وجدت العديد من الشركات المصرية نفسها أمام مطالب متزايدة على منتجاتها دون أن تكون لديها القدرات التي تؤهلها لمجاراة الإقبال عليها مع تصاعد دعوات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والدول الداعمة لها.
وهو ما سلط الضوء على أزمات تاريخية تعانيها الصناعة المصرية التي تواجه أزمات عدم القدرة على المنافسة وتعرضها لخسائر فادحة، واضطرار اكثير منها إلى الإغلاق جراء ضعف الدعم الحكومي لها.
إضافة إلى ذلك، هناك جانب آخر يؤثر على صناعة المنتجات المصرية، وهي أزمة البيروقراطية التي تؤثر سلباً على تحول الاقتصاد المصري ليكون قائماً على الإنتاج المحلي.
استيراد المنتجات الجاهزة أكثر توفيراً
يقول صاحب إحدى الشركات التي تزايد الطلب عليها خلال الفترة الماضية، إن كثيراً من المصانع والشركات تعرضت لخسائر عديدة خلال السنوات الماضية، ويرجع ذلك إلى أوضاع مرتبطة بالاقتصاد المصري.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست"، أنَّ تراجع قيمة الجنيه أمام الدولار والاعتماد على استيراد مستلزمات الإنتاج من الخارج، والقرارات الخاطئة التي تسبب فيها البنك المركزي جراء القيود التي فرضها على الاستيراد والتصدير، كانت نتائجها تكدس البضائع في الموانئ.
وقال المصدر إن "شركته تقوم باستيراد الآلات المستخدمة في الصناعة من الخارج، كما أن صيانتها أيضاً تبقى مسؤولية شركات أجنبية وتكلف مبالغ باهظة في ظل تراجع قيمة الجنيه".
وأشار المتحدث إلى أن عدم استجابة الحكومة لكثير من رجال الأعمال الذين طالبوا بوجود تسهيلات على قيمة رسوم الجمارك المفروضة على مدخلات الإنتاج المستوردة من الخارج؛ لزيادة قيمة التنافسية، يفاقم من خسائر كثير من الشركات.
أما بخصوص استيراد المنتجات الجاهزة على البيع، فيقول المتحدث إنها تبقى أكثر توفيراً وتحقيقاً للربح بالنسبة لرجال الأعمال، وإن آلاف المصانع تعرضت للإغلاق خلال العامين الماضيين جراء مشكلات شح العملة وتراجع قيمة الجنيه.
وبالتالي فإن توفير بدائل لجميع المنتجات الأجنبية التي يطالب كثيرون بمقاطعتها يبقى أمراً مستحيلاً في الوقت الحالي، كما أن التوسع في عملية الإنتاج يظل مغامرة غير محسوبة العواقب في حال توقفت الحرب في أي لحظة أو حال تراجع الحديث عن المقاطعة الذي دائماً لا يأخذ فترات طويلة، فإن الشركة ستواجه خسائر فادحة.
وتبقى الشركات المصرية أمام مأزق مجاراة معدلات الزيادة على الطلب والتي تصل إلى 30% حسب مصدر "عربي بوست" الذي توقع أيضاً أن تتزايد خلال الشهر المقبل.
وفي الوقت ذاته يخشى من خسائر مستقبلية جراء توسيع دائرة الصناعة والتوزيع ثم حدوث انتكاسة غير متوقعة تجعله يواجه خسائره بمفرده دون أن تتدخل أي جهات حكومية حتى الآن لدعم المنتجات المحلية.
الصناعة الوطنية مجهولة
ويمكن النظر إلى أزمات الإنتاج المحلي في مصر من خلال إحدى شركات المياه الغازية التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى أكثر من قرن، لكنها لم تحقق أي انتشار إلا مع اندلاع الحرب الأخيرة على قطاع غزة وما صاحبها من دعوات للمقاطعة.
هذا النموذج للإنتاج المحلي المصري يشي بأن الصناعة المصرية- خاصة المنتجات الغذائية والاستهلاكية- تبقى في الظل ولا يعرف أحد عنها شيئاً، إلا في مناسبات المقاطعة.
وتعاني مصر من مشكلات توقف المصانع المحلية التي تتعرض لخسائر فادحة تدفعها إلى الإغلاق أو التوقف، دون أن تجد وزارة التجارة والصناعة المصرية أو أي جهة حكومية أخرى حلاً لها.
وبحسب هيئة التنمية الصناعية، يوجد فى مصر 34383 مصنعاً، بينها 8000 مصنع يخص الصناعات الغذائية والمشروبات، باستثمارات لتلك المصانع تتخطى الـ300 مليار جنيه.
فيما تتراوح إحصاءات المصانع المتعثرة كما يقدرها اتحاد نقابات عمال مصر بـ8222 مصنعاً، أما اتحاد المستثمرين المصريين فيقدرها بـ1500 مصنع فقط وفقاً لآخر إحصاءات نشرها قبل عشر سنوات، فيما يقدر الاتحاد المصري للعمال والفلاحين حجم المصانع المتعثرة بـ4500 مصنع كانت تضم 250 ألف عامل.
عدم الاكثرات بالجودة
وتعبر الأرقام المصرية عن ثقافة الاستهلاك التي تتجه للمنتجات الأجنبية مع ضعف الإنتاج المحلي، ووفقاً لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، ارتفعت قيمة الواردات المصرية من مختلف دول العالم لتصل إلى 94.5 مليار دولار خلال عام 2022 مقابل 89.2 مليار دولار خلال عام 2021 بزيادةٍ قدرها 5.3 مليار دولار، وبنسبة ارتفاعٍ قدرها 5.9%.
محمد سمير، موظف مصري اتخذ قراراً بالمقاطعة في مصر، صرح بأنه يجد صعوبة في الحصول على المنتجات المحلية التي جرى التسويق لها مجاناً على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، مع رغبة كثيرين في مقاطعة شراء المنتجات الأجنبية.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست"، أنه في بعض الأحيان تتوافر منتجات لم يسمع عنها من قبل ويقدم على شرائها لتجربتها، لكنها لا تضاهي جودة المنتجات المستوردة.
وأشار المتحدث إلى أن المشكلة ليست في الجودة التي قد يعتاد عليها مع توالي التجربة، لكن الأكثر في عدم اكتراث الحكومة أو الشركات باستغلال الوضع الحالي لتحسين الجودة والعمل على توسيع انتشارها.
ويلفت إلى أن أصحاب متاجر السلع الغذائية يبحثون عن المنتجات المحلية مع التجار لكنهم لا يجدونها، كما أن المقاطعة قد تؤثر عليهم أيضاً لأن لديهم منتجات سجلت تراجعاً ملحوظاً في معدلات الشراء في مقابل أن هناك كثيراً من البضائع التي لا تتوافر لديهم، وقد يكون ذلك أحد أسباب اتجاه الزبائن إلى محال تجارية أخرى بحثاً عنها.
وأشار مصدر "عربي بوست" إلى أن القيام بحملات تسويقية واسعة إلى جانب تقديم حوافز جديدة للإنتاج المحلي في تلك الفترة، من الممكن أن يساهم في تحقيق الأثر المرجو من المقاطعة.
ويضيف قائلاً: إن "الجهود الفردية ساهمت في تعريف المواطنين بالمنتجات المحلية، ويمكن القول إن التطبيق الذي تم تدشينه مع بداية المقاطعة ويستهدف التعرف على ما إذا كانت المنتجات تابعة لمنتجات المقاطعة أم لا، لعب دوراً مهماً في تشكيل وعي المواطنين".
حملة المقاطعة في مصر
تصدرت إحدى الصفحات في فيسبوك والتي تحمل اسم "صنع في مصر"، الدعوة إلى استهلاك المنتج المحلي، وقد أوضحت الصفحة مع بداية الدعوة إلى حملة المقاطعة، أنّ السلع الأجنبية التي يجب مقاطعتها هي "التي لا تُصنع على أرض مصر".
بينما اعتبرت أن "العلامة التجارية التي تُصنع على أرض مصر مصرية"، ورغم أن الصفحة أُنشئت منذ فترة، ولم تكن مخصصة لغرض المقاطعة، فإنها مع تصاعد الحرب في غزة أصبحت منشوراتها موجهة إلى فكرة الدعوة إلى عدم شراء المنتجات الأجنبية، لا سيما تلك التي تنتجها شركات تدعم إسرائيل.
وكذلك انتشر على نطاق واسع، تطبيق "قضيتي" الذي أصبح قبلة للمقاطعين على مدار الأيام الماضية، باعتباره دليلاً شاملاً على المنتجات التي يجب الامتناع عن تناولها باعتبارها تخرج من بلاد تدعم الكيان الإسرائيلي.
إلى جانب تصحيح بعض المعلومات غير الدقيقة عن منتجات المقاطعة، وذلك من خلال توجيهه في اتجاه الباركود الخاص بالمنتج، على أن تظهر النتيجة إما بتأكيد أنه تابع للمقاطعة سواء لكونه تابعاً لكيان الاحتلال والدول التي تدعم قصف غزة أو عكس ذلك.
ويوضح خبير اقتصادي بوزارة التنمية المحلية لـ"عربي بوست"، أن تحقيق نتائج إيجابية من وراء حملات المقاطعة التي تأخذ في التصاعد بصورة كبيرة، يتوقف على وجود منتج محلي قوي لديه علامة تجارية تحقق انتشاراً على نطاق واسع محلياً وعربياً.
هذا الأمر يعاني منه عدد كبير من المنتجات المحلية التي تتأثر سلباً بالأجواء التي تحيط بعملية الإنتاج سواء في ما يتعلق بالبيروقراطية القاتلة أو زيادة معدلات الضرائب وارتفاع قيمة الخدمات التي يدفعها أصحاب المصانع مثل الكهرباء والماء والسولار وغيرها.
ويلفت المتحدث، إلى أن الإنتاج المحلي في مصر يعاني مشكلة تعوق تطوره وترتبط بعدم مجاراة التطورات التكنولوجية والرقمية التي أضحت مهيمنة على الصناعة حول العالم، وما زال هناك كثير من الآلات والمعدات بحاجة إلى تطوير وتحديث، ويبقى الاعتماد عليها لعدم توافر ميزانيات تساعد على مواكبة التطوير.
كما أن غياب الاستراتيجية التي تساعد المستثمرين على تحديد قبلتهم نحو التركيز على المنتجات الغذائية التي تعد الأكثر إقبالاً من المواطنين، يجعل هناك حالة من الارتباك دون توجيه الاستثمار للسلع الرئيسية.
الحاجة لدعم حكومي
ووجّه المصدر ذاته انتقادات لأصحاب المصانع والشركات؛ لعدم وجود سياسات تسويقية متطورة من الممكن أن تروج المنتج المحلي، والارتكان إلى أبجديات ضعف المنافسة والاكتفاء بالوصول إلى قطاعات قليلة من الجمهور تتماشى مع حجم الإنتاج.
وأشار المتحدث، إلى أن توالي الشكاوى من زيادة معدلات تكلفة السلع المحلية بحاجة لدراسة دقيقة، لأن هناك شركات أخرى محلية أيضاً تحقق مكاسب مهمة وتغزو السوقين المحلي والإقليمي أيضاً.
وأدى التفاوت بين الإنتاج المحلي للسلع الغذائية الأساسية والمواد الزراعية الأولية والطلب عليها إلى انخفاض درجة الاكتفاء الذاتي في الدول العربية خلال العام 2021.
وتشير الإحصاءات إلى ارتفاع عجز الفجوة الغذائية بقيمة 2.7 مليار دولار هذا العام، بسبب انخفاض مستويات الإنتاج المحلي وعدم القدرة على تغطية احتياجات الطلب المحلي.
ويذهب الخبير الاقتصادي لتأكيد أن السوق المصرية التي تتخطى 105 ملايين مواطن يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لنجاح دعاوى المقاطعة وإلحاق خسائر فادحة بمنتجات الدول المعادية، لكن ذلك يتطلب دعماً حكومياً للشركات والمصانع المحلية من جانب وتعريفاً أكبر بأهمية المقاطعة وأثرها الإيجابي في التأثير على مراكز صنع القرار الدولية، ودون تحقيق ذلك فإن سلاح المقاطعة قد يكون سلاحاً موجهاً ضد حفنة من التجار الصغار أو بعض العلامات التجارية التي تستعين فقط بأسماء الشركات الدولية.
عدم وجود بدائل محلية
يقول مصدر بشعبة الغذاء التابعة لاتحاد الغرف التجارية في مصر، إن المنتجات الحاملة لأسماء شركات أجنبية شهدت تراجعاً في المبيعات وصل إلى 40% خلال الأسبوعين الماضيين، مع بدء تأثير دعوات المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية.
وأشار المتحدث، إلى أن الشركات المحلية في المقابل حققت معدلات مهمة بشأن زيادة الطلب عليها وصلت إلى أكثر من 33% لبعض المصانع الشهيرة، في حين أن كثيراً منها كان يخطط للإغلاق جراء الخسائر التي تعرضت لها مع تفاقم مشكلات الاقتصاد المصري التي تسببت في حالة ركود كانت هي أول المتضررين منها.
يكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن أكثر من نصف المنتجات الأجنبية ليست لها بدائل محلية، كما أن المنتجات التي لها بدائل ليست بالجودة المطلوبة، فضلاً عن أن كثيراً من مدخلات الإنتاج تأتي من دول محسوبة على المقاطعة.
وتوقع المتحدث أن تستمر بعض المصانع في الاعتماد على تلك المدخلات وتطويرها لتحسين جودة المنتجات المحلية، ويعد ذلك أفضل الحلول لتقليل فاتورة الاستيراد من جانب وإنجاح سلاح المقاطعة من جانب آخر.
وخلال الأيام الماضية بدأت قطاعات حكومية وإنتاجية تنبه إلى وجود فارق بين المنتج الأجنبي الخالص و"الفرانشيز"، وهو الحصول على اسم الشركة الأم من دون التبعية المباشرة لها.
وهناك علامات تجارية لمطاعم عالمية لا تتبع الشركة الأم التي أعلنت دعم إسرائيل إلا بالاسم فقط، ومقاطعتها في مصر ساؤثر على العاملين المصريين في تلك المنتجات بعد تراجع الحصص البيعية لتلك العلامات التجارية داخل السوق المصرية.
وحاولت بعض الشركات تقديم إغراءات للمستهلك مثل تخفيضات على الأجهزة الكهربائية والوجبات الغذائية والمشروبات الغازية والمنظفات ومساحيق الغسيل وكوبونات هدايا خصم في حال شراء بعض المنتجات.
اللافت هو ما قاله النائب البرلماني ياسر عمر بأن المنتجات المحلية التي يتم ترويجها على أنها البديل موجودة في السوق المحلي منذ سنوات ولا تتمتع بإمكانات ولا قدرة إنتاجية تستوعب العمالة التي ستتضرر من تلك الدعوات.
وقال المتحدث إن هذا الأمر أثبت فشله منذ 50 عاماً مضت، وإن دعوات المقاطعة لبعض المنتجات والعلامات التجارية العالمية لها تأثير سلبي على الاقتصاد المصري والاستثمارات الأجنبية المباشرة، فضلاً عن أن المنتجات التي يتم الدعوة إلى مقاطعتها 98%-99% منها عمالة مصرية، وتقوم بتسديد الضرائب للدولة، وتلك الدعوات سينتج عنها انخفاض في المبيعات ومن ثم انخفاض في الضرائب المسددة.
أحدثكم عن اختناقات محتملة في مجموعة من السلع الأساسية وفي مقدمتها صناعة الدواء التي تأتي من فرنسا وحدها خامات تزيد قيمتها عن ربع مليار دولار سنويًا، وما سيتبع ذلك من نقص في مجموعة لا بأس بها من الأدوية وخاصة تلك التي تنتجها شركة سانوفي العملاقة التي بلغت مبيعاتها العام الماضي أربعة مليارات جنيه، ولا يوجد لها بدائل دائمًا وبعضها لأمراض خطيرة مثل تصلب الشرايين.