انتهت مفاوضات سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان التي استمرت على فترات متباعدة خلال الأربعة أشهر الماضية بالفشل، وسط تصعيد دبلوماسي في التصريحات بين البلدين يشي بوجود أدوات وأوراق أخرى يمكن الكشف عنها خلال الفترة المقبلة، تحديداً قبل بدء الملء الخامس لخزان السد مطلع الصيف المقبل.
هذا هو ما دفع "عربي بوست" لطرح تساؤلات حول الخيارات التي يمكن استخدامها من جانب القاهرة التي تؤكد في كل مرة تفشل فيها المفاوضات أن جميع الوسائل مطروحة للدفاع عن أمنها المائي والقومي، لكن دون وجود مسار جديد تقوم به في الواقع.
مسؤول حكومي له علاقة بدوائر صنع القرار الدبلوماسي والعسكري، كشف الخطوات التي ستتبعها القاهرة بعد فشل المفاوضات الأخيرة. فبعد تقديم تقرير شامل إلى رأس الدولة بأسباب فشل المفاوضات، يجري تجهيز ملف لتقديمه إلى مجلس الأمن الدولي، وهو ما بدأت فيه بالفعل وزارة الخارجية، يتضمن الأخطار التي قد يتسبب فيها السد على حياة ملايين المواطنين وإعلامه بانتهاء المدة التي حددها قبل سنتين للوصول إلى اتفاق ملزم من خلال الاتحاد الأفريقي خلال ستة أشهر.
المصدر ذاته أكد أن هناك حراكاً آخر ستقوده دوائر استخباراتية مصرية سيتطرق إلى تأثيرات ملف سد النهضة على تماسك الدولة المصرية وقدرتها على التعامل مع جملة من التحديات المحيطة بها في غزة وليبيا والسودان وعلى سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، وما لذلك من تأثيرات سلبية على حلفائها في المنطقة، وكذلك على حلفائها الغربيين لاتخاذ مواقف ضاغطة على إثيوبيا تستهدف تحديداً تحجيم خططها المستقبلية لبناء مزيد من السدود، ونهاية بوجود نقاشات حول الآليات الخشنة التي يمكن الارتكان إليها دون أن يؤدي ذلك إلى تعرض السودان أو السد العالي في مصر للخطر.
ولا يتعلق الأمر بسد النهضة فقط، ولكن تسعى القاهرة إلى عملية كبح جماح أديس أبابا في إمكانية تكرار تجربة سد النهضة مع سدود أخرى وفرض الأمر الواقع من جديد.
فشل المفاوضات ليس نهاية المطاف
وقال بيان صادر عن وزارة الري المصرية الثلاثاء 20 ديسمبر كانون الأول إن الاجتماع الأخير الذي انعقد في أديس أبابا "لم يسفر عن أية نتيجة نظراً لاستمرار ذات المواقف الإثيوبية الرافضة عبر السنوات الماضية للأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث"، وأنه بات واضحاً عزم الجانب الإثيوبي على الاستمرار في استغلال الغطاء التفاوضي لتكريس الأمر الواقع على الأرض، والتفاوض بغرض استخلاص صك موافقة من دولتي المصب على التحكم الإثيوبي المطلق في النيل الأزرق بمعزل عن القانون الدولي.
وأشار البيان إلى أنه "على ضوء هذه المواقف الإثيوبية تكون المسارات التفاوضية قد انتهت"، وأكدت مصر أنها "سوف تراقب عن كثب عملية ملء وتشغيل سد النهضة، وأن مصر تحتفظ بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية للدفاع عن أمنها المائي والقومي في حالة تعرضه للضرر".
لكن مصدر دبلوماسي مصري مطلع على سير المفاوضات، اعتبر أن فشل المفاوضات الأخيرة ليس نهاية المطاف، ولا يمكن القول بأنه جرى طي المفاوضات للأبد، وهناك أبواب أخرى سوف تطرقها القاهرة خلال الفترة المقبلة بينها اللجوء إلى مجلس الأمن، والبحث عن سبل تفاهم مع أطراف إقليمية ودولية تقتنع القاهرة بأنها تساند إثيوبيا في موقفها الحالي، وفي كل الأحوال لا يمكن إهمال الحقوق المائية المصرية والسودانية، لكن يصعب الحديث في هذا التوقيت عن إغلاق تام لملف المفاوضات.
وأضاف أن الجهود الدبلوماسية لن تتوقف خلال الفترة المقبلة، وإن كانت القاهرة لديها خيبة أمل من مواقف شركائها في الإقليم سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو العربي، وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه لن يبقى أمام القاهرة سواء الاعتماد على حلولها الذاتية، غير أن ذلك يبقى مستبعداً بشكل كامل في هذا التوقيت، تحديداً مع استمرار الصراع الحالي في السودان.
تنحية الخيارات الخشنة
فيما مصدر عسكري على علاقة بالملف أوضح أن حالة الرخاوة الأمنية في إقليم الشرق المتوسط وتواجد الأساطيل الأجنبية ووجود مخاوف من الزج بالقاهرة في حروب قد لا تتحملها جراء الأزمات الاقتصادية الصعبة يجعل هناك أبعاداً استراتيجية تنحي الخيارات الخشنة، خاصة أن مصر لم تستخدم بعد كافة أوراقها الدبلوماسية التي يمكن التحرك من خلالها وفقاً لمعادلات الأمن الجديدة في الإقليم والتي فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وعُقدت الجولة الرابعة من المفاوضات بين 17 و19 ديسمبر/كانون الأول الحالي في العاصمة الإثيوبية، لكنّها وصلت إلى طريق مسدود، بناء على اتفاق سابق بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، في 13 يوليو/تموز الماضي تضمن "الانتهاء خلال 4 أشهر من صياغة اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد".
ومنذ 2011، تتفاوض مصر والسودان وإثيوبيا للوصول إلى اتفاق بشأن ملء سد النهضة وتشغيله، إلا أن جولات طويلة من التفاوض بين الدول الثلاث لم تثمر حتى الآن عن اتفاق.
ودشنت إثيوبيا رسمياً في فبراير/شباط 2022 إنتاج الكهرباء من السد الذي تُقدّمه على أنّه من بين الأكبر في أفريقيا، وفي العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد نجاح مرحلة رابعة من ملء خزان السد بالمياه، وهو ما اعتبرته القاهرة "انتهاكاً جديداً من أديس أبابا وعبئاً على المفاوضات"، وتقدر قيمة المشروع بنحو 4 مليارات دولار ويهدف إلى بناء أكبر سد لإنتاج الطاقة الكهرومائية في أفريقيا.
سدود أخرى
وأكد مصدر مطلع بوزارة الري والموارد المائية المصرية، أن الخلافات التي وقعت خلال الاجتماع الأخير كانت متوقعة، وكذلك فشل المفاوضات كان متوقعاً أيضاً؛ لأن الوفود الفنية دخلت الاجتماع وهي تقنع بأن الهوة تتسع بين الطموحات السياسية لكلا البلدين، إذ إن مصر تصر على اتفاق قانوني ملزم للملء والتشغيل، لكن أديس أبابا تذهب إلى أبعد من ذلك ولديها مشروعات مستقبلية لإنشاء سدود أخرى تسعى لأن تنفذها بنفس صيغة بناء سد النهضة، وترى أن مصر طالما قبلت بوجود سدها الأول فإنها لا يجب أن تمانع للقبول بسدود أخرى.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن المفاوضين الإثيوبيين بدا عليهم الارتياح الكبير خلال المفاوضات بعد أن أدركت أديس أبابا بأن الوضع أضحى لصالحها بنسبة 100% وبعد أن استغلت الخطأ المصري السابق بالتوقيع على اتفاق المبادئ قبل البدء في المفاوضات، واعتبرت أن ذلك اعتراف مصري بالسد.
وأشار إلى أن الخطوات التي ستقدم عليها وزارة الري في الوقت الحالي سبق تكرارها مرتين أو ثلاث مرات من قبل، إذ إنها تعد تقريراً شاملاً لعرضه على الرئيس الذي من جانبه سيقرر ما سيتم اتخاذه، وعلى الأرجح أن تتدخل الدبلوماسية الرئاسية مجدداً وبالتزامن معها سيتم تجهيز ملف شامل لتقديمه إلى مجلس الأمن.
ولفت إلى تلك الخطوات ترتبط بالبند العاشر من اتفاق المبادئ الموقع في العام 2015، لكن هذه المرة لن تذهب مصر للبحث عن وسيط دولي آخر لإجراء جولات تفاوض أخرى؛ لأن إثيوبيا ترفض دخول أي أطراف وسيطة باستثناء الاتحاد الأفريقي الذي تسيطر عليه، إلى جانب أن الوقت قد فات وقد يتم الاستقرار على وسيط جديد وندخل في مباحثات أخرى ثم تتهرب إثيوبيا من التوقيع مثلما حدث ذلك في عام 2020، وهو ما دفع للتأكيد من خلال بيان وزارة الري على أن باب التفاوض مع أديس أبابا قد انتهى.
سد النهضة.. استهداف جزئي
واتهم وزير الري المصري هاني سويلم، إثيوبيا بتغيير الصياغات أثناء التفاوض، قائلاً في تصريحات إعلامية: "نحن نتفاوض على سد وحيد اسمه سد النهضة من جهة الملء والتخزين وفوجئنا بالزج بمواضيع أخرى مثل المشروعات المستقبلية والتنمية المستقبلية وأمور تم الزج بها في الغرف المغلقة غير مقبولة من الجانب المصري"، لافتاً إلى أنه تم تغيير الأرقام التي تؤمن الأمن المائي المصري في حالة الجفاف، وهو أمر لم يكُن مقبولاً لأننا كوفد تفاوضي مكلفون من قبل الدولة المصرية بحماية حقوق المصريين ولا نستطيع التنازل عن متر واحد مكعب من المياه.
ونوه إلى زج الجانب الإثيوبي ببعض النصوص التي لا تعني الكثير ولا تعطي الهدف المطلوب من تلك النصوص كونها مطاطة غير ملزمة بشكل ما لهم، قائلاً: "وضع بعض النقاط التي تمنح للجانب الإثيوبي الحق في تغيير الأرقام مستقبلياً بشكل منفرد كان مرفوض شكلاً وموضوعاً".
وقال مصدر دبلوماسي على صلة وثيقة بمباحثات ملف سد النهضة، إن البيان الصادر عن وزارة الري والذي أتبعه تأكيد حكومي على أنه يمثل ردة فعل الدولة المصرية على فشل المفاوضات يحمل صيغة تهديد تتماشى مع حق الدفاع عن النفس الذي اتخذته إسرائيل ذريعة لشن حرب عبثية على قطاع غزة، وكذلك ارتكنت عليه روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وهو ما يجعل مصر تسير على نفس هذا الشعار أسوة بما حدث في غزة وأوكرانيا.
اللافت أن الدبلوماسي يؤكد أن القاهرة – عكس المتوقع وما يتم تداوله بأنها لن تلجأ للخيار العسكري – فهي جادة في تهديداتها هذه المرة، رغم اطمئنان إثيوبيا أنها استطاعت ملء 42 مليار متر مكعب من المياه، وبالتالي فإن مصر لن تتمكن من ضرب السد؛ لأنه سيؤدي لغرق السودان وجزء من السد العالي، وهو أمر يحمل مبالغات عديدة لكن في كل الحالات فإن النقاش يتصاعد داخل دوائر أمنية في مصر خلال الفترة المقبلة بشأن إمكانية توجيه استهداف جزئي يؤدي لخروج بضعة مليارات من المياه أو عبر استهداف التوربينات نفسها أو التعامل المباشر مع أي سدود جديدة تنوي إثيوبيا بناءها في المستقبل.
وذكر لـ"عربي بوست" أن مصر خلال المفاوضات المنتهية حاولت تجاوز مسألة التنسيق بشأن الملء، بعد أن اكتمل تقريباً ولم يبقَ سوى ملء خامس أو سادس أخيرين، وذهبت باتجاه ضمان تشغيل 13 توربين من المتوقع أن تركبها إثيوبيا في السد لضمان تدفق المياه إلى مصر دون توقف تشغيلها تحت أي مبرر، سواء كان التحجج بوجود أعطال فنية أو في حال كان لإثيوبيا رغبة في أن تحجز كميات من المياه في سنوات الجفاف، إلا أن الجانب الإثيوبي رفض ذلك بشكل تام، وطالب بأن يكون ذلك مقابل اعتراف مصر ببناء إثيوبيا سدود أخرى وإعادة تقسيم مياه النيل الأزرق.
سوء فهم إثيوبي لقوانين الأنهار
وردت إثيوبيا على الاتهامات المصرية في بيان رسمي قالت فيه إنه "خلال المفاوضات حافظت مصر على عقلية الحقبة الاستعمارية وأقامت الحواجز أمام الجهود الرامية إلى التقارب"، وأن المباحثات ساعدت الدول الثلاث على إجراء مناقشات متعمقة حول القضايا الرئيسية محل الخلاف، وخلال هذه الجولات الأربع، سعت إثيوبيا وتعاونت بشدة مع البلدين لمعالجة قضايا الخلاف الرئيسية والتوصل إلى اتفاق ودي.
وأكدت إثيوبيا أنها ستواصل استخدام مواردها المائية لتلبية احتياجات الأجيال الحالية والمقبلة على أساس مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، ويوفر اتفاق إعلان المبادئ لعام 2015 الذي وقعته الدول الثلاث الأساس لهذه المفاوضات، وعلاوة على ذلك، قام الاتحاد الأفريقي، الذي لا يزال الأمر قيد نظره منذ عام 2020، بتيسير منصة توفر للدول الثلاث فرصة لتبادل وجهات النظر من أجل التوصل إلى حل ودي".
وشدد مصدر دبلوماسي مصري على أن هناك سوء فهم إثيوبياً لقوانين الأنهار العابرة للحدود والتي تنص على الاستخدام المنصف والعادل للمياه، وأن أديس أبابا تفسر هذا النص على أنه يجب تقسيم حصص المياه بين الدول الثلاث، إلا أن الواقع يشير إلى مصطلح الاستخدام العادل الذي يتطرق لمسألة ما إذا كانت هناك موارد أخرى للمياه تصل إلى تلك الدول المطلة على النهر الدولي من عدمه.
فمثلاً إثيوبيا يتواجد بها 12 نهراً بينما مصر لديها نهر واحد فقط، ويصل إثيوبيا 936 مليار متر مكعب من المياه من الأنهار سنوياً، بينما يصل إلى مصر 55 مليار فقط، وهناك بحيرة تانا الطبيعية التي تصل مساحتها إلى 2.156 كيلومتراً مربعاً، إلى جانب ثروة حيوانية هائلة.
وكشف لـ"عربي بوست" أن اللجوء إلى مجلس الأمن هذه المرة يأتي لإعلامه بعدم تحقق ما أصدره من قرارات قبل عامين ومطالبته بأن يكون وسيطاً عبر انتداب لجنة من الخبراء المحكمين لإصدار قرار نهائي تقبل به الدولتان قبل أن تستخدم مصر حق الدفاع عن نفسها.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن "المياه قد تنفد في مصر بحلول عام 2025″ وبأن مناطق في السودان حيث كان النزاع في دارفور مرتبطاً بشكل أساسي بإمدادات المياه، معرضة بشكل متزايد للجفاف بسبب تغير المناخ".
ويتعلق الفصل السابع من "ميثاق الأمم المتحدة"، بما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان.
وتنص المادة 51 على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأمم المتحدة)".
وحسب نص المادة "يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق – من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه".