تلف حالة من الغموض وضع العلاقات المصرية الإسرائيلية في وقت تصر فيه تل أبيب على اجتياح مدينة رفح الفلسطينية المحاذية للحدود المصرية عسكرياً، وسط تقارير إعلامية تشير لحالة من التوتر بين الطرفين، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول طبيعة التعامل المصري مع احتمالية الخرق الإسرائيلي المزمع لاتفاقية السلام بين الجانبين، في حال وصل بقواته إلى مناطق حدودية تحظر الاتفاقية التواجد بها إلى جانب دفعه مئات الآلاف للنزوح إلى شبه جزيرة سيناء.
وأوضح مصدر حكومي مطلع تحدث لـ"عربي بوست" أن العلاقات بين مصر وإسرائيل تحدد ملامح اتفاق السلام الموقع بينهما، مشيراً إلى أن مصر تلتزم باتفاقية السلام إذا التزمت بها إسرائيل، وطالما لم تدفع الفلسطينيين لاقتحام الحدود المصرية إلى شبه جزيرة سيناء، على حد قوله.
وأضاف أن الحكومة المصرية لديها مواقف لا يمكن أن تتراجع عنها بأي شكل من الأشكال بشأن رفض التهجير القسري للفلسطينيين، بما يؤدي لتصفية قضيتهم، وترى أن هذا الموقف الصلب هو أداة الضغط الأكثر فاعلية على إسرائيل للدفع نحو إعادة النظر في توجهاتها بشأن مستقبل الصراع.
أدوات الضغط على إسرائيل
كشف مصدر مطلع بوزارة الخارجية المصرية، أن القاهرة تترك تفاصيل التعامل مع الخرق الإسرائيلي، بحسب طبيعة هذا الخرق، وترى بأنه لكل حادث حديث، لكن هناك مسارات مختلفة من التعامل متفق عليها، تبدأ باستدعاء السفير وإعادته إلى بلاده ومروراً بتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي المصري، ومن ثم تخفيض العلاقات والاتصالات الأمنية بين البلدين، ونهايةً بتعليق البنود الأمنية من اتفاقية السلام التي تنهي بشكل مباشر التنسيق الأمني المشترك بينهما.
ويعتبر المصدر أن اجتياح رفح مسألة شائكة وتهدد الاستقرار في المنطقة بأكملها، وهو ما يجعل المجتمع الدولي يكرر تحذيراته إلى إسرائيل من مغبة الإقدام على تلك الخطوة.
وأكد المصدر أنه في جميع الحالات فإن القاهرة تستهدف بالأساس عدم المساس ببنود اتفاقية السلام، وضمان عدم تهجير الفلسطينيين، وضرورة وقف حمامات الدم التي لا تتوقف في القطاع للشهر الرابع على التوالي.
ووُقعت اتفاقية السلام بين البلدين بوساطة أمريكية في أواخر سبعينيات القرن الماضي في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، لتنهي حالة الحرب بين البلدين، وتطبيع العلاقات، وتحد من الانتشار العسكري على جانبي الشريط الحدودي بينهما، ورسم البروتوكول الملحق بالاتفاقية، الحدود بين البلدين، وقسمها إلى أربع مناطق رئيسية تقع ثلاث منها في شبه جزيرة سيناء بالأراضي المصرية، وواحدة داخل إسرائيل تسمى المنطقة "د".
تتيح الاتفاقية وجود قوة عسكرية إسرائيلية محدودة من أربع كتائب مشاة، لا يتجاوز عدد جنودها 4 آلاف، في المنطقة "د"، وتحصينات ميدانية محدودة، فضلاً عن مراقبين من الأمم المتحدة. ولا تتضمن القوة الإسرائيلية في هذه المنطقة أي دبابات أو مدفعية أو صواريخ فيما عدا صواريخ فردية أرض/جو.
مصر لا تسعى للتصعيد
وبحسب مصدر دبلوماسي مصري، فإن القاهرة لا تسعى بالأساس لتصعيد الموقف ضد إسرائيل، وتحاول استخدام أوراق الضغط المتاحة لديها، بما يمنع من اجتياح رفح أو على أقصى تقدير ألا يقود ذلك إلى خرق اتفاقية السلام وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ومازالت تعول على لعب دور الوسيط حتى لا تخرج من معادلة التأثير في المشهد الراهن، وهو ما يفسر تحركاتها المكثفة لإنجاح الهدنة التي تواجه مأزقاً يرتبط بالمواقف المتشددة من جانب إسرائيل وحماس.
ولفت إلى أن القاهرة خاضت خلال الأيام الماضية نقاشات واسعة مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين، حول كيفية عدم تفاقم الأوضاع في مدينة رفح، بما لا يدفع مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، وهناك محاولات للوصول إلى توافق حول حماية المدنيين، أو على الأقل إرجاء العملية المزعومة، وترك مساحات للنقاش حول إمكانية إيجاد حلول سياسية تقنع إسرائيل ولا تؤدي إلى تهديد الحدود المصرية.
وشدد على أن مصر تدرك أن هناك محاولات إسرائيلية لجرها إلى الصراع الدائر الآن، وتتعامل وفق خبراتها السابقة في التعامل مع القادة الإسرائيليين، تحديداً من ينتمون إلى اليمين المتطرف، وهو ما يجعل هناك حسماً مصرياً في الرد على التحريض الإسرائيلي المستمر، ولكن في الوقت ذاته فإن القاهرة تؤكد على ضرورة منح الحلول السياسية والمفاوضات الفرصة كاملة قبل بعثرة الأوراق بشكل كامل في المنطقة.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن "التلويح بتعليق اتفاقية كامب ديفيد وليس إلغاءها بشكل كامل حدث بالفعل"، لكن هناك تيار متطرف في إسرائيل لا يولي اعتباراً لتلك التهديدات، كما أن نتنياهو لديه رغبة في تأزيم الموقف سياسياً مع مصر، لأن ذلك سيقود لتوسيع نطاق الصراع بالمنطقة، وهو ما يخدم مصالحه في ظل مساعيه الحثيثة لعدم وقف الحرب وإطالة أمدها أكبر فترة زمنية ممكنة للإفلات من العقاب، والقاهرة تضع في اعتباراتها كل هذه الألاعيب، وهو ما يجعلها حذرة في تصريحاتها، ودائماً ما تبقى كرد فعل للتصعيد الإسرائيلي.
واعترف المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد أن هناك "توتراً" في العلاقات بين مصر وإسرائيل، بعدما أكدت القاهرة رفضها القاطع لعملية عسكرية برية إسرائيلية محتملة في رفح بجنوب قطاع غزة.
أضاف أبو زيد في مقابلة تلفزيونية أن القاهرة "مستعدة لأي سيناريو ولديها العديد من الأوراق التي تستخدمها عندما يحين وقتها"، كما تابع بقوله "لسنا بصدد الدخول في حروب كلامية مع مسؤولين إسرائيليين، ونركز حالياً على الوصول لوقف لإطلاق النار".
وانتقد المتحدث باسم الخارجية المصرية تصريحات منسوبة لوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، اتهم فيها القاهرة بأنها "تتحمل مسؤولية كبيرة" عما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقال "الحديث عن مسؤولية مصر في 7 أكتوبر هراء وسعي لتحميلنا الفشل"، مشيراً إلى أن الحكومة الإسرائيلية "مسؤولة عن أي تصريحات تصدر عن أعضائها".
وأضاف "الحكومة الإسرائيلية بها عناصر متطرفة للغاية تصدر تصريحات غير مسؤولة.. ليست مجرد تصريحات غير مسؤولة وإنما تحريضية ومشينة".3
تعليق اتفاقية السلام.. اجتياح مدينة رفح
نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، السبت الماضي، عن مسؤولين مصريين قولهم إن القاهرة حذرت إسرائيل من أن أي عملية برية في رفح ستؤدي إلى تعليق فوري لاتفاقية السلام.
لكن وزير الخارجية المصري سامح شكري قال الإثنين رداً على سؤال بهذا الشأن إن بلاده تحافظ دائماً على التزاماتها "ما دام الأمر متبادلاً"، مشدداً على أن القاهرة ظلت تتعامل بفاعلية مع هذه الاتفاقية.
وأضاف أن اتفاقية السلام بين البلدين كانت سارية على مدار الأربعين عاماً السابقة "وسوف نستمر في هذا الأمر، في هذه الحقبة، وأي تعليقات نطق بها بعض الأفراد بشأن هذا الأمر، ربما تكون قد شوهت".
وأوضح مصدر عسكري، إن مسألة تعليق اتفاق السلام لديها حسابات عديدة، لأن القاهرة ستكون قد وصلت إلى قمة مواقفها التصعيدية على المستوى السياسي ضد الاحتلال، وقد تخسر كثيراً من الدعم الدولي الذي تحتاجه في الوقت الحالي، وهو ما يجعلها تنخرط بكل ثقلها نحو الوصول إلى تفاهمات سياسية، من شأنها ألا يتعرض الأمن القومي المصري للضرر، وبما يضمن تأمين المدنيين في رفح حال أصرت إسرائيل على الاجتياح.
وأشار إلى أن القاهرة قد تضطر إلى تعليق التزاماتها باتفاقية السلام لفترة مؤقتة، بما يتماشى مع الخرق الإسرائيلي، وفي تلك الحالة فإن القانون الدولي يسمح لها بذلك، وأن البرتوكول الأمني قد يكون الأكثر تهديداً في حال تجاوزت إسرائيل الحدود، بمعنى أنها دفعت الفلسطينيين إلى سيناء أو قامت بعمليات عسكرية بمحور فيلادلفيا دون التشاور مع مصر.
ويضيف أن مصر لديها خطة تقوم على ضرورة تبريد الصراع في الوقت الحالي من خلال الوصول إلى هدنة مؤقتة، بما يسمح لمزيد من التشاور والتفاهم مع إسرائيل بشأن خططها في رفح، وأن القاهرة ترفض سياسة ليّ الذراع التي تحاول الحكومة الحالية فرضها على الجميع، وهو ما يفسر الخطابات التصعيدية التي خرجت بين الحين والآخر، وفي تلك الحالة فإن كافة الاحتمالات ستبقى مفتوحة للتعامل مع الغطرسة الإسرائيلية.
وخاضت إسرائيل ومصر خمس حروب قبل التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، وهي معاهدة سلام تاريخية توسطت فيها الولايات المتحدة، أثناء عهد الرئيس جيمي كارتر أواخر السبعينيات.
الفصل بين العلاقات المتوترة بين مصر وإسرائيل وبين محاولات الوصول إلى هدنة
ونفت مصر مراراً عبر بيانات للهيئة العامة للاستعلامات، التابعة لرئاسة الجمهورية، وكذا وزارة الخارجية، وجود أي تنسيق أمني بين مصر وإسرائيل بشأن العمليات العسكرية الدائرة حالياً داخل قطاع غزة، وتحديداً في محور فيلادلفيا أو في تلك المناطق الموجودة على الشريط الحدودي بين مصر وإسرائيل، والمشار إليه في الملاحق الأمنية لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل بالمنطقة "د".
وعقد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، ورئيس المخابرات الإسرائيلية (الموساد) ديفيد برنيع، ورئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني اجتماعاً مع مسؤولين مصريين في القاهرة، الثلاثاء، لبحث عملية التهدئة في قطاع غزة.
واستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الثلاثاء، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وأكد على استمرار التشاور والتنسيق المكثف حول الأوضاع في غزة لتحقيق أهداف وقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتفعيل حل الدولتين، بما يعزز جهود إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة.
وأشار مصدر على اطلاع بما يدور في المباحثات، إلى أن مباحثات القاهرة جاءت بدعوة مصرية لاستكمال المفاوضات التي انطلقت في باريس قبل نهاية الشهر الماضي، ورغم أن حماس وإسرائيل رفضتا ما جاء في الاجتماع الأول من بنود تتعلق بالهدنة، فإن مصر وبتأييد من الولايات المتحدة تحاول أن تقنع حماس بالموافقة على هدنة قد تصل إلى ستة أسابيع، مقابل الإفراج عن دفعة من الرهائن إليها، وأن ذلك المقترح حظي بموافقة أمريكية.
وأوضح أن القاهرة أدركت أن إسرائيل لديها رغبة في اقتحام رفح لا محالة، وتعمل على تصدير الحلول السياسية التي تحد من وطأة النتائج المترتبة على هذا الاجتياح، وتوظف الضغط الأمريكي على إسرائيل لحضور الاجتماع، من أجل منح فرصة لأن تتوقف الحرب ولو لفترة مؤقتة، وفي المقابل فإنها تجري اتصالات مع أطراف لديها قدرة التأثير على حماس، لإقناعها بأن عدم الموافقة يعني أن الحركة والمدنيين سيواجهون مصيراً صعباً، وأنه لا مجال سوى بتقديم مزيد من التنازلات للضغط على الاحتلال.
وشدد على أن لهجة التهدئة التي استخدمها وزير الخارجية بشأن اتفاق السلام، هدفت إلى خلق أجواء إيجابية تساعد على نجاح مفاوضات الهدنة، وأن التصريحات العدائية التي صدرت من وزير المالية الإسرائيلي المتطرف هي من دفعت القاهرة للمسارعة للرد عليها من خلال المتحدث باسم وزارة الخارجية، لكن هناك قناعة بأنه يمكن الفصل بين مسار العلاقات المتوترة بين مصر وإسرائيل وبين محاولات الوصول إلى هدنة مؤقتة تؤجل اجتياح رفح.