لتخزينها وحجبهم سلعاً غذائية بغرض زيادة أسعارها للربح.
كما أن ستتم محاربة كل من لم يُعلن عن أسعار السلع، سواء ببطاقة إعلان أو قائمة إجمالية لأسعار المنتجات للمستهلك، وكذلك تم القبض على عدد كبير من التجار بسبب حيازتهم سلعاً غذائية مجهولة المصدر أو سلعاً مغشوشة لا توجد فواتير لمصدرها.
ويعترف المصدر الأمني لـ"عربي بوست" بأنه على أرض الواقع، وبالرغم من الحملات والكمائن والتضييقات الأمنية، فإنه لا تزال معظم السلع الأساسية ما بين الارتفاع في الأسعار والاختفاء.
ووافق مجلس النواب المصري نهائياً على تعديل قانون حماية المستهلك، ونصت التعديلات الجديدة على أن معاقبة كل من أثّر سلبياً على تداول السلع بإخفائها أو عدم طرحها للبيع أو الامتناع عن بيعها، مما يمس بحقوق المستهلكين.
وقبل أيام وافقت اللجنة التشريعية والدستورية في البرلمان على تعديلات تقدمت بها الحكومة تخص قانون العقوبات بشأن التعدي على الموظفين العموميين الذين تكمن مهمتهم في تحقيق الانضباط في مجالات مختلفة.
من جهته، أقر البرلمان المصري قانون تأمين وحماية المنشآت والمرافق العامة والحيوية في الدولة، الذي قدمته الحكومة، ويسمح القانون الجديد باستمرار مشاركة القوات المسلحة لجهاز الشرطة في حماية المنشآت العامة والحيوية.
ضبط الأسواق وتهدئة الشارع المصري
من جهته، كشف مصدر مسؤول بوزارة الاقتصاد المصرية لـ"عربي بوست" أن هناك إجراءات اتخذتها الحكومة المصرية تستهدف تحقيق الاستقرار في خططها الاقتصادية دون عوامل سلبية تساهم في إرباك تلك الخطط.
هذه الإجراءات تؤكد أن الدولة ما زالت قادرة على ضبط الأسواق وتهدئة الشارع المصري، خاصة أن الأوضاع على الحدود الشرقية مضطربة للغاية، وهناك رغبة لدى الحكومة من أجل التفرغ للأخطار الواردة من هناك.
وأوضح المصدر نفسه أن مؤسسات الدولة المختلفة منحت الحكومة فرصة للسيطرة على الأسواق خلال الفترة المقبلة، بما يسرع حركة انخفاض أسعار بعض السلع، وبما يحقق هدفاً أهم يتمثل في القضاء على السوق السوداء للدولار.
وأضاف المتحدث أنه في حال جرى اتخاذ قرار تعويم جديد للجنيه، فإن الحكومة المصرية سيكون لديها رصيد من الدولار يضمن توفيره لدى البنوك دون الحاجة إلى السوق السوداء، لكن تبقى الأزمة في المضاربات المستمرة على الدولار، والتي تؤدي لانخفاض أسعاره بشكل سريع، وأيضاً ارتفاعه في مقابل الجنيه بشكل سريع.
وأكد المصدر الحكومي وجود خطط طويلة المدى تتعلق بتطوير الصناعة وتحسين العلاقة التي توترت أخيراً بين الحكومة وبعض المستثمرين والهدف الرئيسي لإحداث إصلاح اقتصادي شامل.
وكشف المصدر نفسه عن إشراك العديد من المستثمرين ورجال الأعمال في الحوار الوطني الذي انطلق هذا الأسبوع، بمشاركة الحكومة، هدفه الاتفاق على خطة عمل مستقبلية تضمن التركيز على بعض الصناعات التي يمكن تسويقها في الأسواق الخارجية وتطويرها.
وذكر المتحدث أن الخطوات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة مؤخراً من المتوقع أن تستمر مستقبلاً، وعلى رأسها التعرف على احتياجات التجار والمستثمرين من الدولار، وتوفير الأموال المطلوبة على فترات قريبة، إلى جانب فتح باب الاستيراد بشكل كبير خلال شهر رمضان.
بالإضافة إلى ذلك، يقول المتحدث إن هناك نية لاستمرار المبادرات المختلفة التي هدفت لتوفير الدولار مثل بيع الأراضي للأجانب بالدولار، ومبادرة استيراد سيارات المصريين بالخارج، والمضي قدماً في برنامج الطروحات الحكومية الذي سيكون أكثر نشاطاً مع وجود سعر واحد للصرف بين البنك والسوق الموازية.