تعرض عدد من رؤساء البلديات في فرنسا وهو منصب عادةً ما يكون من بين المناصب المنتخبة الأكثر تقديراً في فرنسا، لهجوم غير مسبوق تقوده جماعات صغيرة يمينية متطرفة معارضة للهجرة تحظى غالباً بدعم سياسيين وطنيين، ما أجبر عدداً منهم على الاستقالة وترك منازلهم، وذلك وفق ما جاء في تقرير لوكالة "Associated Press" الأمريكية، الإثنين 19 فبراير/شباط 2024.
فقد استقال رئيس بلدية بلدة صغيرة في فرنسا وانتقل بعيداً بعد إضرام النيران في منزله واثنتين من سياراته. جاء هذا الحريق المُتعمّد بعد أشهر من التهديدات بالقتل بسبب إعلانه عن خطط لنقل مركز استقبال لاجئين بالقرب من إحدى المدارس في البلدة.
وعلى بعد أكثر من 150 ميلاً (240 كيلومتراً) باتجاه الشمال، تلقى رئيس بلدية آخر سيلاً من التهديدات، من بينها التهديد باغتصاب زوجته وابنته، عندما قرر استقبال عدد قليل من العائلات اللاجئة لملء الوظائف الشاغرة في البلدة، لم تكن تلك الواقعتين مجرد حوادث فردية.
تصعيد خطير
بينما شهدت دول أوروبية أخرى، من بينها ألمانيا والسويد وإيطاليا وإسبانيا، احتجاجات حول قضايا مماثلة، فإنَّ ردود الفعل ضد رؤساء البلديات جاءت عنيفة على نحو لافت للغاية في فرنسا، حيث تحظى مؤسسات الدولة تقليدياً بالكثير من الاحترام والتبجيل من جانب الفرنسيين. يُجسّد رئيس البلدية قيم الجمهورية الفرنسية بالعودة إلى ثورة عام 1789.
تتجاوز التكتيكات المستخدمة ضد رؤساء البلديات الفرنسيين خلال السنوات الأخيرة الاحتجاجات الغاضبة المعتادة في الشوارع، إذ تشمل أعمال عنف وحملات تضليل.
أصبح الدفاع عن الهوية الوطنية في فرنسا، كما هو الحال في أي مكان آخر في أوروبا، شعاراً مدوياً تستخدمه الجماعات السياسية اليمينية المتطرفة، من خلال الترويج لفكرة أنَّ الأجانب يسرقون ثروات الأمة وسيقلبون في نهاية المطاف أسلوب الحياة التقليدي في فرنسا رأساً على عقب.
أصبحت الجماعات اليمينية المتطرفة أكثر نشاطاً بعد الهجمات القاتلة التي شنها متطرفون إسلاميون في عامي 2015 و2016.
في السياق، قال رئيس المديرية العامة للأمن الداخلي آنذاك، نيكولا ليرنر، في مقابلة نادرة مع صحيفة "Le Monde" الفرنسية العام الماضي: "يتمثَّل أحد أهداف تلك الجماعات في التعجيل بحدوث صدام حول أولئك الذين ينظرون إليهم باعتبارهم دخلاء".
كما أضاف أنَّ "تطبيع اللجوء إلى استخدام العنف والرغبة في فرض الأفكار من خلال أساليب الترهيب يُشكّلان خطراً جسيماً على ديمقراطيتنا".
ثم تابع ليرنر أنَّ "وجهات النظر العنيفة للجماعات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية امتدت إلى أوروبا وتضخمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي".
اليمين المتطرف آخذ في الصعود
ترك اليمين المتطرف الفرنسي بصمته لأول مرة في عام 1984 عندما فازت الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبان بـ10 مقاعد في البرلمان الأوروبي. لكن فُزعت الأمة عندما وصل لوبان، الذي ينكر "الهولوكوست"، إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية عام 2002 ضد الرئيس جاك شيراك.
اجتمعت أحزاب تيار اليسار واليمين لإبعاد لوبان عن السلطة في ذلك الوقت. لكن حزب ابنته، مارين لوبان، يمتلك حالياً 88 نائباً في البرلمان، وتخطط مارين لخوض محاولتها الرابعة في انتخابات الرئاسة الفرنسية في عام 2027، وذلك بعد وصولها مرتين إلى جولة الإعادة أمام الرئيس إيمانويل ماكرون.
تبنى الحزب السياسي اليميني الجديد "Reconquete" وجهات نظر أكثر تشدداً، إذ دعا إلى وقف الهجرة تماماً باعتماد سياسة "صفر مهاجرين". بالإضافة إلى ذلك، من المقرر أن تخوض نائبة رئيس الحزب، ماريون ماريشال لوبان، ابنة شقيقة مارين لوبان، انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران.
أشار جان إيف كامو، الخبير البارز في شؤون اليمين المتطرف، إلى أنَّ طموحات حزب "Reconquete" تذهب إلى أبعد من مجرد تشكيل حركة احتجاجية ضد المهاجرين.
قال كامو: "ثمة مشروع سياسي حقيقي إلى جانب تلك المظاهرات المناهضة للمهاجرين، ألا وهو مواجهة الدولة".
يتبنى الكثير من السياسيين اليمينيين، من ضمنهم إريك زمور رئيس حزب "Reconquete"، نظرية "الاستبدال العظيم"، وهي نظرية مؤامرة يمينية تدّعي كذباً أنَّ التركيبة السكانية الأصلية في الدول الغربية تتعرض لخطر التغيير جراء تنامي قدوم المهاجرين غير البيض، لا سيما المسلمين، الذين سيمحون يوماً ما الحضارة المسيحية وقيمها.
اضطرابات في "كالاك"
ادَّعت الجماعات اليمينية المتطرفة النصر في يناير/كانون الثاني 2023 عندما تخلى رئيس بلدية "كالاك"، جان إيف رولاند، عن خطته لإيواء من 7 إلى 10 عائلات لاجئة في منطقة "بروتاني" شمالي غرب فرنسا بهدف المساعدة في شغل عدد من الوظائف المحلية الشاغرة وضخ الحيوية في هذا الجيب المعزول، حيث عدد السكان آخذ في التقلص.
جاء محتجون من أماكن قريبة وبعيدة، بعضهم من حزب
"Reconquête" وتجمّعوا في القرية البالغ عدد سكانها 2200 نسمة.
قال رولاند إنَّه تلقى الكثير من التهديدات المكتوبة، مشيراً إلى أنَّ أحدها يصف المهاجرين بأنَّهم "سماسرة ومغتصبون ومعتدون يجب إعادتهم إلى أفريقيا".
وأضاف أنَّه استقبل مئات من رسائل البريد الإلكتروني الغاضبة تتضمن معلومات مضللة، وبعضها يحمل بيانات جهات اتصال زائفة، وهو ما يُعقّد جهود المحققين لتحديد مكان المرسلين وهويتهم.
إضرام النار في منزل رئيس البلدية
استيقظ رئيس بلدية "سانت-بريفين- ليه بينس"، يانيك موريز، في ليلة 22 مارس/آذار من العام الماضي ليجد النيران مشتعلة في واجهة منزله، بينما كانت عائلته نائمة. تسببت النيران في تدمير سيارتيه تماماً وإتلاف جزء من المبنى.
كان طالبو اللجوء موجودين في البلدة منذ عام 2016، لكن خطة إيوائهم بالقرب من مدرسة أثارت احتجاجات تدّعي خطورتهم على الأطفال.
وكما هو الحال في "كالاك"، كان بعض المتظاهرين من السكان المحليين لكن اليمينيين المتطرفين من خارج البلدة استغلوا الفرصة للترويج لقضيتهم المناهضة للمهاجرين، سواء بالانخراط في الاحتجاجات بأنفسهم أو عبر الحملات الإلكترونية.
استقال يانيك موريز وغادر البلدة، لكن خليفته في المنصب، دوروثي باكو، وقفت بثبات ومضت قدماً في مشروع نقل مركز استقبال اللاجئين. لكن التوترات لا تزال حاضرة في البلدة بعد أشهر لاحقة.
ومع ذلك، قالت دوروثي إنَّ "المسؤولين المنتخبين، من ضمنهم رئيس البلدية ونائب رئيس البلدية، يُمثّلون الديمقراطية"، مؤكدة أنَّ استخدام أساليب كهذه، مثل ما حدث في "كالاك" هو أمر غير مقبول تماماً.