الجدال ما هو إلا محض صفة تنتزع نزعاً من خلجات البعض، صفة تدل على المقاومة وعدم الاستكانة، تشير إلى صراع ضمني مقيت، لا ينتهي إلا بملل أو يأس، صفة شرها يقتل، وخيرها يُنَمي، في بداياتها تشعر بالراحة، أما نهايتها فتشعر بالضجر والحجر، حجر القلب، الذي لا يلين أبداً إلا بعد معافرة وقتال أبدي بين هوى النفس والخير.
الأجيال الصاعدة تحمل تلك الصفة التي تزداد بين نفوسهم يوماً بعد يوم، جدال بلا قيمة، يوجه نحو ما هو سيئ مقارنة بما هو جيد، فالقلوب التي تربت على تلك الصفات لا تستطيع أن تخضع لأي شيء، مهما كان ذلك الشيء صالحاً أو نافعاً.
لا أخفيكم، الجدال سلاح ذو حدين، لكن حده الأشر أطغى، فإنه يقتل صاحبه سريعاً، ويخدشه خدشاً لا يصلح بعده علاج، فينقلب خاسراً مخزياً لا يفيق إلى بعد ما فقد كل ما يملك من صفاتٍ حسنة، فالجدال بداية الكِبر، والبعد عن الخير إلا إذا كانت العقول والقلوب واعية فيما تستخدمه وتتحكم به كالدمية.
الخير في الجدال يحتاج لقوة روحية تطغى عليه لا العكس، فالجدال إذا وجهت طاقته وعزيمته لما يفيد وينفع وينتج جيلاً مجداً نامياً لأوطانه وأمته سيحقق ما لم تحققه أي صفة أخرى، لكنه يحتاج لعقلٍ واعٍ، يفهم ما يليق بالإنسان فعله بصفاته الدفينة داخله.
أما من يستخدم تلك الصفة وأمثالها إلى شر الأمور، كعقوق الوالدين، أو العزم على الاستمرار في طريق فاشل دون تغير طريقة التفكير المستميتة، أو الإصرار على الإضرار بمن حوله بمجرد أنه يريد أن يرضي هواه ولا يستطيع إمساكها عند حدها، فهذا لا ينتظر إلا الهلاك، فالهلاك في هذه الحالة أصبح ملازماً له، ولن يتركه إلا لأمر واحد، عندما تنتقل روحه إلى بارئها.
فالجدال صفة إنسانية محضة يتميز بها الإنسان دوناً عن جميع الخلائق، فقد قال تعالى: (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) – (آية 54، سورة الكهف)، فالجدال يحتاج لترويض عنيف، ترويض يقلله لا يضعفه، يستخدم عند الحاجة المثلى، عند مقاومة التعب للوصول لمراتب عليا من النجاح، لا عند كل ما هب ودَب من أمور الحياة، فضوابطه واجبة، تجعل الإنسان متزناً في أمور حياته، يفكر بروية وذكاء، ولا يَنْجر إلى ما يرضيه فقط، فالجدال في معظم الأحيان يكون من ألاعيب الهوى ووساوس الشياطين، فالهوى والشياطين كلاهما يجمعهما هدف واحد، وهو إيهام الإنسان أن ما يفعله هو الصحيح المريح، لكن ليس كل ما هو مريح يجعلك تستريح، فبعض الراحة تخسف بصاحبها الأرض، وتجعله بين الأراذل، قال ابن قيم الجوزية: (قد أجمع عقلاء كل أمة على أنّ النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأنّ من آثر الراحة فاتته الراحة)، فالراحة الكاملة في هذه الدنيا ما هي إلا.. خيال!
فمقاومة الإنسان لما يحبه يوصله إلى الصلاح والبعد عن المفاسد، فلقد خسر من ظن أنه سيرتاح بمحض فعله لأشياء ترضي هواه، وتجعلها أكثر تكبراً وطغيناً، فالجدال يروي النفس بمياه عكرة إذا لم يكن بضوابط شديدة، فإن فات الأوان يستحوذ الفساد على كل ما هو خير في تلك النفس، ولا يستطيع هذا الآدمي أن يخرج من المعضلة التي أوقع نفسه فيها إلا بشق الأنفس.
فلمَ كل تلك المعاناة؟! ونحن نمتلك الخيار الأسهل، وهو مقت كل صفة سيئة بداخلنا، وتنمية الصفات الحسنة يوماً بعد يوم، برفق دون ضغط، فالأشياء تدرك بالعمل بلين، فخطوات صغيرة توصل لخطوات كبيرة تغير ما لم يكن متصوراً أن يتغير، فالمعجزات تكمن داخلنا، فلنجعلها تخرج للنور؛ لتقضي على ما أظلم عالمنا، وتضيئه ببعض الأمل الذي غطاه اليأس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.